12 أبريل، 2024 5:48 ص
Search
Close this search box.

الخطوة الأرقى نحو الحياة/ من ((كتاب الحسين))عليه السلام

Facebook
Twitter
LinkedIn

حتى وإن كان العالم لؤلؤاً
 حتى وإن بدا ذهباً كلُّ دمع اليتامى
 حتى لو ابيضَّ فضَّةً كلُّ ما في الوجود
 من جوع الأرامل اللواتي يلبسن الليل قلادةً
ويرصِّعنها بصرخات الأبناء الصغار
 حتى وإن كان الحصى المطبوخ
 في قدور تراتيل القوم
 الذين يشبهون الملائكة
 من جهة أنهم يحلِّقون ليلاً
 بأجنحةٍ هي أشبه ما تكون بهمسِ محراب
 حتى لو كان كلُّ هذا وأكثر
 فإنَّ على العاشق أن يدير وجهه للحياة
ما لم تكن مشتقَّةً من كلِّ هذا
 مع زيادةِ أنها مشروعٌ لا يتزعزع
 لولادة الأقمار.
الليلُ يصوِّر أشلائي على أنها أركان الخيال
 أما الخيال نفسه
 فلا أرتاب في أنه السيف المغروز غداً في سويداء الفؤاد
 هذا ما أوحاه لي الليلُ
 إذ كان ينظر إليَّ بكثيرٍ من الحنان
 الذي بدا فائضاً عن حاجةِ الرغبةِ بالموت
 لي ألفةٌ مع الموتِ
 حتى حينما كنت في بطن الغيب
 فالموت كان صديقي جداً
على الرغم من أنَّ مهمَّتي الأولى
 هي أن أجعل الحجر نفسه نابضاً بالحياة.
الحياةُ سرٌّ عميقٌ عميقٌ لا يُسبَر غورُهُ إلا بالمزيد من الموت
الحياةُ لا تأتي مرَّةً واحدةً ولا الموت كذلك
كلاهما يأتي وهو منفتحٌ على المزيد المزيد من تكرارِ نفسِهِ
وكلاهما يأتي وهوعلى أهبةِ الاستعداد لأن ينقلب ضدَّهُ في كلِّ حين
مع أنَّ الموت والحياة كليهما لا ينبثقانِ من العدم
بل ينبثقُ أحدهما من الآخر على وتيرةٍ توحي بأنَّ كليهما في صيرورةٍ دائمة
وقل الشيءَ نفسه عن العشق،
فإنه مولودٌ من ضدِّه لا محالةَ
على أنَّ ضدَّه ليس هو الضدُّ تماماً
بل هو العشق نفسُهُ منظوراً إليه من زاويةٍ أخرى
وهي أنَّ العشق قد يكون حارّاً وساخناً مثل رغيف الخبز
فيكون طعمُهُ ألذَّ وأشهى على هذا الأساس
منذ كان أبي شامخاً في أصلابِ السيوف، ومنذ كان شامخاً أيضاً في أرحام الأنهار، ومنذ كان شامخاً كذلك في ذاكرة الله، كنت أنا في صلبِهِ هوَ حدَّ السيف، وطعمَ النهر، وكنتُ المحيطَ للدائرة التي تتشكَّل منها ذاكرةُ الله، وعلى الرغم من أني لم أكن أشعرُ بالوحشة على الإطلاق، كانت روحي تتشظّى لا لتتبعثر، بل تتشظى لتكون هي الفضاء الذي تسبح فيه الأرواح، هذا ما كنته أنا إذ لم تلدني الدرَّةُ المغروزةُ في قبضة السيف، والجوهرةُ التي تلمع في مقلةِ النهر، والكهرباءُ التي تصعق النسيانَ في ذاكرة الله، على أني الآن لم أفارق كينونةَ الغيب رغم الجسد
الجسدُ نفسه هو السيفُ
 والنهرُ
 وذاكرةُ الله،
 الجسدُ نفسُهُ لا يحاكي الروحَ
 ولا الروحُ تحاكيه كذلك،
 فالجسدُ هو الوجهُ الآخر للروح،
 الوجه الأشدّ صرامةً منها بطبيعةِ الحال
 حتى إذا ما قدَّدته السهام،
 ومزَّقته السيوف،
 وتوغَّلت فيه من الجانبَينِ أسنَّة الرماح
 انقلب الحال فلم يعد هنالكَ من وجهينِ لحقيقة الروح
 بل عاد كلاهما روحاً
تشفُّ عما عليها من قبلاتِ الملاك أوَّلاً،
 ثمَّ من قبلات الإله مباشرةً بعد ذلك.
