22 نوفمبر، 2024 9:09 م
Search
Close this search box.

الخلفية السايكو اجتماعية والأقتصادية لأنتفاضة أكتوبر العراقية

الخلفية السايكو اجتماعية والأقتصادية لأنتفاضة أكتوبر العراقية

عمت اغلب محافظات الوسط والجنوب العراقية احتجاجات سلمية عارمة انطلقت بتاريخ 2019ـ10ـ01 مطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية العامة عبر التغير الجذري للنظام, استخدم فيها العنف المفرط وغير المبرر من قبل الأجهزة الأمنية, مما ادى الى عشرات من الشهداء وجرحى تجاوزت اعدادهم الألف جريح, ولازالت الأحتجاجات مستمرة حتى هذه اللحظات, ومما يميزها هذه المرة أنها خرجت عن الأطر الحزبية والتكتيكات السياسية للقوى المساهمة في العملية السياسية وتتمتع بزخم جماهيري ومؤازرة من الداخل والخارج.

لم تكن الأنتفاضة عملا عبثيا او نزهة استعراضية أريد بها أراقة دماء الشباب, بل هي تراكم كمي لمجمل أزمة نطام الحكم المحصصاتي الطائفي والأثني السيئ الذي لم يعمل شيئ ايجابي خلال عقد ونصف من الزمن, بل انه نظام منتج للأزمات واعادة تدوريها انطلاقا من طبيعته المافوية والمؤسسة اصلا على الأستئثار بالسلطة وتقاسمها والمبني على اساس المحاصصة المذهبية السياسية والعرقية المتخلفة التي تشتغل على اضعاف وتفكيك الوطن والمواطنة والأكتفاء في التمترس في الأطر الجغروطائفية والاثنية في فهم مريض منها ان ذلك يكفي لنيل الحقوق والاستئثار بالثروات الوطنية والافساد فيها. أن هذه الأنتفاضة هي تجسيد حي وانعكاس لأزمة الحكم الخانقة والتي لم توفر الحد الأدنى الانساني من الحقوق المشروعة والتي عكستها الحاجة الى الماء والكهرباء والصحة والتعليم الصالح وعدم ايجاد فرص عمل لحملة الشهادات الجامعية والعليا وغيرها من مسلمات ومطالب العيش المعاصر والكريم.

أن تجربة عقد ونصف من الزمن في الاخفاق المزمن للمطاليب العادلة للمنتفضين تعكس بشكل واضح انها ازمة نظام متآكل وليست أزمة تلبية خدمات عامة كان يفترض على النظام تلبيتها في السنوات الأولى من الحكم, أنها أزمة فساد نظام الحكم المتهرئ الذي لا يمتلك أي شرعية للبقاء, وأن شعارات اهلنا في المحافظات التي اندلعت فيها والمطالبة بالحقوق الأساسية ما هي إلا مدخل للمطالبة بتغير النظام المحصصاتي, واهلنا هناك يعرفون تماما فلا كهرباء تأتي ولا ماء صافي سيشرب في ظل نظام معوق وكسيح لا يستطيع تقديم الحد الادنى من مسلمات الحاجات الانسانية, في ظل نظام فاسد لا يتورع عن سرقة لقمة العيش.

أن نظام المحاصصة عرقل خلال عقد ونصف من الزمن جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي, وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد,بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك, أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ,بل تؤسس إلى ” إفساد للتنمية “, وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف, والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع, أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل, وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقه.

أن منظمة هيومن رايتس ووتش والمعنية بحقوق الأنسان تعرض جزء من مأساة الشعب العراقي خلال الأربعة عشر عاما الماضية, والتي من خلالها على الأقل لايمكن القبول بالعملية السياسية وبأحزابها الفاسدة التي اسهمت بتبديد الثروات الطبيعيةة منها والبشرية, وتؤكد المنظمة: أن هناك ثلاثة ملايين وأربعمائة ألف مهجر موزعون على أربع وستين دولة. أربعة ملايين ومائة ألف نازح داخل العراق. مليون وسبعمائة ألف يعيشون في مخيمات مختلفة. خمسة ملايين وستمائة ألف يتيم” تتراوح اعمارهم ما بين شهر و17 عام “. مليونا أرملة” اعمارهن ما بين 15 و25 عاما”. ستة ملايين عراقي لا يجيدون القراءة والكتابة” تتصدرهم البصرة وبغداد والنجف وواسط والأنبار “.بلغت نسبة البطالة 31%” الأنبار والمثنى وديالى وبابل في الصدارة تليها بغداد وكربلاء ونينوى”. 35% من العراقيين تحت خط الفقر” اقل من خمسة دولارات”. 6% معدل تعاطي الحشيش والمواد المخدرة” بغداد في الصدارة تليها البصرة والنجف وديالى وبابل وواسط”. 9% نسبة عمالة الأطفال دون 15 عاما. انتشار 39 مرضا ووباء, أبرزها الكوليرا وشلل الأطفال والكبد الفيروسي وارتفاع نسبة الأصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية. توقف 13 ألف و328 معملا ومصنعا ومؤسسة انتاجية. تراجع مساحة الأراضي المزروعة من 48 مليون دونم الى 12 مليون دونم. استيراد. استيراد 75% من المواد الغذائية و 91% من المواد الأخرى. التعليم الأساسي في أسوأ حالاته: 14 ألف و658 مدرسة, تسعة آلاف منها متضررة, و800 طينية, والحاجة الى 11 ألف مدرسة جديدة. الديون العراقية 124 مليار دولار من 29 دولة. واردات النفط للفترة 2003ـ2014 بلغت ألف مليار دولار, لم تسهم هذه الاموال الطائلة في حل مشكلات الحياة الاساسية, بل ذهب معظمها في عمليات الفساد ونهب المال العام.

