في إطار مشروعنا المتواصل في الوقوف على أهم المعالم والمحطات التاريخية لأمتنا المجيدة، كان لا بد من الحديث عن شخصية وعصر أغفل دراسته الباحثون، وتغافل عن سيرته القراء من أبناء الأمة، وهو سيرة وعصر الخليفة الراشدي الخامس الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
إن القارئ ليستغرب من ضعف الحديث عن سيرة وأعمال الخليفة الخامس الحسن بن علي في ذاكرة الأمة، كما أنه يتعجب من اختزال فقهه، ومشروعه الإصلاحي العظيم في ثقافتنا. فنهضة الشعوب من عوامل نجاحها الالتفات إلى ماضيها لخدمة حاضرها واستشراف مستقبلها، فالتاريخ ـ كما هو معروف ـ ذاكرة الأمة، ومستودع تجاربها ومعارفها، وهو عقلها الظاهر والباطن وخزانة قيمها ومآثرها، وأساس شخصيتها الغائرة في القدم والممتدة مع الزمن، وله (ص) سيرة لما تستكشف أعماقها، ولخلفائه الراشدين تاريخ حافل عظيم، ولأمته تاريخ يزهو على تاريخ الأمم والشعوب والدول.
الحسن بن علي بن أبي طالب هو حفيد رسول الله وسبطه، وهو الرجل الذي عُرف في تاريخ الأمة بأنه رجل الإصلاح الذي صان عُرى دولة الإسلام وحفظ دماء المسلمين من أن تسفك بتنازله عن الخلافة الراشدة لمعاوية بن أبي سفيان رحمه الله. فلِمَ سُمي بالخليفة الراشدي الخامس؟ وما أدلة تلك التسمية؟ وما مشروعه الإصلاحي الذي أنجزه خلال أشهر حكمه؟
الحسن بن علي: خامس الخلفاء الراشدين:
بويع الحسن بن علي أميرًا للمؤمنين من عامة المسلمين بعد مقتل الإمام علي كرم الله وجهه، وتعد خلافة الحسن بن علي خلافة راشدة حقة، لأن مدته في الحكم كانت تتمة لمدة الخلافة الراشدة التي أخبر النبي (ص) أن مدتها ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً، فقد روى الترمذي بإسناده إلى مولى رسول الله (ص) قال: قال رسول الله (ص): «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك». وقد علق ابنُ كثير على هذا الحديث، فقال: إنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي، فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول في سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله (ص)، فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهذا من دلائل النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليمًا، وبذلك يكون الحسن خامس الخلفاء الراشدين.
وعند الإمام أحمد من حديث سفينة أيضًا بلفظ: «الخلافة ثلاثون سنة ثم يكون بعد ذلك الملك»، وعند أبي داود بلفظ: «خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك من يشاء ـ أو ملكه من يشاء»، ولم يكن في الثلاثين بعده (ص) إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن، وقد قرر جمع من أهل العلم عند شرحهم لقوله (ص): «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة»، أن الأشهر التي تولى فيها الحسن بعد موت أبيه كانت داخلة في خلافة النبوة ومكملة لها، وهذه بعض أقوال أهل العلم:
وكما قال القاضي عياض رحمه الله: لم يكن في الثلاثين سنة إلا الخلفاء الراشدون الأربعة، والأشهر التي بويع فيها الحسن بن علي، والمراد في حديث: الخلافة ثلاثون سنة: خلافة النبوة، فقد جاء مفسراً في بعض الروايات: خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكًا. وقال ابنُ أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية: وكانت خلافة أبي بكر الصديق سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر عشر سنين ونصفاً، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن ستة أشهر.
في حين قال ابن كثير: والدليل على أنه أحد الخلفاء الراشدين الحديث الذي أوردناه في دلائل النبوة من طريق سفينة مولى رسول الله (ص)، قال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة»، وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي.