إنَّني الآنَ سائرٌ نحو حتفٍ   هوَ واللهِ فوقَ سكرِ السُّكارى
أيُّها الموتُ كن ملاذاً لنفسي   كن لها العونَ كي تهدَّ الجدارا
كن لها وفقَ ما تريدُ فإن شاءت     نهاراً فكن لذاكَ نهارا
وكن الليلَ إن تشأ أن تراكَ         الليلَ إمّا توهَّجت أقمارا
إنَّ نفسي عجيبةٌ يا صديقي   كم ترى في مجالِها من حيارى
هي تبدو جميلةً مثل روضٍ   ليس روضاً مناقضاً للصحارى
بل هو الروضُ والصحارى كعشقٍ   ورحيلٍ تحوَّلا قيثارا
اشحذ هذا الليل، فالليل سيفٌ كذلك، سيفٌ لا في قبضة قمرٍ يأفل، بل في قبضة قمرٍ يبقى بازغاً حتى في النهار، هذا هو شرط القمر الذي يكون الليل في قبضة كفِّه سيفاً.
أما أنت أيها النهار، فكن ما شئت، كن خيمةً، كن جرَّة ماءٍ، كن رمحاً معصوباً بالدم، كن أيَّ شيءٍ إلا أن تكون غراباً ينعق، جسدي لا تأكله الطير، جسدي لا يغدو رفاتاً في التراب، جسدي مضيءٌ مضيءٌ حتى وهو تحت طبقات الأرض في جوف البكاء، جسدي صراطٌ بين الأشياء إذ منها ما يكون جحيماً ومنها ما يكون نعيماً وحورَعينٍ في الجنان.
وأنت أيها الطريق الممتدّ مما بين عينيَّ إلى كربلاء، كن شعاعاً أخضر أو أحمر أو أبيض أو أيَّ لونٍ تشاء، لكن لا تكن بصيرة الأعمى، لا تكن سمع الأصمّ الذي يشاء أن يكون حكماً بين ألحان الدماء، لا تكن  ذلك الماء الذي يفور في أكباد السيوف والرماح.
أنت الآن على أهبة الاستعداد لتغدو الرأس المقطوع للشمس، فإياك إياك أن تتخلى عن لحنها الساخن، أو عن رقصها الدافئ، أو عن عناقها الذي يودي بالفتى حين يكون الموت أقصى ما يتمنّاه العاشق، على أنَّ العاشق إذ يتمنى الموت لا يركب إلا فرحه المتوهِّج كالجمر براقاً للحياة
السائر نحو الموت بنفسه
 إما أن يكون قرآناً
 أو أن يكون من لغو الحديث
هذا ما علمتنيه السماوات التي تزدحم في جمجمة الخيال
 وهذا ما أوحى به الربُّ الماثل في قلب الصلاة
 
الآن عليَّ أن أمنح الصحراء بيعتي
 أن أقول لها أنتِ منذ الآن لا جلدي فقط
 بل أنتِ ما تحت الجلد أيضاً
من مكوِّنات اللحم والعظم والدم
 بل إنَّ الصحراء هي المنطقة الفاصلة
 بين الظمأ والماء
 الصحراء ليست هي الظمأ تماماً
الصحراء ظمأٌ لكن شريطة أن تكون ماءً مؤجَّلاً
 في حدقات العيون
 حتى إذا ما اخضرَّ الظمأ بالصحراء ذاتها
 إذ تتحوَّل ماءً في خيال الشعر
 أصبح العالم كله يلوح لي بصفته غيمةً تمطر
 تمطر
 تمطر
 لا تمطر ماءً بالضرورة
 بل قد تمطر دماً أيضاً
 فإذا ما مددت يدك لتغترف منه غرفةً
 تحوَّل في يديك إلى صحراء ثانية
 وراحت تنسج من أفراحنا التي نبعت من أصل الحزن
 خيوطَ الخيام.
