كان الباص السِّياحي قد أُرهِقَ من المسافة الطويلة ، والتي قطع الربعَ منها حين وصلنا لباعة العسل ،وجميعنا قد خمَّنَ أن لابد للباص أن يقف ،قال أحد الركاب بلغة أذرية للتي معه ،بأنهما لن يروا قصر الشّاه الا في العام القادم ، وأستيقظ آخر تلقائيا حين بدأ الباص بالتداعي للوقوف ،في حين لوّحَ الباعة بزجاجات العسل للركاب الذين لازالوا في الباص لوحوا لهم بطريقة الترحاب وحثهم على الشراء ،
الذين غادروا الباص إتجهوا بغالبيتهم صوب المرافق الصحية والبعض المتبقي نحو الُمصلى الذي شيّد بين أشجار التفاح ، أسمعني أحد الأشخاص والذي تكلم بلغتي المحلية :
أن الحياة هيّ هيَّ أينما تتجه .
وكان يضيف كلما إقترب مني فقراتٍ أخرى لجملته عن الحياة ،وأيقنت بأنه يريد مني رأيا أو معرفة سريعة لقضاء ما تبقى من المسافة الطويلة ، أدرت ظهريَ وأكتفيت بأبتسامة له ، وتيقنت بأنه غير مقتنع بأبتسامتي ويريدني أن أبادله الحديث ،في هذه الأثناء عاد المتبولون الى سرادق باعة العسل ، وعادت بي ذاكرتي الى (زرائب النحل )وإيفا سيكوفيج ونهر الدانوب والى (أحزان سوني ) ونغمة المطر التي تستقبلك بها عازفة الأورغ في محطة بلغراد ،
في تلك اللحظات من ذات الوّقت ، هناك من إقتنى عسلا أفغانيا وراح يعدد لمن حوله منافعه ، هناك من إقتنى عسلا روسيا وراح هو الآخر يُعدد منافعه ،وآخرون إكتفوا بالمشاهدة والتعليق ،تيقنت وأنا أهم بتقدير الوقت الذي يهبط فيه الغيم على الجبل أن ذاكرتي ستلد من مكانٍ أُجبِرتُ على الذهاب اليه ستلد أمكنة أخرى كنت قد مررت بها، لكنَّ تغيير شكل الحياة قد محى العديد من تلك المشاهد من ذاكرتي ولم تَطل الرسوم بعد بل طلّت الكلمات :الليل لايخلو من دفترك ..
وسنيّكَ لايمكن وضعها في مفكرة
وطرقك إن لم تشاهد عليها أثار أمطار
لن ترى وجهَك في مرآة ،
و.. و..
العالم رسوم متحركة
كانت متعتي أن أجد علاقة مابين الموجودات التي ذكرتها سواء في المكان الذي أجبرت على وجودي فيه أو الأماكن التي ندمت الذاكرة على تقيأها فأعادتها اليّ بعملية إسترجاعٍ محسوبة بتقدير الملمترات على الأرض ، وبتقدير الفعل المعاكس للمُخيّلة عبر تغييبٍ مؤقتٍ للوازم الحياة من الماء والهواء والتراب ،
نادى علي مرة أخرى :
إن الحياة هيّ ، هيّ ، أينما تتجه ،
هززت له بنصف رأس وأكدت له أن هناك أشياء مريرة ولكن مرارتها لاتقف حائلا أمام قلم وورقة تستطيع بهما
أن تعيد الى ممرات حياتك ماحدث في :
الكرات الزجاجية أو تعيد اليك تفاصيل سن الرشد أو تماس المدن بل وحتى الشيخ والبحر ،
تلاقت الغيوم فوق سلسلة زاجروس ، وبرقت السماء
حينها أنتجت المخيلة لي :
معطفاَ
ومظلةً
وقفازين ،
وعندما إلتّفتُ خلفيَ شاهدت الركاب يلطعون بأصابعهم العسلَ ويهزون بنصف رؤوسهم بعضهم للبعض إلا جليسي الذي كرر للمرة الثالثة :
إن الحياة هيّ ، هيّ ،أينما تتجه ، إن أنتجت الذاكرةُ لكَ ماتريد أو ظلوا من في الباص يلطعون بأصابعهم ما ظل في الزجاجات من عسل ، أو رأيت قصر الشّاه أو لم ترَ ،
لم أعد أفكر بالمسافة المتبقية سواء مع الأمطار في الروايات ،أو مع الأفكار التي تتسم بالحقائق ، بقيت طوال تلك الرحلة ومن خلال نافذة الباص أراقبُ البرق وأتحادث باطنيا مع من ظل ذراعها وسادة تحت رأسي في محطة باص لم يأت اليها الباصُ منذ سنين ،
[email protected]