في غضون اقل من اسبوع واحد، اقدمت الولايات المتحدة الاميركية على سحب قواتها من ثلاث قواعد عسكرية في العراق، الاولى في قضاء القائم بمحافظة الانبار، والثاني في قضاء القيارة بمحافظة نينوى، والثالثة بين العاصمة بغداد ومحافظة كركوك.
ولاشك ان خطوات من هذا القبيل ينبغي ان تقرأ من زوايا مختلفة ارتباطا بالتوقيت وارتباطا بالخطوات الاخرى اللاحقة لها.
فمن حيث التوقيت، جاءت قرارات واجراءات سحب القوات الاميركية بعد شهور من التهديدات والاستهدافات المترافقة مع مطالب عراقية رسمية وشعبية بأنهاء التواجد العسكري الاجنبي من البلاد، لاسيما الاميركي، وقد بدأت ذروة التصعيد، حينما استهدفت طائرات اميركية مسيرة في التاسع والعشرين من شهر كانون الاول-ديسمبر الماضي مقرات تابعة للواء 45 للحشد الشعبي غربي محافظة الانبار وتسببت بأستشهاد واصابة عدد من مقاتلي الحشد، ومن ثم اغتيال كل من نائب رئيس هيئة الحشد ابو مهدي المهندس وقائد فيلق القدس الايراني قاسم سليماني قرب مطار بغداد الدولي فجر الثالث من شهر كانون الثاني-يناير، والتي تبعتها ردود فعل شعبية وسياسية واسعة وصلت الى السفارة الاميركية وسط المنطقة الخضراء، وترافقت ردود الافعال هذه مع ضربات قوية تعرضت لها القوات الاميركية في قاعدة عين الاسد بقضاء الحبانية بالانبار، ناهيك عن تصاعد الحملات الاعلامية المتبادلة بين واشنطن من جهة والحشد الشعبي والاطراف العراقية الداعمة والمؤيدة له.
وارتفعت وتيرة الحملات الاعلامية بصورة واضحة مع قيام رئيس الجمهورية برهم صالح في السابع عشر من شهر اذار-مارس الجاري بتكليف محافظ النجف السابق والنائب الحالي عدنان الزرفي بتشكيل الحكومة رغم المعارضة القوية من القوى السياسية الرئيسية، لاسيما تحالف الفتح، حيث ابدت واشنطن ترحيبها بتكليف الزرفي ودعمها له.
وهناك رؤية مفادها ان واشنطن تسعى في هذه المرحلة الى تحقيق هدفين، الاول امتصاص بعض الغضب السياسي والشعبي العراقي ضدها، عبر التسويق للانسحاب من بعض القواعد العسكرية واتخاذ خطوات عملية بهذا الشأن، والهدف الثاني يتمثل بالعمل على تجميع وتركيز القوات الاميركية في مواقع اكثر تحصينا وامانا لتكون بمنأى عن صواريخ الجهات الرافضة لوجودها في العراق.
وفيما اعتبرها البعض خطوة مهمة واساسية لتصحيح مسار العلاقات بين العراق والولايات المتحدة الاميركية، وفتح صفحة جديدة على ضوء المطالب الرسمية والشعبية العراقية لانهاء التواجد الاجنبي من البلاد، رأى فيها البعض الاخر مجرد مناورات ومراوغات من قبل صناع القرار وساسة واشنطن لامتصاص الغضب العراقي وتمرير الاجندات والمشاريع المطلوبة بأدوات اخرى تتناسب مع طبيعة المرحلة ومتطلباتها.
وربما يبدو الرأي الثاني هو الاقرب للواقع، انطلاقا من سبب بسيط، الا وهو ان واشنطن لم تسحب قواتها نهائيا من العراق، وانما نقلتها من مواقع معينة الى مواقع اخرى لاعتبارات وضرورات امنية وسياسية، أي انها قامت بعملية اعادة انتشار او ما يصح تسميته اعادة هيكلة لتلك القوات ليس الا، او كما يصفها البعض هروبا الى الامام.
وهنا فأنه من الطبيعي جدا ان يطرح التساؤل التالي.. بماذا يختلف الامر اذا كانت القوات الاميركية متواجدة في قواعد عسكرية بالانبار ونينوى وكركوك او تواجدت في اربيل ودهوك والسليمانية؟.. وماذا عن الاحاديث والتسريبات القائلة بنية واشنطن ارسال ثلاثة الف جندي الى العراق قريبا؟.