الطريق إلى قارة الدم في كربلاء بعيدٌ بعيد
 لا تُقاس المسافةُ بالمسافة
 بل تُقاس المسافةُ بالأشلاء التي تقطعها النواويس
 كلُّ ما في المسافةِ وهمٌ إلا أنتِ أيتها الرماح
 كلُّ ما في المسافة قصيدةٌ صامتةٌ إلا الظمأ
 كلُّ ما في المسافةِ أطلالٌ مهجورةٌ إلا البكاء.
الجِمالُ التي نمتطيها ليست كالجِمال
 فهي تتحدَّث عن مصير الرحلة مثل بني آدم تماماً
 مع فرق النبوءة
 إذ نبوءتها صادقةٌ كحديث الملاك.
ويح الطبقة الأولى من هدير الأرض تحت أقدام الخيل التي بدت نظراتها كما لو أنها فراخ العصافير المذبوحة، حتى إذا ثار نقع الحرب أصابتها سِنة النوم، فصارت لا ترغب بالنوم مجرَّداً من استمرار ركضها نحو زغابات الشمس في كهف الشتات.
ويحَ الشتات إذ لا يكون هو الملاذ الوحيد للأطفال الهاربين من ألسنة النار التي تفتح فكَّيها بسعة الموت لالتهام الأحلام المشحونة بكوابيس اليقظة في أذهان الأقمار التي وقعت في الأسر، فاقتِيدَت إلى السيف والسوط في بلاطٍ يصعدُ ويهبطُ كأرجوحةٍ بالضبط في فضاء القرابين التي علَّقوها على الرماح، فصارت لا تنظر إلا صوب بارئها في أفلاك الفواد.
ويحَ النار، إذ لا تكونُ هي الماء البارد في الصيف الحارّ
ويح الحديد، إذ لا يكونُ هو الكفّ الحانية التي تمسِّد على رؤوس اليتامى بعد عناق الآباء مع الحور العين فوق الرمضاء
ويحَ الرمضاء إن لم تكن هي الحور العين ذاتها، فتبدو في أبهى حلَّةٍ وهي تلثم أفواهَ العشّاق القادمين للتوِّ من رحلة البحث عن زهرات الخلود
ويحَ زهرات الخلود أيضاً، إن لم تصن نفسها هذه المرَّة من مكر الأفعى المتربِّصة في البئر، فلا تنتظر أن يقوم بهذه المهمَّة كلكامش بنفسه، إذ هو مرهقٌ جداً جداً، ولا يأمن على عينَيْهِ أن يستسلما لسلطان النوم تحت وطأةِ النعاس.