وذكر ابن حجر الهيثمي: هو آخر الخلفاء الراشدين بنص جده (ص)، ولي الخلافة بعد مقتل أبيه بمبايعة أهل الكوفة فأقام بها ستة أشهر وأياماً، خليفة حق وإمام عدل وصدق تحقيقاً لما أخبر به جده الصادق المصدوق بقوله: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة»، فإن تلك الستة أشهر هي المكملة لتلك الثلاثين، فهذه بعض أقوال أهل العلم في كون الحسن أحد الخلفاء الراشدين. وبالتالي فإن أهل السنة يعتقدون أن خلافة الحسن كانت خلافة حقة، وأنها جزء مكمل لخلافة النبوة التي أخبر النبي (ص) والتي مدتها ثلاثون سنة.
الحسن ومشروعه الإصلاحي:
بويع الحسن رضي الله عنه بيعة عامة، وبايعه الأمراء الذين كانوا مع والده، وكل الناس الذين بايعوا لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وباشر سلطته كخليفة، فرتب العمال وأمّر الأمراء وجند الجنود وفرق العطايا، وزاد المقاتلة في العطاء مئة مئة فاكتسب بذلك رضاءهم، وكان في وسعه أن يخوض حربًا لا هوادة فيها ضد معاوية، وكانت شخصيته الفذة من الناحية السياسة والعسكرية والأخلاقية، والدينية تساعد على ذلك، مع وجود عوامل أخرى، كوجود قيس بن سعد بن عبادة، وحاتم بن عدي الطائي وغيرهم من قادة المسلمين الذين لهم من القدرات القيادية الشيء الكثير.
وكان الحسن رضي الله عنه يملك رؤية إصلاحية واضحة المعالم، خضعت لمراحل، وبواعث، وتغلب على العوائق، وكتبت فيها شروط، وترتبت عليها نتائج، وأصبح هذا الصلح من مفاخر الحسن بن علي رضي الله عنهما على مر العصور وتوالي الأزمان، حتى قال الدكتور خالد الغيث حفظه الله: كان الحسن رضوان الله عليه في صلحه مع معاوية رضي الله عنه، وحقنه لدماء المسلمين، كعثمان في جمعه للقرآن، وكأبي بكر في الردة. ولا أدل على ذلك في كون هذا الفعل من الحسن يعد علمًا من أعلام النبوة، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري من طريق أبي بكرة رضي الله عنه قال: رأيت النبي (ص) على المنبر، والحسن بن علي على جنبه، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين». إن صلح الحسن مع معاوية رضي الله عنه من الأحداث العظام في تاريخ الأمة الإسلامية.
فسيرته من أقوى مصادر الإيمان والعاطفة الإسلامية الصحيحة والفهم السليم لهذا الدين، لذلك نتعلم من سيرته فقه الخلاف، والمصالح والمفاسد، ومقاصد الشريعة، والاستعلاء على حظوظ النفوس، وكيف نعيش مع القران الكريم، ونهتدي بهديه، ونقتدي برسول الله (ص)، ويعمق في قلوبنا فقه القدوم على الله من خلال أقواله وأفعاله، وأثر هذه العلوم في حياة الأمة، ونهوضها وقيامها بدورها الحضاري المنشود.
في الحقيقة إن ما تُعملنا سيرة الحسن بن علي ومنهجه السليم في إدارة شؤون وأحوال الأمة هو أدب الاختلاف والتضحية بالمنصب والمال والنفس والتواضع والحوار للحفاظ على دماء وبلاد المسلمين، وسيرته من أهم الدروس والعِبر التي تعتبر رسالة واضحة لأبناء الأمة المتنازعين على مناصب وأموال والمتخاصمين خصومات لا تغني ولا تسمن في الدنيا والآخرة. وكما تُعلِمنا سيرة الحسن الحالة الطبيعية للانتقال السلمي للسلطة والممارسة السياسية والأمنية والدبلوماسية في تولي أمور المسلمين وأحوالهم.
مراجع الدراسة:
ابن كثير، البداية والنهاية، ج11.
عبد الحميد، خلافة علي بن أبي طالب، 65.
عقيدة أهل السنة في الصحابة، 2/ 748.
علي الصلابي، أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب: شخصيته وعصره، دار التوزيع، القاهرة.
منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين، مخطوطة بالمدينة المنورة، رقم 253.
نعيم بن حماد، الفتن، تح: سمير الزهيري، مكتبة التوحيد، القاهرة.