وبحسب المصادر الاميركية والعراقية فأن القوات الاميركية التي يقال ان تعدادها الحالي يربو على ستة الاف عنصر، تتمركز في اربع عشرة قاعدة عسكرية، هي عين الاسد والقيارة والحبانية وكي وان وبلد والتاجي والتون كوبري وفيكتوري والرطبة والقائم الى جانب اربع قواعد في اقليم كردستان، واحدة في سنجار واخرى في اتروش، واثنتان في حلبجة تقعان على مرمى حجر من الحدود العراقية-الايرانية.
والمرجح حاليا هو ان القوات الاميركية ستنهي وجودها في القواعد العسكرية قرب بغداد والانبار وكركوك لتركزها في اقليم كردستان ونينوى.
ويؤكد مختصون بالشؤون الامنية، ان الاستراتيجية الاميركية تقوم على اساس تعزيز التواجد العسكري في العراق وعموم المنطقة لمواجهة ايران واطراف محور المقاومة، ولتعزيز الحماية للاطراف والقوى القريبة من واشنطن والحليفة لها سواء، كانت دول او احزاب او منظمات، واية خطوات-كما يقول المختصون-خلاف ذلك فأنها لاتعدو ان تكون اجراءات تكتيكية مرحلية تصب في اطار تفعيل وتعزيز التوجهات الاستراتيجية بعيدة المدى.
ولايخفي القادة السياسيون والعسكريون الاميركان مثل تلك التوجهات، ففي الرابع من شهر شباط-فبراير الماضي، قال الرئيس الاميركي دونالد ترامب في مقابلة تلفزيونية، “ان أحد الأسباب وراء رغبتنا في الإبقاء على قواتنا في العراق هو أننا نريد مراقبة إيران على نحو ما، لأن إيران تمثل مشكلة حقيقية، واريد أن أكون قادرا على مراقبتها”.
وفي منتصف شهر كانون الثاني-يناير الماضي، اصدرت وزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون) بيانا، قالت فيه “أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” أنه “ليس لدينا نية للانسحاب من العراق وهدفنا هو البقاء في الشرق الأوسط، وان المجتمع الدولي دعا إلى خفض التصعيد بعد الضربة الإيرانية”، في اشارة الى الضربات الصاروخية الايرانية التي استهدفت قادة عين الاسد، واوقعت خسائر بشرية ومادية كبيرة بالقوات الاميركية المتمركزة هناك، وكان ذلك ردا على عملية اغتيال سليماني والمهندس قبل ذلك الوقت بأسبوعين.
وما يعزز حقيقة التوجهات الاميركية، ما سربته صحيفة نيويورك تايمز الواسعة الانتشار من وجود نية لدى البنتاغون بارسال ثلاثة الاف جندي الى العراق، اذ ذكرت الصحيفة في تقرير لها نشرته مؤخرا، “إن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أصدرت توجيها الأسبوع الماضي للتحضير لحملة عسكرية في العراق تهدف لتدمير فصائل تدعمها إيران بعد أن هددت بشن ضربات ضد القوات الأميركية”.
وكشفت “نيويورك تايمز” بأن “وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر أجاز التخطيط لهذه الحملة العسكرية لمنح الرئيس دونالد ترامب خيارات للرد على المليشيات العراقية المدعومة من طهران”.
وفيما ايد وزير الخارجية مايك بومبيو واعضاء في مجلس الامن القومي هذه الخطوة، رأى فيها قادة عسكريين كبار في البنتاغون مغامرة خطيرة يمكن ان تكون لها عواقب وخيمة، مثلما قال قائد القوات الاميركية في العراق الجنرال روبرت وايت، من “أن خطوة كهذه قد تكون دموية وتسبب حربا مع إيران”.
كل ذلك وغيره جاء متزامنا مع تحركات عسكرية ملفتة في الفضاء الاقليمي، مثلت المناورات العسكرية الاميركية الاماراتية الاخيرة، وما انطوقت عليه من رسائل واشارات جزء منها، ناهيك عن التصعيد في الملف اليمني، بالتزامن مع الذكرى السنوية الخامسة لانطلاق الحرب ضد اليمن تحت مظلة التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية.
هذه الصورة المرتبكة والمضطربة والغامضة في ظل كابوس كورونا القاتل، والارقام التصاعدية المرعبة للاصابات والوفيات في عموم الولايات الاميركية، تعكس في جانب كبير منها تخبط واشنطن وفقدانها للبوصلة، وما يقوله ويتحدث به ترامب يوميا يكفي دليلا على ذلك.
————————