صحيحٌ أنَّ النهر بانتظار أن يشرب بعض قطرات الصوت ليسكر
 صحيحٌ أيضاً أنَّ الماء يحسن أن يغرق الفراعنة الكبار على الدوام
 بيدَ أنَّ النهر إذ تحاصره الرماح ينسى كونه ظامئاً للصوت أساساً
 ينسى ذلك
 ويغرق في تسبيح الدماء حتى قبل أن تسيل
 وحتى قبل أن تصبح فيلقاً من الملائكة الكرام
ما يدهشُني أنَّ الماء يمتلك ذاكرةً قصوى لا تستوعب التأريخ الماضي فحسب
 إنَّ له ذاكرةً من طرازٍ آخر
 ذاكرةً تستوعب ما قد يحدث في التأريخ الآتي كذلك
فلا يفضِّل أن يستعجل إغراق الفراعنة العتاة
 في ذاتِ اللحظةِ التي يكون فيها هائماً بالأنبياء
بل قد يؤجِّل هذه الرغبة حتى اشتعال الأرض تماماً بالسماء
أسيرُ إلى أرضٍ تشاكلُ جبهتي على أنَّ تلك الأرض كالأمِّ ثاكلُ
سترضعُني من ثديِها بعضَ ما بها من الشوقِ لكن بعدَها تتساءَلُ
تقولُ أليسَ اللهُ في القلبِ نشوةً لماذا إذن عن نيلِها تتكاسلُ
 أقولُ لها يا أمُّ إنَّ جوارحي جميعاً إذا شئتِ الحقيقةَ خاذِلُ
 على أنَّ روحي في المجالِ حبيسةٌ عليها من العبءِ الثقيلِ سَلاسلُ
 سأحطمُها لكن رويدَكِ ريثما تقابلُني آلافُهم فأقاتلُ
 متى رفعوا رأسي على الرمحِ بيرقاً فرأسي سماواتٌ وذا الرمحُ حاملُ
أسمع الصوت من سدرة المنتهى، أسمعه أحياناً، وأحياناً أراه، قد يكون الصوت أبيضَ أو أسود أو أصفر أو أحمر أو أيّ لونٍ آخر، كما قد يكون بألوانٍ ممتزجةٍ فيما بينها فلا يميِّز المرء لون الكلام بالضبط، الكلام النابع من سدرة المنتهى ليس هو ذا لونٍ من الألوان المحدَّدة بالضبط، هو ما قبل البياض والسواد وما قبل الألوان جميعاً، أي إنَّ لون الكلام الصادر من سدرة المنتهى شبيهٌ جداً بلون الماء، الماء البارد النابع من عينٍ صافيةٍ جداً في الجبال، لولا أنه أكثر منه عذوبةً ونقاءً، ولولا أنه النقطة الأبعد من عيون الماء جميعاً لتكون هي بالضبط المنبع الأوَّل للماء، فيكون منها استمداد الروح للماء، إذ لولاها لبدا الماء الآن ميِّتاً، أو فاقداً لجوهرة الحياة على أيةِ حال.

أيُّها الجسد
 يا بؤبؤَ عينِ اللهِ بالضبط
 كن كتاباً للسيوفِ والرماح
 السيوفُ تُتلى
 والرماحُ تُتلى كذلك
 إذ تكونُ الكلماتُ سيوفاً فهي تُتلى بأجسادِ الأنبياء
 أو بأجسادِ الأولياء
 أو بأجسادِ الفلاسفة الذين ينامون على ظهورهم
 مثل الأنبياءِ والأولياء تماماً
 وإذ تكونُ الكلماتُ رماحاً
فهذا يعني أنَّ الأرض على موعدٍ بأن تكون
 ساريةً للسماء.

السماءُ والأرضُ كلتاهما بنتايَ
 السماءُ والأرضُ كلتاهما ستشبُّ فيهما النار
 وسيندبانِني إذ أكونُ على الصعيدِ نيزكاً
 سيندبانني كثيراً كثيراً
 فيبكيانِ دماً على أساس ذلك
 الحقيقة أنَّ دموعهما
 ليست علامةً على أنهما يبكيان بالفعل
 بل هي علامةٌ فقط على أنَّ مسار التأريخ
 لا بدَّ أن يتَّجه صوب الخيام