أما على المستوى السايكولوجي فأن سياسات الإقصاء والتهميش والمحاصصات وما يرافقها من تدهور مستمر لحياة المواطنين قادرة على حرف حالات المساهمة السياسية من أجل تثبيت النظام” الديمقراطي” إلى حالات عداء سياسي للنظام وأركانه, باعتباره يجسد حالة الاغتراب السياسي بينه وبين المواطن, وهي نتاج طبيعي لحالة عدم الثقة والشك في القيادات السياسية ونواياها, متزامنا ذلك مع اتساع وتعمق دائرة الفئات الاجتماعية المهمشة والتي تقدر بالملايين جراء ظروف العراق التاريخية والحالية, ومن شأن ذلك أن يخلق ما يسمى ” بالفجوات النفسية المدمرة”, حيث تنشأ هذه الفجوات على خلفية الشعور بالإحباط الناتج من التدهور المستديم لظروف العيش الحر والآمن, وهي شروط مواتية ولازمة لخلق وإعادة توليد سلوك العنف والعدوان باعتباره نتيجة للشعور الشديد بالإحباط, وعلى خلفية اتساع الهوة بين النظام والشعب وتعزيز حالة عدم الاكتراث تجري الاستفادة الكاملة من قبل المجاميع السياسية وفلول الإجرام والمرتزقة الغير مؤمنة أصلا بالديمقراطية السياسية للتمترس في النظام السياسي والتأثير على قراراته السياسية, وعلى عدم تغييره,مستغلة الفساد والعبث بالمال العام وسرقته كوسائل سهلة في الإغراء والتمويل وشراء الذمم.

وتعكس انتفاضة اكتوبر العراقية الحالة المتقدمة والأيجابية للتعبير عن حالة الأغتراب بين النظام السياسي والشعب من حيث مطالبها العادلة واساليبها النضالية المتقدمة ودعواها الواضحة في تغيير الأوضاع القائمة عبر فهم الأسباب, والتي تكمن في أسس نظام المحاصصة الطائفية السياسية والأثنية المنتج لعدم الاستقرار والعاجز عن معالجة الأزمات, وأن الدعوى لتغير أسس النظام وبنيته المؤسساتية هي دعوى لتثبيت الديمقراطية بأطرها المعاصرة وفسح المجال للقوى المؤمنة حقا بالديمقراطية والتدوال السلمي للسلطة والخلاص النهائي من افرازات ما أتى به الاحتلال الامريكي بعد سقوط الديكتاتورية.

أن انتفاضة اكتوبر 2019 الحالية هي انتفاضة تغير النظام بعد كل هذه المعاناة وبعد كل هذا التراكم الكمي من الأزمات في ظل نظام عاجز عن الايفاء بمطالب العيش الكريم ولا يمكن للمرء ان يلدغ من جحر مرتين, ولكي تفضي الانتفاضة الى مرتجاها يجب الانتقال من القيادات المناطقية والتجمعات المتفرقة المتباعدة الى القيادة المدنية التنويرية حفاظا على الاىنتفاضة من المنعطفات الصعبة والتي قد تقوم بها السلطة المحصصاتية في شراء الذمم وترويض بعض القيادات غير المتمرسة لأختراق الانتفاضة واسكاتها, كما أن الاحزاب ذات الصبغة المدنية مطالبة اليوم بالتضامن والتكاتف الواضح مع المنتفضين, فتلك هي لحظات حرجة في حياة شعبنا ومختبر للمواقف بعيدا عن ضيق الأفق أو بانتظار صفقات سياسية سيئة لأحتواء الانتفاضة حفاظا على مصالح انانية ضيقة في طريقها الى الزوال السريع. المجد والخلود لشهداء الأنتفاضة الأبطال والنصر المؤزر لشعبنا المناضل في انتزاع حقوقه المشروعة في بناء حياة حرة كريمة نليق بأنسانيته عبر الخلاص الكامل من نظام المحاصصة وبناء دولة المواطنة الحرة الكريمة.

أحدث المقالات