منذ تأسيس الدولة العبرية على الأراضي المحتلة في العام 1948 والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تشن الحروب على البلدان العربية، وتحتل أجزاء من أراضيها، وتتعمد إيذاء طموحاتها في الحياة الحرة الكريمة، وتبتكر الأساليب التي تميز الملة التي إعتاد التاريخ أن يسجل خبثها ومكرها وغدرها بالأمم والشعوب حتى صار ممكنا توقع إنتقام بشري غير مسبوق بالأمة اليهودية بسبب الغلو الذي تظهره الحركات اليهودية في علاقاتها مع بقية الشعوب، وتغلغلها السيء والمحبط والمسيء للمجتمعات في السياسة والإقتصاد، ومع تأسيس إسرائيل، ونشوء الحركة الصهيونية، ومحاولة تكريس الجهود لبناء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وتعمد العزلة، ومحاولة السيطرة على الحكومات الكبرى وإقتصادياتها ووسائل الإعلام المؤثرة في بلدان أوربا وأمريكا أصبح ممكنا رؤية المزيد من المصاعب في مواجهة الشعوب العربية التي فقدت حكوماتها القدرة على تلبية متطلباتها بسبب الدكتاتورية، وتكريس الحكم المطلق، وفشل السياسات الإقتصادية، والدخول في ترهات وحروب جانبية لاطائل من ورائها ماأدى الى ضعف كارثي في قدرة الرد على التخرصات الإسرائيلية.
ظن الغرب والإسرائيليون الذين يعتمدون على دوائر ولوبيات مشكلة في القارة العجوز والولايات المتحدة إن السيطرة على الحكومات العربية وتركيعها، وربط الحكام بالمنظومة العالمية للإقتصاد والسياسة، وتشكيل دول على أساس وجود إقتصادي لتمضية المؤامرات الغربية والصهيونية على العرب سوف يؤدي الى إنهيار كامل في المنظومة العربية، فكانت الحروب التي تشنها إسرائيل بدءا من عدوان 1956 على مصر والحرب العراقية الإيرانية وغزو الكويت، والحصار على العراق، ومحاصرة سوريا ومصر، وتطوير الأساليب القذرة في التآمر، وهي محاولات تستمر وتتكرر والهدف منها القضاء على أي أمل عربي في إستعادة الزمام، والتفكير في تحرير فلسطين والأقصى، ومنع تهويد القدس، ثم نشر الفوضى السياسية وتعطيل حركة الإقتصاد، وإغراق الحكومات العربية في مستنقع الديون، وربطها بالبنك الدولي، وصندوق النقد والمنظمات التي تديرها إسرائيل في الخفاء.
في العام 2011 وكنا على درجة عالية من السذاجة والغباء وقصر النظر، إندلعت ثورات عربية في البلدان الأساسية عدا البلدان المشكلة مع تفجر ينابيع النفط، فكنا نهتف ونرقص دون معرفة بما يحاك لنا، الى أن أدركنا إن القضية إنما تتصل بمؤامرة كبرى، فإسقاط الدكتاتورية يعني بالنسبة لنا الإنتقال نحو الأفضل، بينما كانت واشنطن وإسرائيل والغرب يريدون لنا الفوضى والضياع الكامل، والإستغراق في الحروب الطائفية والأهلية الى أن دخلت المنطقة في مرحلة من الصراع غير مسبوقة مع تزاحم عربي وإقليمي على النفوذ، وظهور الحركات الراديكالية المتطرفة والموغلة في الموت والتكفير والدم والتي جرّت المنطقة الى موت سريري وضياع، وهذا ماجعل إسرائيل تأمل في إستمرار حالة التردي العربي بعد أن أخذت تلك التنظيمات تكفر الناس وتقتلهم وتهجرهم من مدنهم وبيوتهم وتحرقها وتسبي النساء، وتدمر الآثار الحضارية القديمة، وتركز على عواصم حضارية كبغداد والموصل وصنعاء ودمشق وتسرق منها المخطوطات والآثار الثمينة واللقى.
إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن يهودية القدس، وإعتبارها عاصمة أبدية لإسرائيل، وتوجيه الخارجية الامريكية بالشروع بإجراءات نقل السفارة الامريكية من تل أبيب الى القدس، أدى هذا الإعلان الى إشتعال الغضب العربي المسلم، وحتى المسيحي المهدد بقداسة الكنائس العتيقة والعودة الى التفكير النمطي الديني بضرورة فهم طبيعة السلوك الصهيوني الذي يعتمد فكر توراتي متعصب غير تسامحي يمضي الى الأمام في الإبادة والتدمير والهيمنة والسيطرة على كل موضع وصله أنبياء بني إسرائيل، فقد وخز ترامب والمتعصبين معه الجرح العربي والضمير والتاريخ والجغرافيا حين قرروا سلب العرب والمسلمين شرفهم العقائدي، ولم يتبق إلا أن تعلن إسرائيل تدمير المسجد الأقصى، وبناء الهيكل المزعوم في المكان الموهوم توراتيا.
نحن اليوم في مواجهة الحقيقة، وليس من الخيار سوى التنبه الى أهمية ماتسببت به الثورات العربية التي كانت بظنهم في مصلحتهم الى أن ظهر غير ذلك، فقد كان الحكام الطغاة الذين دعمهم الغرب وإنقلب عليهم مجرد أدوات في كبت الشعور القومي والديني الرافض لعقود الدكتاتورية المقيتة، وليظهر جيل من الثوريين والمقاومين والحركات الدينية التي تماهت مع من سبقها من حركات أعلنت وبصراحة أنها يمكن أن تقاتل على حدود فلسطين وتدخلها لأنها لاتشتغل وفق حسابات الحكام الخائفين على كراسيهم ويخشون زوال سلطانهم، ولذلك يحاول الصهاينة الحفاظ على بعض الحكومات التي ماتزال تحكم بعض البلدان العربية بالنار والحديد، وتنمية دور بلدان ظهرت قبل عقود قليلة لتمارس دور التضليل، وإشعال الفتنة، والإستغراق بالطائفية، والتمهيد لبيع فلسطين بالكامل، وإمتصاص الغضب العربي على إعلان القدس عاصمة لإسرائيل.
التصور الذي تبنته المؤسسات الغربية طوال عقود من الزمن تمثل بطرق معالجة الخطر الذي يأتي من الحكام القوميين العرب، ومن الجيوش النظامية، ويؤرق فكرة الوجود الإسرائيلي، ومصالح الغرب.. وعندما أسقطت الحكومات، وفككت الجيوش لم تتحسب لنوع جديد من القوى المسلحة المعبأة عقائديا، والمؤمنة بفكرة زوال إسرائيل.. الحكام العرب كانوا يتعاملون مع إسرائيل بطريقة براغماتية، واليوم ينفلت العقال.