23 ديسمبر، 2024 1:04 ص

الخط السوداني.. تاريخ ينصهر في الكلمات

الخط السوداني.. تاريخ ينصهر في الكلمات

الخط بحر واسعُ من الفنون والثقافات والأمزجة التي لا تكاد تصدق لفرط تنوعها وتداخلها بين حضاراتٍ تمتد بين أكثر من قارة، وكما هنالك العديد من الأنواع المعروفة منه يظل هنالك العديد من الخطوط التي لم نعرفها، فتبدو مثل جواهر تزين الكلمات وتخرجها في أبهى حلة، ومن أجملها هو الخط السوداني وهو أحد الخطوط العربية المتفرعة من الخط المغربي والذي يحمل الكثير من خصائصه، وامتازت أحرفه بغلظتها وبروزها وكثرة الزوايا فيه مقارنةً باستداراته، وكان يكتب به إلى جانب العربية بعض اللغات المحلية ببلاد السودان الغربي أو ما يعرف اليوم بغرب افريقيا، كما عرف بالخط التمبكتي نسبة إلى مدينة (تمبكتو) التي تقع في مالي ذات الأهمية الكبرى ثقافياً وعلمياً على مستوى غرب افريقيا والتي احتضنت الدين الإسلامي كما احتضنت هذا النوع من الخط الذي كان جزءًا من تواصلها معه والذي انتقل بدوره منها إلى النيجر والسنغال، ولازالت تحتفظ تمبكتو إلى حد الآن بالعديد من المخطوطات التي استعمل في كتابتها الخط السوداني، وكان هذا النمط من الخطوط وطريقة كتابة الأحرف يستخدم أيضاً في كتابة لغاتٍ محلية أخرى لها أهميتها مثل لغة الهوسا وهي لغةٌ رئيسية بشكلٍ خاص في النيجر ونيجيريا وغانا ولها حضورها في غرب افريقيا، مما جعل هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) واذاعة (RFI) الفرنسية تطلقان محطتين ناطقتين بها لإستقطاب الجمهور في هذه البقعة الجغرافية الهامة..

والخط السوداني كأي نوعٍ وشكل من أشكال الفنون تطور بمرور الزمن وتأثر منذ ظهوره تقريباً منذ القرن السابع الهجري أو الثالث عشر الميلادي بالحضارة العربية الإسلامية والحضارات الشرقية كما تأثر أيضاً بالخط الإفريقي الغربي ومر بمراحل عديدة تشرب فيها صفات الأرض والشخصية السودانية، فحظي بإهتمامٍ كبير من قبل أسماء وازنة ومحترفة من كبار الخطاطين في السودان وجعلتهم يتسابقون في الباس أحرفه زينةً متجددة ليثبتوا قدرة الخط السوداني على التجدد ومواكبة ما استجد من إمكانات تقنية لخدمة الطباعة والصناعة الثقافية والجمالية في السودان وبقية العالم، فتجربة الخط في السودان تحظى بخصوصية ٍ عالية تختلف عن معظم الدول العربية التي كانت تدرس الأنواع الكلاسيكية المعروفة كالكوفي والثلث وغيرها، والتي جاءت كنتيجةٍ طبيعية لكونه ابن بيئته ولأنه حظي بدعمها خاصةً بعد افتتاح (مدرسة الخرطوم التشكيلية) حسب المراجع المذكورة في عام ١٩٤٥، ولكنها شهدت طفرةً وتطوراً ملحوظاً في السنوات اللاحقة خاصةً في عقدي الخمسينات والستينات اللذين شهدا صعودها وازدهارها، حيث ارتبط الفن بنزعة الإستقلال والحفاظ على الهوية والتحرر من الإستعمار، ولكن بدايتها لم تحمل نزعةً جمالية أو أسلوباً محدداً بل كانت تشمل مختلف المدارس الفنية المعروفة كالإنطباعية والسريالية والتجريدية والواقعية وغيرها، دون أن ننسى وجود مدارس متميزة أخرى محلياً مثل مدرسة (الواحد) التي أسهمت في إحياء ما اندثر من الرؤية الإسلامية للحرف العربي وفلسفته وزخرفته..