 الخيام التي اشتُقَّت من حدقات النجوم
 وحيكَت خيوطها من جدائل النساء
 النساء اللواتي خلِقنَ من ابتسامة الأنبياء في الجنان

ليس مُستغرباً أن تكونَ جثَّةُ المرءِ ضريحاً بعد القتل
المستغربُ فعلاً هو أن يكون ضريحاً قبل أن يُقتل
وقبل أن تطأ السنابكُ على أضلاعِ صدرِه
 وقبل أن يحمل الملائكةُ الكرامُ روحَه في قارورةِ عطرٍ
ليضمِّخَ به الله عرشَه في أعلى علِّيِّين
 فامسح بكفِّك على هذا الضريح
قبل أن تصلِّي
وقبل أن تدخل في حوارٍ هامسٍ مع كائناتِ السماء
امسح بكفِّك هذا الضريح قبل كلِّ هذا
لتنفتح أمام عينيكَ عوالمُ الغيبِ كلُّها
فتختار منها ما هو مطابقٌ لنشوتِكَ
 وأنتَ تقيمُ الصلاة
أعلم أني سفينةٌ في الطوفان
 بيد أنَّ الأرض تغرق
 تغرق
 تغرق
 وأنا سفينةٌ فوق موج الماء
 كان الراكبون هم النسبة الأقلّ قياساً إلى عدد الهالكين غرقاً بالماء، كان الماءُ حانياً عليهم في الحقيقة، كان يمدُّ إليهم يداً لينتشلهم منه إلى السفينة، كانت السفينةُ تصيحُ بالماءِ أن لا تغرقهم سريعاً، تمهَّل تمهَّل قليلاً ريثما يمسكون بمقدَّمِ السفينةِ أو بأحدِ جانبَيها فيصعَدون، لم يكُ الماءُ قاسياً على الغرقى لو أنهم فقط رغبوا حقيقةً بالنجاة.
للماءِ الحقُّ أن يقبضَ أرواحَ الموتى، فلو لم يكُ الماءُ لم تكن الحياةُ أساساً، وبما أنَّ الروح هي الجوهر الأرقى للحياة، فيكون من حقِّ الماء أن ينتشل أرواحهم من الموت، حتى لو كان ثمن ذلك أن تتحوَّل الأجساد كلُّها إلى هباء
الموتُ ليس خصماً للحياة، الموتُ هو الحياةُ ذاتُها لكن شريطةَ أن يتخذ المرءُ من موتِهِ قلعةً للبقاء
أوَّلُ خطوةٍ نحو الموت الأرقى هي آخر خطوةٍ تقطعها الحياة باتجاه نفسها، حتى إذا ما اكتمل الشوطُ، نظرت صوب الموتِ كما لو أنها تشاءُ منه أن يكون ملاذاً، لا يكون الموت ملاذ الحياة إلا في تلك اللحظة التي يتقدَّم فيها الموت ليلقي موعظته الأزلية على جمهور الوجود بصفته نبيّاً.
أريد الآن أن أقتفي أثر النجم، ذلك النجم البعيد البعيد الذي هو الرأس المقطوع في الحقيقة، يا لرأسي إذ يكون نجماً في السماء، يا لنظراتي نحوه كم هي مصبوغةٌ بالنجيع، أيها النجم الذي هو رأسي، لا تتوغَّل في البعد أكثر فأكثر، لا تكن ضوءاً في عيون الثكالى فحسب، كن كذلك نهراً ونخيلاً وقيلولةً للدَّم.
ما الَّذي يجعل العالم كلَّه يبدو لي كما لو أنه القناة، ما أجمل هذا المنظر، رأسي مرفوعٌ فوق القناة أمام طغاة التأريخ، لم أرَ جبرائيل حاسداً للأنبياء أو للأولياء إلا هذه المرَّة، يقول جبرائيل: إنَّ لي ألفَ جناحٍ أحلِّق بها في أقصى فضاءات العالم، لا هذا العالم فقط، بل العالم الذي لم يره إلا الإله الأحد، ومع ذلك، فأنا مستعدٌّ لأن أتخلّى عنها جميعاً في مقابل أن يُحمل رأسي دقيقةً واحدةً على تلك القناة.
