لا أعرف كيف يمكن أن نتحدث عن عراق جديد اذا لم يكن ثمة خطاب يجسد هذا التجدد الذي نتحدث عنه ؟
واذا كان الجديد هو تبدل الوجوه والمصالح لصالح ورثة آخرين يكررون ذات القصة فالويل للعراق والعراقيين ، وعلى ضوء هذا لا يمكن النظر الى إقالة الشاعر أحمد عبد الحسين أو غيره من الأصدقاء الذين يتبنون ذات الخطاب ، من جريدة الصباح على إنها مجرد إجراء وظيفي ، القضية في جوهرها ليست كذلك ، مايهمني هنا الخطاب الذي لم يجد فضاء يتسع له ، وكأننا بهذا نعلنها بشكل صريح أن مرحلتنا هي اجترار لتلك المفاهيم القديمة حيث يحبس الفكر الحر ، ليسود ذاك الخطاب الميت المعبر عن البلادة والركون الى السلطة بأشكالها المعروفة ، إن استبعاد هكذا خطاب ينفتح على المعرفة الإنسانية متجاوزاً كل الأطر الضيقة مؤشر خطير على اننا مازلنا نراوح في لحظة تاريخية أوهمنا انفسنا بأننا تجاوزناها ، لقد كان بوسع المؤسسة الإعلامية أن تقيم حجم الجهد الثقافي الذي قدمه الشاعر أحمد عبد الحسين ومجموعة المثقفين طيلة الفترة الماضية عوضاً عن إقالتهم ، لقد عملت في القسم الثقافي لجريدة الصباح لما يقرب من العام ، ويمكنني أن أقول بثقة إن القسم الثقافي للصباح كان يقدم خطاباً أقل ما يوصف به أنه يبشر بمرحلة قادمة تعي بشكل عميق معنى التجدد الحضاري ، والدور الذي يمكن ان يلعبه الإعلام في نشر مفاهيم الحرية والتسامح ، ولولا مخافة أن ينظر الى مقالي هذا على ان فيه بعداً ذاتياً لسردت مجموعة وقائع تتعلق بشخصية أحمد عبد الحسين وكيفية إدارته للقسم الثقافي ، تلك الوقائع التي تعكس خلقاً إنسانياً نبيلاً ونزيهاً يفتقر اليها الكثير من السياسيين في العراق ، ماهو الخطاب البديل الذي سيأتي به الينا الآخرون ؟ أخمن أنه سيكون بلا رؤية ، فما أسهل أن يؤتى بالكتبة ليمارسوا ذات العمل السقيم ، نعم هناك تقنية واحدة صالحة للموظفين في أية حكومة هي ان لا يقولوا شيئاً ، أن يرددوا مثل الصدى مايطرق سمعهم من المدراء لينالوا شهادة القبول ( وما أيسرها من مهمة ! ) ، وعندها يقال لك أنت رائع ومطيع ، لقد كانت هذه التقنية سبيل الكثيرين للبقاء في المناصب أيام النظام السابق ، أذكر أنني كتبت ذات يوم قصة في نهاية التسعينات عنوانها ( العهد القادم ) تتحدث عن كهل مثقف يحلم بعهد آخر تتحقق فيه أحلام الناس بعيداً عن الإستبداد ، وفوجئت عند نشر القصة بعنوان آخر لقصتي ، فقد ارتأى مسؤول الصفحة ممن يتبنون مبدأ لا تقل شيئاً أن يجعلها ( العهد السعيد ) ، ولم يكتف بهذا بل عمد الى تغيير جملة داخل السرد يدين فيها الكهل مايراه من مظاهر الظلم والقمع من حوله ، فهل هذا ما نسعى اليه في مؤسساتنا الإعلامية اليوم ؟ أن نكون بلا رؤية ثقافية تبشر بأفق انساني رحب ؟
واذا مضينا الى عرض الحقائق المتعلقة بالكفاءة فإنني أشك أن يأخذ مكان الشاعر أحمد عبد الحسين شخصاً يوازيه في قدرته المعرفية والإنسانية ، فقد إمتلك كمثقف وشاعر مبدع عمقاً لا يمكن أن نتجاهله ، فضلاً عن نبله الإنساني ، وفي وسطنا الثقافي الذي يقال فيه الكثير يصعب علينا أن نجد من يلم بتلك ألرؤية التاريخية والفكرية ، لتجمع بين التراث والحداثة بطريقة متوازنة وذكية ، فهل إرتأى المسؤولون في الإعلام أن يقيلوا كل من يتميز من العاملين في هذا المجال ليصبح الجميع متشابهين بلا ملامح ؟ لنصبح جميعاً أشباحاً في مرحلة شبحية ؟ ولا بد من التذكير هنا أنه لا يوجد في تاريخ التغيرات الكبرى في العالم الا أسماء مثقفون بشروا بها وأسهموا في ترسيخ مقوماتها ، واذا لم نعي جيداً معنى ذلك فإن حالة من والتراجع سوف توقف لحظتنا التاريخية عن التقدم متحررة من كل أمراض العقود الماضية ، وسوف نظل ندور في فلك الخطابات الهزيلة التي ستعيد ذات السياقات القديمة ، حيث تتحول الحياة الى مسرح للتناقضات اللا معقولة ، لأن غياب الحداثة والخطاب التنويري سيكون سبباً لإنتشار كل ماعداهما من خطابات ، الأمر الذي سيحرم العراق من فرصة أن يكون بلداً تسوده قيم التسامح والمعرفة العميقة ، إن الذين يخشون من الفكر الحر إنما يتاجرون ببضاعة فاسدة ، والا كيف نفسر العداء للرؤية التحليلية للواقع الذي نعايشه كل يوم ؟ هل تتطلب الرؤية الفكرية والمهنية أن يتخلى الإعلامي عن نزاهته وما يقرأه في الواقع لصالح الخطاب السياسي ؟ وياليتنا امتلكنا خطاباً سياسياً موحداً ؟ اذا كان هذا ماسيؤول اليه العمل الصحفي والإعلامي فإننا سائرون بواقعنا ولاشك الى وجهة مجهولة ، تكون فيها الغلبة للجهالة على المعرفة ، وإن سترنا ذلك بشتى المبررات والأقنعة ، فليس مع غياب العقل وحرية الرأي سوى الظلمات والمآسي ، وليس مع غياب العمق والمعرفة الحقيقية سوى التسطح والعماء .
[email protected]