23 ديسمبر، 2024 4:43 م

العلم من أهم مقومات الحياة على اختلاف أنماطها وتشعباتها حيث إنه يكفل كرامة الإنسان لا سيما إذا شفع ذلك العلم بالدين الذي يرفده بالمنهجية المصحوبة بالإيمان والعمل، وتفرع تلك العناصر على العمل يجعل منه قاعدة أساسية لبناء المجتمعات الإنسانية أينما وجدت وعلى أي شكل كانت باعتباره الحافظ والحارس الأمين للحياة ومتطلباتها. فعند التفريط بالعمل ربما يفقد الإنسان العناصر التي ذكرتها من علم ودين وإيمان لأنه أي العمل يعتبر الرابط الرئيس لأسباب الحياة بعضها ببعض ويعمل على استمرارها فلولاه لأصبحت الحياة أشبه بالجحيم الذي لا يطاق حتى في حالة توفر الطعام الذي يكفي لاستمرارها وذلك لكثرة الأفكار والهموم والبحث عن مشاكل بسبب الفراغ القاتل.
 
 ولو تأملنا قوله تعالى : (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) التوبة 105. ندرك أن الآية تشير إلى العمل الدنيوي بدليل الرؤية التي نسبت إلى الرسول وإلى المؤمنين ولو كان المقصود هنا العمل العبادي لا يمكن أن يراه الرسول أو غيره من المؤمنين لأن هذا يدخل في الغيبيات والإنسان لا يستطيع أن يثبت توجه غيره لاستتار ذلك التوجه في القلب الذي لا يطلع عليه إلا الله تعالى، أما ما يشاهد من عمل بمعناه المتعارف عليه فهذا متيسر لجميع البشر وقد يكون المقصود من الرؤية هنا معنى الرعاية التي يحيطها الرسول (ص) وغيره من المؤمنين لأصحاب العمل الذي تقوم عليه الحياة الطيبة التي هي بمنزلة النتيجة والمحصلة المستمدة من العمل الذي يكسب الإنسان من خلاله لقمة العيش وتعمر به الحياة ويستمر النوع وهذا من أعظم الأعمال التي يحث عليها القرآن الكريم كما سيمر عليك في هذا المقال المتضمن للبحث، ولكن للأسف فإن الكثير من المفسرين قد غيبوا العمل الدنيوي وأخذوا يفسرون الآيات الواردة في العمل حيث وجدت في القرآن الكريم بمعنى العبادة المتمثلة في الصلاة والصيام والحج وغير ذلك علماً أن العمل بمفهومه العام يعد أعظم أنواع العبادات.
 
وكلمة العمل في القرآن الكريم لها مترادفات كثيرة ومشتقات تشير إلى مصاديق أخرى ناتجة عن المفهوم المطلوب لهذا المعنى مثل فعل وصنع وكذلك الإشارة إلى أعمال الأنبياء والأمم السابقة والأكل من الطيبات وغيرها فالعمل على هذا التقدير يتكرر كثيراً في القرآن الكريم وعندما يكرر القرآن القصص أو المواضيع المختلفة في أكثر من موضع ومناسبة وبطرق متعددة فهذا يدلنا على أهمية المادة المكررة علماً أن العمل تكرر أكثر من الصلاة والصيام والحج والزكاة، ولو تأملنا القرآن الكريم ومتفرقات آياته نجد أن الله تعالى يوجه التعاليم التي تحث على العمل إلى الرسل والأنبياء أنفسهم كما قال جل شأنه : (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم) المؤمنون 51. وسياق الآية صريح في أن العمل المشار إليه هنا لا يراد منه العمل الذي يعني العبادة بمفهومها المتعارف عليه لدى العاطلين من علماء الدين بدليل الأمر الإرشادي وهو الأكل من الطيبات وهذا لا يتأتى إلا بالعمل وعرق الجبين كما يعبر عنه، وهذا نظير قوله: (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون) الأنبياء 80. وكذلك قوله: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور) سبأ 13. وهنالك إشارات كثيرة في القرآن الكريم تحث على العمل وبأساليب مختلفة كقوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) الملك 15.
وكذلك قوله: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) الجمعة 10. ومن أقوى الدلائل القرآنية بياناً في ذكر العمل الدنيوي قوله تعالى: (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) النحل 97. وهذا من أوضح الأدلة بياناً وفيه جواز عمل المرأة كذلك، لأن التفريع المذيل في الآية الكريمة بقوله “فلنحيينه حياة طيبة” فيه دلالة واضحة وإشارة لا تقبل اللبس بأن المراد هو العمل الدنيوي الذي جعله تعالى الوسيلة التي يصل الإنسان من خلالها إلى الحياة الطيبة، ولا يمكن حمل الآية على الآخرة لأن الآخرة لم تأت في القرآن بقرينة الحياة فهناك أكثر من ستين موضعاً كلها تذكر الحياة بمعنى الحياة الدنيا وقد عبر تعالى في موضع واحد عن الآخرة بالحيوان التي تفيد الاستمرارية في قوله: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) العنكبوت 64. وجاءت كلمة “حياة” غير محلاة بأل التعريف في أربعة مواضع فقط وجميعها تشير إلى الحياة الدنيا ومن بينها الآية المبحوث عنها.
 
ولذلك عندما ذكر القرآن الكريم العمل بمعنى العبادة المتعارف عليها في آية مشابهة للتي نحن فيها لم يذكر الحياة والآية هي: (ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب) غافر 40. فتأمل الفرق، وهنالك مواقف قرآنية كثيرة كالعمل الذي قام به موسى ثمناً للزواج وإلانة الحديد لداود وغير ذلك، أما الأحاديث التي وردت عن النبي (ص) والتي تحث على العمل فهي كثيرة كما في قوله (ص) “ما أكل أحد طعام قط خير من أن يأكل من عمل يده”. وكذلك قوله (ص) “إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها الصوم ولا الصلاة قيل فما يكفرها يا رسول الله قال الهموم في طلب المعيشة”. وقد ذكًر تعالى الغافلين عن الآخرة بالأقوام الذين سبقوهم وبطن تذكيره لهم بما يشبه المدح لأولئك الذين عمروا الأرض حيث قال: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها) الروم 9. فمع وجود كل هذه الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية إلا أننا نجد الكثير من العلماء ومن يعمل على شاكلتهم لا هم لهم سوى تعطيل الحياة وشل حركتها وكأن الدين رهبانية لا يمت إلى العلم أو العمل بأية صلة على حد زعمهم.
 
وهذا النوع من المفسدين في الأرض هم الذين يتحملون مسؤولية إيقاف عجلة الحياة بدعائهم بين الحين والآخر إلى التجمعات البشرية والمسيرات التي لا طائل منها إلا التشجيع على الحروب ووقف الدراسة والبطالة وتبني ما يسمى بالشعائر الدينية وهذا السنخ من الذين يطلق عليهم القادة من علماء الدين لا يحملون من العلم إلا العلم الوراثي المعاق ولو فرضنا جدلاً أنهم يحملون شيئاً من العلم فهذا العلم لا يستعمل إلا في طاعة الشيطان.
والأدهى وأمر من ذلك تلك المؤسسات التي تعمل بأسماء علماء الدين وتحتوي على مئات بل آلاف الكتب الدينية وغير الدينية وإذا أراد طالب العلم الحصول على أحد هذه الكتب تقدم له قائمة بأسعار تلك الكتب علماً أن هذه المؤسسات قامت على أكتاف الفقراء من الناس بسبب أخذ أموالهم بالباطل تحت عناوين كاذبة لا تمت لدين الله بأي صلة.