التوراةُ والإنجيلُ والقرآن
التوراةُ رمحٌ
والإنجيلُ جسدٌ
والقرآنُ هو الرأس
أما الرمحُ فهو السارية التي تمتدُّ حتى عنانِ السماء
وأما الجسد فأنت تصغي إلى هديره الآن
على أنه ليس بحراً أو محيطاً
بل هو الصوت الهادر من فم جبرائيلَ في الطوفان
وأما الرأس
فلولا أنه مؤطَّرٌ بالسماواتِ العُلى
لقيلَ فيه إنه الإله نفسُهُ
أو انَّهُ ذروتُهُ الشاهقةُ لحظةَ يشهقُ الوحيُ في قلوبِ الأنبياء
ليسَ مهمّاً أن تكونَ الصحراءُ أمّاً
 أو أختاً
أو زوجةً أو بنتاً
 المهمّ أن تكون الصحراء نافذة المرء
 إلى رؤية العالم
 نافذته إلى أن يلتقط أصواتَ القدِّيسين
 الَّذين ماتوا في لحظات النشوة
 وهم يعانقون الحور العين أثناء الوفاة
 المهمّ أن تغدو الصحراء طيراً
 إن كانت الرحلة بمثابة روضٍ حافلٍ بالماء والورد
 أو أن تصير عمامةً على رأس الفيلسوف
 وهو يقلِّب الفكرة مثل جسد الحبيبة على سرير البكاء
 المهمّ أن لا تكون الصحراء عبئاً ثقيلاً
على كاهل السائر إلى حتفه
لا رغم الأنف طبعاً
 بل السائر إلى حتفه بملء الاختيار.
دعني أقبِّل منيَّة الفيلسوف
لا لأني راغبٌ بأن تكون حليلتي يوماً
بل لأني راغبٌ بالفعل
 أن أكشف عن غواية العالم
 وهو يزاول هوايته الدائمة
 في جعل الأفكار كلِّها تقريباً
 سلَّماً للوصول إلى غايةٍ واحدةٍ فقط
 وهي أن يبرهن على أنَّ استقامة الفؤاد
 ضربٌ من النفاق المبطَّن
 النفاق الذي يشير إلى أنَّ المرء
 متَّجهٌ صوب الأنانية
 على الرغم من أنه يكون مستعدّاً أحياناً
للقتل صبراً
 أو قهراً
أو حتى للتبسُّم
 وهي يتلقّى على هامة رأسه ضربَ السيوف.
 
-ما الَّذي صيَّرَ الرمحَ يبدو لكَ الآنَ تلكَ المسافةَ ما بينَ صبحٍ وآخَرَ
– أيّامَ كنتُ صغيراً رأيتُ أبي ينحرُ الليلَ، قلتُ لهُ لا أرى دمَهُ، لا أرى  أنه فارقت مقلتاهُ الحياة
أجابَ: أجل فالحياةُ التي فيهِ ضربٌ من الفتكِ بالأنفسِ الشاهقاتِ كموجٍ من الضوءِ، لا تقلقِ الليلُ سوف يموتُ ولكن بطعنةِ سيفٍ مضيءٍ سلالتُهُ منكَ أنتَ
وقلتُ: سأمتشقُ الآنَ هذا الحسامَ الذي هوَ في الغمدِ منذُ بدايةِ تأريخِهِ
قالَ: كلا، فإنَّ السيوفَ إذا امتُشِقت لم يعد أيُّ أغمادِها صلبَ صبحٍ وليدٍ إذا لم يكن حدّ سيفِكَ نفسَ الزمانِ الذي هوَ فيهِ يدٌ تتلطَّفُ كي ترفعَ الحزنَ من قسماتِ اليتامى
وقالَ: إذا لم يكن حشدُ دمعِكَ أنصارَ موتِكَ لا تتفاءلْ كثيراً بهِ، لا تتفاءل
فإنَّ الدموع التي هيَ أنتَ  إذا لم تكن هيَ بالضبطِ جندَكْ
فسوفَ ترى الموتَ يأتي إليك فلا يتركُ الموتُ نجمَكَ عندَكْ
سيخطفُهُ من عيونِكَ ثمَّ   يحرِّضُ كلَّ الكواكبِ ضدَّكْ
ولا شكَّ يطعنُكَ الرمحُ يوماً   فلا تمنعِ الرمحَ يا سبطُ رفدَكْ