ومن رواد فن الخط في السودان أسماء ٌ كثيرة معروفة على صعيد عربي ودولي مثل عثمان وقيع الله والذي سمي ب(شيخ الخطاطين) ويعد رائد مدرسة الخرطوم التشكيلية، وقد حصل على وسام الإنجاز من رئاسة الجمهورية في السودان وإجازة من الخطاط المصري سيد إبراهيم، كما أنجز بخطه المتفرد بعض المصاحف وعدداً كبيراً من اللوحات القرآنية، وهو أستاذ مؤسس لكلية الفنون الجميلة في السودان عام ١٩٥١ م، كما كان أول سوداني يحقق امتيازاً في إجادة الخط العربي على نهج وطرق المدرستين العربية والتركية والمؤسس لأول مرسم حر في السودان، وقد كان بذلك أباً ومعلماً ورائداً لأجيال الخطاطين الموهوبين الذين خدموا فيما بعد في الصحافة والنشر والتربية والتعليم..

ومن الرواد أيضاً إبراهيم الصلحي الذي أدرك القيمة التشكيلية في الفراغات التي تصنعها الحروف بما أسماه (لحم الحرف)، وأحمد محمد شبرين الذي أمسك بتكوين الحروف وتمكن منها فيما أسماه (عظم الحرف) ومن شدة تمكنه ابتدع خطاً حراً حمل اسمه وعرف ب(الخط الشبريني) والذي يتخاطب بحرية كبيرة مع الفراغ وأضفى عليه حياةً وقدراً من العاطفة التي تحرك الإحساس بما يقدمه، وهما من أسس مدرسة الخرطوم التشكيلية وقد قادهم شغفهم بالخط إلى ابتكار ما يعرف بفن (الحروفية) وهو فنٌ يعنى بإستخدام الحرف العربي كمفردة لإنتاج اللوحة التشكيلية، كما تم تأسيس كليةٍ متخصصة في الفنون في بداية الخمسينات من القرن المنصرم في السودان على أيدي مجموعة من المتخصصين عدا عن الكثير من الجهود التي بذلتها لجانٌ ومراكز ثقافية ومبادرات ٌ متعددة إلى جانب وزارة الثقافة والتي كانت تعقد الندوات والمعارض والورش الفنية للإرتقاء بهذا الفن، ولكن تطوره لم يكن بمعزل عن تطور بقية الفنون في السودان بل بالتوازي معها وامتزاجه بها كالشعر والرسم وزخارف المصنوعات الشعبية واستخدام عناصر من مكونات البيئة المحلية وتراثها ودمج بعض الأعمال التشكيلية بفن الخط السوداني والتركيز على حروفه التي اجتذبت محبي الأصالة والثقافة..

وكما اشتهر في التلفزيون الخطاط المشهور أدمون منير الذي كان يميل إلى توظيف الخط الحر في المقدمات البرامجية وأسماء وعناوين برامج التلفزيون المختلفة، وذلك قبل ظهور الحاسبات والبرامج المساعدة، والخطاط والتشكيلي البارز الأستاذ أحمد موسى الشهير ب(الفاضل الأسمر) الذي صمم لافتة (دار الصحافة للطباعة والنشر) وكتب أول مانشيت لها في العام ١٩٦١م، وبجانب مهارته في فن الخط العربي فهو من أمهر فناني الصورة الفنية للوجه (البورتريه)، حيث انتقل إلى مصر واشتهر هناك وظهرت أعماله في الأفلام المصرية القديمة، ورسم كبار الشخصيات العالمية ورؤساء الدول المشهورين آنذاك..

وتطول القائمة مع أسماء انتشرت في مختلف الصحف والمجلات العربية، والتي كان ربط اسمها باللحظات المطبوعة في الذاكرة والواجدان ما يشبه الصدمة الجميلة التي أعادتني سنواتٍ إلى الوراء في طفولةٍ بعيدة عن تقنيات اليوم، وذكرتني بينما أكتب هذه السطور بإنصهار ثقافاتنا وامتزاج تاريخنا وفنوننا وذكرياتنا وحروفنا بشكلٍ مربك يستعصي على النسيان أو التكرار، والذي يؤكد أن الحرف والفن خير رسولٍ للحب بين الأمم وهو ما يعيد ارتباط الشعوب ببعضها خاصةً عندما ترتبط بتاريخ ٍ عشناه وجمعنا قبل أن تفرقنا السياسة كما هو الحال اليوم..