تناولْهُ بالقُبَلِ الساخنات  ومكِّنهُ لو راحَ يلثمُ خدَّكْ
فإنِّي رأيتُكَ مذ كنتَ طفلاً صغيراً تهزُّ السماواتُ مهدَكْ
وتبكي عليكَ كثيراً كثيراً   يعزِّي بكاءُ السماواتِ جدَّكْ
– أكنتَ تريدُ السحابةَ أن تمطرَ الموتَ أو كنتَ تطلبُ أنت السحابةَ كي تنعشَ المُدنَ الظامئاتِ الحياة
– جبيني سحابتيَ الممطرَهْ
على أنَّ هذا الجبينَ يواصلُ زخَّ السحابةِ
حتى وإن زُجَّ يوماً بجوفِ الترابِ سيمطرُ أيضاً بذاتِ السحابةِ من داخلِ المقبرَهْ
– إذن سوفَ توجدُ في كبِدِ الماءِ دوماً فكيفَ تعاني من الظمأِ القاتلِ الآنَ كيفَ تشاءُ عناقَ المياهْ
وتهربُ منكَ مع العلمِ أنكَ صوتُ الإلهْ
– ومن قال إنَّ المياهْ
تخاصمُني؟
إنها حوصِرت بالكتائبِ، شاءت عناقيَ من خلفِ تلكَ الكتائبِ لكنَّها حوصِرت بالكتائبِ أيضاً فشاءت عناقي خيالاً كذلكَ كانَ الخيالُ سبيلَ التعانُقِ بيني وبينَ المياه
فرحتُ أحدِّثُها وتحدِّثُني عن عميقِ العلاقةِ بينَ الذي أنا فيهِ من ظمأٍ قاتلٍ تحتَ وطأةِ حرِّ الحديدِ وبينَ خيالِ المياهِ الَّذي دَمَعت مُقلتاهْ 
-فماذا إذن كانَ جوهرُ تلكَ العلاقةِ
-تلكَ العلاقةُ غامضةٌ في الحقيقةِ، تلكَ العلاقةُ تشبهُ ما لا يبوحُ بهِ الأنبياءُ إذا لم يكُ البوحُ بالرمزِ، قل إنها طعمُ موتِكَ فوقَ ذراعَي حبيبِكَ عشقاً وقل إنها لونُ روحِكَ حينَ تشفُّ كثيراً ليتَّضحَ اللهُ فيها
– فهل كانَ قلبُ المياهِ رقيقاً بأطفالِكَ الظامئينَ الصغار؟!
-أجل كانَ قلبُ المياهِ رقيقاً   وكانَ شبيهاً بقلبِ الإله
إلى حدِّ أنَّ الدموعَ التي نزفتها بحسرتِها مقلتاهْ
رأيتُ الصغارَ بها يحتفون   أتت لترطِّبَ تلكَ الشِّفاهْ
 -إذن أنتَ يا سيدي لستَ محتقناً من مياهِ الفرات، لماذا إذن حين تخلو إلى حزنِ قلبِكَ ليلاً تعاتبُهُ؟
– إنني لا أعاتبُهُ كي أعاتبَهُ، بل أعاتبُهُ كي يرى الناسُ أنَّ الفرات أخي، فلقد كنتُ في عالمِ الذرِّ أصحبُهُ دائماً، ولقد كان في عالمِ الذرِّ أيضاً يعاهدُني بالضفافِ على أنها ساعداه
وأني إذا احتجتُ يوماً سيحملُ رمحاً بكفٍّ وسيفاً بأخرى ليدفعَ عني الكتائبَ لو هاجمتني وحيداً، ولقد شاءَ ذلك حقاً، ولكنه فَقَدَ الساعدَين
وأهوى العتاة على رأسِهِ بالحديدِ وصاح بآخرِ ما قد تبقّى من الصوتِ: إني صريعٌ هنا في الطريق إليك فقل قد وفى، لا تقل خانني يا حسين
وقل إنَّ نهرَ الفراتِ أخي، قطعوا كفَّهُ فتناولَ قربتَهُ باليدِ الثانيه
وقد قطعوها كذلكَ، ضمَّ عليها الحنايا وشدَّ على عضُدَيهِ ليحرسها وهي تبكي ولكنهم وجَّهوا زمرةً من سهامٍ إلى القربةِ الباكيه
– فأينَ هو الآنَ؟
– يرحلُ بينَ العواصمِ كي يفهِمَ الناسَ أنَّ المياهَ على وشكِ أن تتحوَّلَ فيهِ دموعاً لتندِبَ هذا الضريحَ الذي هوَ في كربلاء.
القادمونَ من غياهب التأريخ
 ينفضون التراب من على فروات رؤوسهم
 ويتفحَّصون جيداً ملابسهم الرثَّة التي تـأكَّلها التراب
 يتساءلون فيما بينهم عن الزمن الغريب الذي بُعِثوا فيه
 إنهم قادرون على  التكيُّف قطعاً
 لأنَّ لهم آذاناً تجيد تحريف موجات الصوت
 وعيوناً تجيد تحريف موجات الضوء
 ولديهم أيضاً قدرةٌ خارقةٌ على تمثُّل الأفكار التي لم يتطرَّق إليها فهمُهم من قبل
 إنهم يتوسَّلون إلى كلِّ ذلك لا بالسيف وحده
 بل يفعلون ذلك بمساندةٍ واضحةٍ من القوى التي تستوطن الذات
 بعيداً بعيداً عن ملابسة الأحداث العابرة
 التي تتسبَّب بها رغبات الآخرين
 بأن يكونوا جزءاً لا يتجزأ من ضوضاء التأريخ.

ليسَ التأريخُ زماناً مضى
 ولا هوَ زمانٌ يأتي
ولا هو الزمان الماثل أيضاً
التأريخ هو السرمدية
 منظوراً إليها من زاويةِ أنها
جسدُ صوفيٍّ يلتهبُ في موقدِ العشقِ ناراً

التصوُّفُ نفسه ليس أن تجوع وتعرى
ولا أن تكون كالقطط الشائخة في الحارات
 التي نادراً ما تعكس بهجة الأقبية بالشمس
التصوُّف أن تكون سيفاً
وأن تكون قبلةً لخيال الحبيبة
 إذ يلوح للفارس على صفحة السيف نفسه
حتى إذا ما شاء أن يقطع عنق طاغيةٍ ما
شخصت أمامه واقعاً بعد قطع العنق مباشرةً
لتعانقه عناقاً طويلاً جداً
حتى يشخصا ليكونا معاً شجرةً باسقةً
هي في ظاهرها شجرةٌ ككلِّ الأشجار طبعاً
أما في حقيقتها فهي المعنى الجوهريّ لكيان العالم

قل عن العالم إنه جبهةُ نبيٍّ تتوهَّج مثل المصباح في زجاجةِ الوجود
هذا هو العالم الذي يستحقُّ أن يشمخ من أجله الرأس على الرمح تماماً كالقرآن
أما العالم الذي يعيشه الطغاة والسفلة المنحطّون
فإنه ليس العالم في الحقيقة
بل هو ما يمكن أن يكون بمثابة برميلِ قمامةٍ في بيت الله
إذ يحتاجه العاكفون هناك لرمي النفايات لا غير.

الحقيقة أنَّ المرء في عالم الذرِّ قبل الولادة لم يكن يتردَّد أن لا يختار الحياة
لولا أنَّ الحياة تُفضي إلى ما هو أسمى منها
كأن تفضي إلى الحياة وما يضادُّها في وحدةٍ كاملة
 هي بالضبط طعم النيكوتين الحارّ في رئات المدمنين
 الحياة العادية ليس لها طعم النيكوتين في رئات المدنين قطعاً
وإلا لكان الإدمان حائلاً دون شعور المرء بالملالة أحياناً
حتى أنه ربما تمنى قطع رأسه على مقصلة الجلاد
ليتخلَّص من شبح حياةٍ لا يتوفَّر فيها أبداً شرط الإدمان

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب