18 ديسمبر، 2024 7:23 م

الحوار الوطني .. منطق تفاعل الآراء وتجاوز التعصب الفئوي والعقائدي

الحوار الوطني .. منطق تفاعل الآراء وتجاوز التعصب الفئوي والعقائدي

هناك حقائق يجب ان نعترف بها قبل الدخول في صلب موضوع دراستنا، فكلما اعترفنا بتلك الحقائق مبكراً وعالجناه بعقل وترو، كلما ضاقت شقة الاختلاف بيننا. فكما نحن بشر في اختلاف الوجوه، ولا يوجد وجه يشبه الاخر الا فيما ندر، كذلك نحن بشر في اختلاف العقول. فإن اختلفت المصالح او تضاربت، وهي لا شك مختلفة، او تعددت الاتجاهات وهي بالضرورة كذلك، حصل الشقاق الذي قد يؤدي ان لم يصاحبه حوار، الى الصراع، فالاعتراف بتغاير المصالح هو مدخل صحيح وصحي للبحث عن التوافق وطرح الاسئلة فيما بيننا، وهو الطريق الذي يقود الى معرفة ما الافضل والاسلم من الوسائل لتبني الحلول الممكنة بعد ان نتعرف الى المشكلات القائمة وبالتالي نتعاون لقبول الاسلم من الحلول المتاحة، ولن يتأتى ذلك كله الا بالحوار.

ونحن اليوم على مفترق طرق في شؤون شتى، فقد دب بيننا الكثير من الخلاف الذي قاد الى صراع بين بعضنا البعض وبين اخرين. فبعضه دموي وبعضه الاخر معنوي ومذهبي منهك.

من هذا المنطلق كانت حكايتنا مع سؤال الحوار، مأساوية حقا، فما تعارض فكران او معتقدان الا وكان كل جانب منهما ينسب الحق اليه وينفيه عن صاحبه وينعته بضيق الافق وعدم الفهم. وفعل الحوار تحول الى فعل خاطئ مذ صار تصوره على انه مشروع لاقناع الخصم وليس مشروعا لاحداث الفهم، أي ان يفهم كل طرف صاحبه مع الاحتفاظ بحق الاختلاف.

في وضع كهذا لا يمكن للحوار ان ينشأ، وابرز علامات هذه الاستحالة هي ان مفهوم الحوار ذاته قد تعرض لتشويه خطير، ولقد بدا الحوار وكأنما هو خطاب قطعي لا حواري، وكثيرا ما يختلط معنى الحوار بمعاني أخُر تفسد الحوار ذاته، واذا تحاور طرفان فان كل طرف يسعى الى اقناع الطرف الاخر برأيه، لكي يجري تحويل ذلك الآخر وتجنيده للفرقة ذاتها، وان لم يقبل الانصياع فان وسائل النفي اللغوية ستكون هي مصير الآخر المختلف فكرياً وسياسياً من حيث وصفه بالعناد، كدرجة اولى للنفي، ثم وصفه بالتعنت، ويتبع ذلك اوصاف باللامعقولية وربما الغباء. وينتهي المطاف بصفات كالكفر والابتداع والزندقة، ويعمل الطرف الآخر المقابل العمل نفسه مستخدما المعجم ذاته، وهذا يعني اللاحوار.

هذه لعبة نسقية قديمة/ حديثة، وتتجدد باستمرار، وهي الاصل الحيواني للوجود الكوني، حتى عند الحيوانات في غاباتها حيث تقوم الحياة على شروط البقاء، وهو شرط احتكاري وتسلطي وغير تسامحي ويقوم على الهيمنة وقتل المنافس، وهذا هو شرط البقاء الحيواني، وهو شرط تتم ترجمته ثقافياً عبر التسلط الفكري والنفسي وهيمنة القوة المادية والعقيدية.

وكلما تحررت البشرية من عقد الفطرة الحيوانية في الهيمنة، عادت صور الهيمنة في نسخ جديدة، وليس لفلسفات القيم والاخلاق من قوة تكفي لفرض مثاليتها على البشر.

واذا قلنا هذا، فاننا نقوله من باب التأكيد على ان البشرية تظل محتاجة الى الحوار، ويظل الحوار مطلباً سامياً، وتزداد الحاجة اليه كلما اكفهرت الحياة، وجرى تهديد السلام العالمي وحياة البشر والبيئة.

ان مأساة مجتمعاتنا لا تحل برفض الطغيان، فحسب، وانما بعمل مزدوج يرفض الطغيان، من جهة، ويؤسس لوعي جديد بالحوار والتعدد وقبول المختلف، من جهة اخرى. وان لم يحدث هذا فاننا سندع الامور تسير مسارها الحيواني الذي يرفض الطغيان ليقيم طغياناً بديلاً عنه، او يرفض العنف عبر اداة العنف نفسها، وهذا هو المأزق البشري التقليدي على مدى ازمنة الانساق الثقافية كلها، حيث يحل محل الطاغية، ويكون البديل صورة للمستبدل، وهكذا الى ما لا نهاية، حتى لتتشابه الانظمة وتتعدد الوجوه للوحش الواحد وهو الوحش النسقي، وصيغة (الفحل السلطوي) كصيغة سياسية واجتماعية وسلوكية، وبما انها صيغة نسقية ثقافية فأنه ستتولد عنها كل صيغ الانسانية والتعدد.

اننا، ازاء شأن قلما نجد اجماعاً على شعاره السياسي مثلما نجد الاجماع على شأن الحوار الوطني الديمقراطي والديمقراطية. لكن، كيف يرى كل منا هذا الحوار وهذه الديمقراطية- مفاهيمها، وحدودها، واسلوب ممارستها، وصورها السلبية الموجودة… ثم هل هما مجرد شعارات ام ان لهما مضامين وأسس وضوابط ذاتية وموضوعية.

وحتى نفهم ماهية الحوار الديمقراطي، يستوجب ان نفهم ماهية الديمقراطية التي هي جوهر أي حوار وطني.

لئن كان من المتعذر ان نعثر على تعريف جامع مانع للديمقراطية، فأننا نستطيع القول بصورة عامة، انها اسلوب لممارسة الحرية ولها مجموعة من الاسس والضوابط الذاتية والموضوعية لا بد من وعيها والايمان بها وتطبيقها، لكي تصبح حالة عضوية وعادية في السلوك والتصرف.

الديمقراطية،هي الصيغة العملية المثلى لاقامة التوازن بين مصلحة الفرد والمجتمع لا تطغى احدهما على الاخرى تحت أي مبرر او ذريعة، وفي ظلها تنمو المواهب والطاقات وتنتعش القدرة على المبادرة والابداع، وهي شروط اساسية لاي تقدم ونهوض. ولذلك، قلما نجد اجماعا من الافراد والمجتمعات، على اعتبار شعار سياسي مفيداً وذا قيمة ايجابية مثلما نجد الاجماع على الديمقراطية، الامر الذي يدفع الحكام المتفردين بالسلطة انفسهم للمحافظة على الاشكال الديمقراطية والنصوص الواردة في الدستور على صياغة الحريات العامة واحترام الانظمة والقوانين السائدة… على الرغم من انهم يعملون على اظهار الديمقراطية المنشودة في صور سلبية، وانها تؤدي الى التناحر المستمر بين الاحزاب والقوى السياسية المتنافسة، وتجلب الانقسام والتمزق فتهدر الطاقات وتعم الميوعة والفوضى ويبقى الجمود والتخلف… الخ.

وفي ظل هذه المفاهيم التي تروج لها بعض اجهزة الدعاية والاعلام، تنتعش بعض الشعارات الخادعة كشعار – المستبد العادل – او الزعيم الذي يجسد آمال الشعب وارادته. وقد فاتهم ان معالجة الامراض التي تعاني منها الديمقراطية في المجتمعات المتخلفة لا يكون باحلال الدكتاتورية محلها بمعالجة تلك الامراض واصلاح الخلل في الديمقراطية والعمل على تطويرها، والا تكون كمن يجهز على المريض بدلاً من معالجته.

اما الحوار وتبادل الاراء وتفاعلها بالاخذ والعطاء بحرية وموضوعية فهو الاسلوب الديمقراطي الذي يكشف الخطأ والصواب ويُنضَجُ الاراء والمواقف ويثريها.

كل شعار فكري سياسي يشيخ مع مرور الزمن او يفقد بريقه ما عدا الحرية، فانها شعار حي متجدد في كل زمان ومكان، وذلك لان الانسان كلما افتقدها اشتد حنينه اليها وشعر بانها حاجة عميقة لا يمكن الاستغناء عنها والا فقد انسانيته وكرامته وجوهر حياته واصبح في منزله الحيوان لا هم له غير ان يأكل ويشرب، وما أتفه الحياة اذا وقفت عند هذا الحد.

وفي النصف الثاني من القرن العشرين تراجعت الديمقراطية في اغلب دول العالم واتخذ لتقليص الديمقراطية او تغييبها مبررات متعددة وذرائع شتى.. كالقضاء على الميوعة والفساد والرغبة بالاسراع في التنمية والتطوير وحماية الامن والمحافظة على شرعية الحكم واستمراريته ومواجهة الاخطار الخارجية التي قد تفتعل احياناً لتبرير المزيد من السيطرة ومصادرة الحريات العامة. ويمكن القول ان الانقلابات العسكرية على كثرتها وسهولة حدوثها قد اسهمت على نحو واسع وعميق في بروز نمط من الحكام تغلب عليهم سمات المغامرة والعنف والاستخفاف بالمبادئ والقيم والنزوع الى التسلط على نحو يجعل من الديمقراطية مجرد صيغ شكلية باهتة لا دور لها ولا اثر في حياة المجتمع والافراد.

واغرب ما نلحظه من تلك المبررات ان بعضهم يعتبر نفسه اخلص واكفأ من عليها –أي الديمقراطية- لخدمة الشعب واقدر منه على تحقيق مصالحه. ومن يدري فقد يعتقد بان العناية الالهية ارسلته لخدمة الشعب باسلوب الوصاية عليه والعمل بالنيابة عنه.

في العراق، المواطن العراقي في هذه الايام مهما تبلد حسه واشتد بأسه لا يملك الا ان يفكر ويتساءل عما آلت اليه اوضاع مجتمعه من التمزق والعجز والتردي. وما من مواطن اوتي قسطا قليلاً من الشعور بالمسؤولية تجاه مجتمعه بل واتجاه ذاته الا ويدرك ان في مقدمة الاسباب والعوامل لهذا الواقع الاليم هو تزييف الديمقراطية بتفريغها من المضمون والجوهر مع الابقاء على الشكل، او بنسفها واقتلاعها من الجذور كما صار ابان حكم حزب البعث الذي مارس فيه ابشع ضروب التفرد والارهاب والقمع حيث لم يتورع عن تدمير المدن وقتل عشرات الالوف من المواطنين وممارسة الاغتيالات السياسية لمعارضيه في الداخل والخارج باسلوب العصابة المخابراتية حتى ولو كانوا رهائن في سجونه ومعتقلاته، ولم يبق في تعامله مع المواطنين من شعور او ضمير ولا وازع من خلق او دين، وكل اعماله نقيض لشعاراته واقواله. وكلما احس بازدياد عزلته عن الشعب ازداد امعاناً بالارهاب كما ازداد امعاناً في طعنه للقضايا الوطنية كاستخدامه الطائفية الدينية والسياسية وتمزيق المجتمع تحت ذرائع مكشوفة ابعادها.

ولا ريب عندي في ان القوى الوطنية والاحزاب السياسية العقائدية منها والمستقلة في العراق لو كانت ومنذ مرحلة الخمسينات قد آمنت بمبدأ التعددية الفكرية والسياسية وبالتعايش في اطار التنافس الديمقراطي فيما بينها لأستطاعت ان تعمق التجربة الشعبية الديمقراطية في العراق وان تحميها من العبث والانهيار ولاستطاعت ان تحبط الانقلابات العسكرية وتقطع الطريق على المغامرين من الحكام المتفردين الذين استطاعوا بالفعل ان يزيفوا الديمقراطية ومن ثم يقتلعوها من الجذور.

ولكن ليس المهم ان نندب الماضي ونأسى عليه وانما ان نستنبط من احداثه ومآسيه الدروس والعبر المفيدة لتلافي الاخطاء الماضية وتصحيح مسيرتنا الى المستقبل.

ولئن التغيير السياسي في 9/ نيسان جاء متأخراً بعض الوقت فأن ما يبعث على الامل والارتياح انه جاء وليد المعاناة والتجارب الاليمة التي مرت على شعب العراق وقواه الفكرية والسياسية، وكان استجابة لنداء الشعور بالمسؤولية التاريخية واستيعاباً لدروس المراحل السابقة وما رافقها من خلافات وصراعات مبددة للجهود والطاقات بين التيارات الوطنية والقومية والدينية واليسارية والليبرالية والعلمانية… التي تمثلت في مجموعة القوى والاحزاب السياسية العراقية التي وبعد حوارات جادة ومسؤولة بين اطرافها سواء من كان منها في الداخل –بشكل سري- او في الخارج، التقت هذه القوى على ضرورة الاطاحة بنظام حزب البعث بكل الوسائل المتاحة وبناء حياة شعبية ديمقراطية جديدة وفق نظام دستوري نيابي يحقق فصل السلطات ويكفل تعدد الاحزاب والاتجاهات ويتساوى فيه المواطنون بالحقوق والواجبات مع ضمان الحريات العامة لهم وفي مقدمة ذلك حرية الاعتقاد والتعبير والاجتماع وتأليف الاحزاب السياسية.

ومن خلال العمل الجاد المخلص لاطراف هذه القوى وقبولهم الواعي الطوعي بمبدأ التعددية الفكرية والسياسية وبالديمقراطية السلمية مضموناً واسلوباً فاننا نأمل ان يكون الهدف من اتفاقها حول مشروع المصالحة الوطنية دليلاً عملياً ملموساً على انه الحل الامثل لحالات التمزق والانموذج الذي يحتذى ويساعد في التغلب على مظاهر العجز والتردي.

انني ومن خلال معايشتي لاحداث بلدي العزيز العراق ومتابعتي لنشاطات القوى والاحزاب العراقية طوال عشرين عاماً… رأيت ان ابحث في اسلوب الحوار الديمقراطي وابين صلته العميقة بجوهر الديمقراطية، وكم هو ضروري تحقيق الترابط بين مضمون الديمقراطية وبين اسلوب ممارستها لما لهذا من تأثير على مسار حركة المجتمع العراقي باتجاه النمو والتقدم.

ان الحديث عن نضال القوى الوطنية والاحزاب السياسية في العراق وما آلت اليه الاوضاع في عهد النظام البعثي، حديث ذو شجون، ولكننا لا نريد ان نخرج عن الاطار الذي حددناه لهذه الدراسة، وهو اسلوب الحوار وموقعه من فهم الديمقراطية وممارستها.

كما اننا لا نريد ان يأخذ البحث منحاه الاكاديمي الذي يتناول مسألة الديمقراطية بمعناها النظري الواسع المتشعب، وسنسعى لحصره في اسلوب الحوار مع ملاحظات عامة من واقع الحياة العملية والتجربة الحية المرتبطة باوضاع وظروف زمنية محددة، هي تجربة القوى والاحزاب السياسية في اوضاع العراق بمرحلتها الراهنة.

ورغم ما في هذه التجربة من خصوصية الزمان فانها تظل ممثلة للآفاق الانسانية المعبرة عن تجارب الانسان وطموحاته… وقد نذهب ابعد من ذلك فنقول: ان دراسة علمية واقعية لحاكم متفرد، كما كان عندنا في العراق، تشتمل على العديد من الحقائق العامة عن المسألة الديمقراطية حيث تنكشف الاساليب المتبعة في تزييفها وتتضح العوامل التي مهدت الى ذلك، كما تقدم لنا الدروس التي تساعدنا على تنمية الوعي السياسي وتقوية المناعة ضد المغامرات الفردية الجديدة.

ليس من الموضوعية ولا من المنطق في شيء ان نطلق على شعب او حزب او حركة بكاملها صفة الخطأ والانحراف او صفة الصواب والاستقامة، ولكن يصح القول ان في كل منها افراداً او فئات محددة تنزلق نحو الخطأ والانحراف والانتهازية، وان فئات اخرى تتحلى بالوعي والاستقامة وتشكل ضمانة اخلاقية وتعطي للحركة مصداقيتها. وفي تقديري ان اكثرية المواطنين العاملين في السياسة وميادين الفكر والثقافة والمنتمين الى احزاب وحركات سياسية تستهدف فيما تعمل له وتنشط من اجله، خدمة الوطن وتقدم المجتمع الذي تنتمي اليه. اما الانتهازيون وادعياء النضال الذين يسخرون اقلامهم لخدمة اسيادهم او لمنافع شخصية متعارضة مع المصلحة العامة، فانهم يشكلون الاقلية رغم ما قد يكون لهم من ادوار سلبية خطيرة في حالات معينة. واذا اتفقنا على ان هذه الاكثرية من العاملين في السياسية او الكتابة تطمح فعلاً الى النهوض بالمجتمع وتنشد خدمة الوطن والشعب لأصبح لزاماً علينا ان نستبعد عنها سوء النية وخبث الطوية فيما تعلمه وتسعى اليه، وحق لنا اذن ان نسأل:

– لماذا تطغى العلائق السلبية والحالات العدائية بين القوى والاحزاب السياسية رغم ان اكثريتها الساحقة من النوع الذي ينشد مصلحة الشعب والوطن؟ واذا تهاونت واقامت شكلاً من اشكال الجبهة او الائتلاف فيما بينها تحت قسوة الظروف والحاجة الملحة، فلماذا لا تعيش هذه الجبهة او هذا الائتلاف طويلاً ويظل نشاطهما محدوداً وضعيفاً في اغلب الاحيان؟

هذا السؤال الكبير يتعذر تعليله والاجابة عنه بسبب واحد، فضلاً عن ان وحدانية السبب في تفسير مثل هذه الاسئلة منافية لابسط قواعد العلم والمنطق، غير اننا هنا نود ان نأخذ الجانب المتصل باسلوب الحوار لنرى مدى الأثر الذي يتركه الخطأ في هذا الاسلوب على العلاقات بين هذه القوى وهو اثر لا يستهان به عندما نستقصي ابعاده ونتائجه.

دعونا نتصور ثلاثة اشخاص ينتمون الى ثلاثة اتجاهات سياسية كأن يكون احدهم منتميا الى حزب قومي والآخر الى حركة دينية، والثالث من ذوي الميول اليسارية، وانهم دخلوا في نقاش يدور حول عوامل التردي في عراقنا العزيز وسبل الخلاص منها او حول موضوع اكثر تحديداً، كالعلمانية والاشتراكية او القومية والوحدة العربية، فماذا نحن واجدون؟

نجد ان كل واحد منهم يحمل وجهة نظر مستمدة من ثقافته وقناعته التي تكونت من خلال ارتباطه الفكري والسياسي بالحزب او الحركة التي ينتمي اليها وليس في هذا ما يدعوا الى العجب والاستغراب، وانه لامر طبيعي ان يرى الاول معالجة التردي في عراقنا الآن تكمن في الفكرة القومية وفي الوحدة العربية كتجسيد عملي لها، وذلك لان الرابطة القومية توحد ولا تفرق طالما انها تجمع افراد الامة وفق منطق العصر وتحارب العصبيات الاقليمية، وقد يعبر في بعض ارائه عن تعصب للفكرة القومية ويعتبر فصل الدين عن الدولة واعتماد القوانين الوضعية شرطاً ضرورياً للنهوض والتقدم، كما يعتبر في الوقت نفسه ان الماركسية بنزعتها الاممية وبماديتها وتنكرها للتراث الروحي عاجزة عن حل المشكلات التي يعاني منها مجتمعنا العراقي.

اما المنتمي الى حركة دينية فيرى اسباب التخلف كامنة في عدم التمسك باهداب الدين وتعاليمه، ويرى في وحدة المسلمين الهدف الاول وينظر الى الوحدة العربية كجزء من كل او كفرع من اصل، كما يرى ان الاشتراكية والقومية من الافكار الطارئة المستوردة من الخارج وبالتالي لا تصلح لمعالجة اوضاع تخلفنا. وقد يظهر في منطقة نوع من التعصب والنزوع الى السلفية من خلال تركيزه على مظاهر الحشمة والحجاب ومحاربة الخمر وعدم الاهتمام بالمناهج الثقافية وبالاوضاع الاقتصادية بمثل اهتمامه بتلك المظاهر او كان يرى في بناء الجامع اهمية تفوق بناء الجامعة.

اما الشخص الثالث فقد يرى في هذه الافكار وفي الدعوة الى القومية نوعا من الانغلاق والرجعية والابتعاد عن افكار العصر ومستلزمات التطور، ويرى ان الماركسية هي الاشتراكية العلمية التي تصلح لمعالجة اسباب التخلف وحل المشكلات التي تعاني منها المجتمعات البشرية كلها على الرغم من الاختلاف والتباين القائم فيما بينها على الصعيدين الفكري والاجتماعي.

دعونا نفرض ايضاً ان المتحاورين تناولوا فكرة دقيقة محددة كالعلمانية، فرآها الاول ظاهرة رافقت ظهور الدولة القومية في اوربا، وحلول ديمقراطية بمفاهيمها العصرية وقوانينها الوضعية محل الثيوقراطية، وفكرة الحق الالهي المقدس في الحكم والتي عانت منها البشرية كثيراً من الظلم والتحجر، وان العلمانية بالتالي اذا لم تتنكر للتراث الروحي للمجتمع جديرة بالاهتمام والتطبيق. اما الثاني فيرى فيها فصل الدين عن الدولة وحرمان المواطنين من تعاليمه الاخلاقية والروحية الضرورية لراحة الانسان وخلاصه, وانها مستوردة وغريبة عن مجتمعنا وتراثه ويجب نبذها ومحاربتها، في حين يراها الثالث ظاهرة معبرة عن اعلى مراحل التطور في المجتمعات المعاصرة، وان الأخذ بها ضرورة ماسة ولا يستقيم تقدم من دونها.

قلنا ليس في اختلاف وجهات النظر بين هؤلاء الاشخاص ما يدعوا الى العجب والاستغراب لأن تعدد الاراء وتضاربها امر طبيعي، ولكن ما يدعوا الى الدهشة والتساؤل هو الاسلوب الخاطيء في الحوار الذي يعتمده هؤلاء، وهذا ما نود الوقوف عنده لنلقي نظرة تأمل وتحليل ونقد املاً في الوصول الى الفائدة المرجوة من اهتمامنا به.

ففي المثال آنف الذكر، نلاحظ ان النقاش يدور على الاغلب في حلقه مفرغة رغم ما قد يبدو فيه في ظاهر الامر من مراعاة المنطق والاعتدال، وذلك لأن كلاً منهم ينطلق من قناعة ثابتة ومن اراء مسبقة راسخة في ذهنه، وقد ترقى الى مرتبة الحقائق والبديهيات. ومن المرجح ان الواحد منهم يشترك في المناقشة بهدف الاقناع وليس الاقتناع، وبغية الدفاع عما يعتقد بصحته وليس بغية الاطلاع على حقائق اخرى جديدة تستحق منه التأمل والتفكير وربما تستوجب تصحيح بعض ارائه.

اجل لا يهمنا في هذا المثال النموذج مضمون الاراء التي طرحت ولا يعنينا تقويمها ومدى قربها او بعدها عن الحقيقة العلمية. فكل رأي فيها يعبر عن واقع سياسي واجتماعي معين، بمعنى انها اراء طبيعية وواقعية طالما انها تعبر عن قناعات واجتهادات مستمدة من واقع الحياة والمجتمع. وما دام الانسان –أي انسان- هو ابن بيئته والثقافة الفكرية والسياسية التي يعيشها ويتأثر بها، فقد اصبح تعدد هذه الاراء وتنوعها امرا طبيعياً ويجب ان نفهمها وننظر اليها ونتعامل مع اصحابها على هذا الاساس. غير ان ما يهمنا هنا هو ان نؤشر بعض الملاحظات الاساسية حول ما نعتقده صحيحاً او خاطئاً في اسلوب الحوار وان نلتمس الاسباب والعوامل التي تحمل بعض القوى والاحزاب السياسية على رفض التعايش البناء فيما بينها وعلى تغلب جانب الجفاء او العداء في علائقها بعضها ببعض ورائدنا في هذا كشف الخطأ لتلافيه واظهار الصواب لتعزيزه ومن ثم تحقيق الفائدة المنشودة على طريق العمل الفعال من اجل الديمقراطية.

في الحوار الذي تشترك فيه فئات سياسية عقائدية متباينة الاتجاه وحتى في الحالات التي تبدو عليه روح الهدوء والاعتدال، نلاحظ ان التشبت بالرأي ورفض الرأي المخالف او الاستهانة به هو الطابع السائد في المناقشة، ولكننا نلاحظ ايضاً انه من غير النادر ان يحتد النقاش ويشتد الى الحد الذي ترتفع معه الاصوات وتضطرب الاعصاب وتطغى العاطفة والانفعال على الحكمة والتعقل ويغدو الجو مشبعا بالتوتر مشحوناً بالحساسية وردود الفعل مؤدياً لارتفاع وتيرة التعصب للرأي، والغضب من الرأي المخالف الى الحد الذي يعتبره السامع نوعاً من المشاكسة او التحدي وقائما على الخطأ والانحراف، بل ربما ذهب في اتهام محاوره مذاهب شتى اقلها التحجر وضعف التفكير، ويتصاعد حتى يصل الى اتهامه بأنه عميل مأجور، وعندما ينحدر اسلوب الحوار الى هذا المستوى من التوتر والتعصب والانفعال وردود الفعل… فان تضارب الاراء قد يؤدي الى التضارب في الايدي. وهذا بالفعل ما كان يحصل احياناً بين اعضاء بعض المجالس النيابية وهم الذي يفترض فيهم ان يكونوا اكثر الفئات وعياً وثقافة وقدرة على فهم الحياة الديمقراطية وممارستها.

ان اغلب القوى والاحزاب السياسية لم تقف اعضاءها على مبدأ اساسي من مبادئ الديمقراطية وهو مبدأ التعددية الفكرية والسياسية. وهذا ما يفسر لنا مع اسباب اخرى تغليب العلائق السلبية استمرار التنافر فيما بينها الى الحد الذي اوقعها في الشلل وفقدان الوزن وضعف التأثير في مجرى الاحداث الاساسية وفق اهداف واضحة مرسومة، وهذا بدوره قد سهل على المغامرين والانتهازيين تحقيق طموحاتهم غير المشروعة في التفرد والاستبداد على حساب الشعب ومستقبل الوطن. وان تجربة القوى والاحزاب السياسية في العراق تؤكد بما لا يقبل الشك ان ابرز عوامل الضعف والعجز في فصائلهاالمختلفة يرجع بالدرجة الاولى الى انها لم تستطع التعايش فيما بينها ضمن حدود التنافس المشروع دون التعامل بروح التناحر والاقتتال. وقد ذهب بعضها بعيداً في هذا الاتجاه حتى اصبح يرى في التنظيمات الاخرى عقبة يجب الخلاص منها ولو باستعداد العسكريين واستخدام الانقلابات العسكرية، واذا به كالمستجير من الرمضاء بالنار.

ولعلنا نستطيع القول بصورة عامة، ان هذا النقص في الوعي لمبدأ اساسي من مبادئ الديمقراطية لدى القوى والاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، ادى لبقائها عاجزة ضعيفة، ومنع قيام جبهوي فعال فيما بينها، في الوقت المناسب لمواجهة الانقلابات العسكرية وكل المحاولات الرامية لضرب الديمقراطية واحلال الانظمة البوليسية والدكتاتورية محلها، بل يمكن القول ان بقاءها عاجزة عن التعايش وهي خارج السلطة، أي في ظروف تحتاج فيها الى كسب الجماهير بالسلوك الديمقراطي والى التعاون فيما بينها لمنع الوقوع في قبضة الحكم الفردي يجعلنا نعتقد بما يشبه اليقين، ان أي فئة منها يتاح لها تسلم السلطة، لن تكون اكثر مرونة او استعداداً للتعاون مع الفئات الاخرى، بل هذا تؤكده احداث تاريخنا الحديث والمعاصر، وذلك لسبب بسيط وهو ان ايمان اية فئة بالديمقراطية وبالتعددية الفكرية والسياسية يكون اشد واقوى وهي صف المعارضة مما لو انها اصبحت في الحكم وتهيمن على مراكز القوة في الدولة، ذلك لان امتلاك القوة يغري بالمحافظة عليها والاستزادة منها، وهذا بدوره يؤدي الى التعصب والتصلب تجاه الفئات الاخرى المنافسة والمتطلعة بدورها الى المشاركة بالسلطة واقتسام مراكز القوة والنفوذ.

ومن ابرز الاسباب والعوامل في رفض هذه القوى ومنظمات المجتمع المدني للتعايش البناء فيما بينها هو الاهمال عن جهل او تجاهل لمفهوم اساسي من مفاهيم الديمقراطية وهو ان الحقيقة لا يملكها فرد او فئة او حزب، وان بلوغها يحتاج الى عقل ناضج متفتح والى فكر حر مؤمن بالتجرد والموضوعية وبعيد عن الذاتية.

ان المرء كما هو معروف كلما زاد علمه زاد تواضعه واحترامه لاراء الاخرين. ولهذا فأن المتشبث برأيه والعنيد في موقفه بدون منطق وبغير حق هو من حيث النتيجة كمن يعتبر نفسه معصوماً عن الخطأ طالما اعتقد بأن الصواب دوماً بجانبه. ولكن هذا الموقف يجانب الحقيقة ولا يتفق مع قواعد الحوار الديمقراطي ومبادئ التسامح الديني، فضلاً عن ان التعصب ينطوي في حقيقته على معان سلبية كثيرة. منها الجهل والانانية وفقدان القدرة على محبة الاخرين… وتكفي هذه الصفات حتى تجعل المتعصب مؤذياً لنفسه وللحزب الذي ينتمي له.

لا شك ان وراء التشبث بالرأي اكثر من سبب، فقد يرى ان في التراجع عن رأي اعلنه او التخلي عن موقفه سبق له ان تبناه نوعاً من الاعتراف بالهزيمة، وقد يرى في التراجع عما يطرحه ويتحمس له تعبيراً عن الضعف، ويمس كفاءته وينال من فهمه وثقافته. وفي تقديري، ان من يعتمد هذا الاسلوب اياً كانت اسبابه ومبرراته، لا يؤمن بالديمقراطية ولا يعي حقيقتها. ومن هنا يصح لنا ان نقول: لا يقدر على ممارسة الديمقراطية الا من وعى جوهرها واسسها، وآمن بها وبرهن عن استعداده للتقيد بالوسائل المؤدية لتطبيقها. وعلى سبيل المثال: فان من يؤمن بأن التمسك بأهداب الدين انقاذ لمجتمعه ولامته والمسلمين وان تطبيق العلمانية مناقض لتعاليم الاسلام، فانه سيتخذ منها واحداً من موقفين:

الاول- ان يعتبر العلمانية مستوردة وخطراً كبيراً على الاسلام فيدعو لتكفير من يقول بها ويعمل على محاربته ولا يقبل معه مهادنة او محاورة. وهنا يدخل في دائرة التعصب المنافي لقواعد الديمقراطية السليمة ولمبادئ التسامح في الاسلام.

الثاني- فهو ان يسعى بالتي هي احسن وبكل ما لديه من حجة ومنطق لكي يدفع هذه الفكرة ويمنع انتشارها بين المواطنين مع اعتباره المؤمنين بها ليسوا كفرة تجب محاربتهم بكل الوسائل وانما مخطئون ويمكن مناقشتهم والعمل على تحويلهم الى وجهة النظر التي يعتقد بصحتها، وبذلك ينسجم مع مفاهيم الديمقراطية الصحيحة في هذا العصر، ومع تعاليم الاسلام التي تأمر بالتسامح والدعوة الى الايمان بالحجة وبالتي هي احسن وبالموعظة الحسنة وفق ما جاء في القرآن الكريم: لا اكراه في الدين وجادلهم بالتي هي احسن.

من البديهي ان حقائق الحياة لو كانت واضحة لكل انسان وفي مستوى واحد لما وقع أي خلاف حولها بين الناس وهذه المسألة تصبح اكثر صعوبة وتعقيدا كلما كانت الحقيقة التي نفتش عنها متصلة بالحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية، حيث ترتفع نسبة العوامل الذاتية والعاطفية ومؤثرات الظروف والبيئة الخاصة والثقافة الشخصية، وقد تجتمع هذه كلها لتلتقي بآثارها وتأثيراتها على أي موقف يتخذه المرء تجاه أي قضية معينة، فيختار ما ينسجم مع هذه العوامل والمؤثرات وهو يظن انه على حق وصواب مع انه منجرف من حيث يدري او لا يدري مع اهوائه وميوله.

هناك ملاحظة اخرى في هذا المجال وهي ان احدنا يطرح رأيه في قضية سياسية من زاوية معينة ويبقى مشدوداً اليها متحمساً لها ظناً منه بأنها الحقيقة كلها او اهم ما فيها ولا يقيم كبير وزن الى ما سواها.

ولو اخذنا على سبيل المثال ظاهرة الانقلابات العسكرية فقد يرى احدنا فيها ظاهرة معبرة عن التخلف لانها تكثر او لا تكاد تقع الا في الدول المتخلفة، وقد يراها الآخر نتيجة لضعف القوى الوطنية والاحزاب السياسية والمنظمات الشعبية وتناحرها وانقساماتها التي تغري العسكريين بالقفز الى السلطة بانقلاب عسكري.

وقد يرى ثالث انها نتيجة لغياب التقاليد الديمقراطية الراسخة ولضعف الجوانب الاخلاقية، وقد يرى رابع انها بفعل التآمر الخارجي من الدول الكبرى التي تريد بسط هيمنتها عن طريق الانظمة العسكرية حيث يسهل مد نفوذها فيها قياساً للصعوبات التي تواجهها عندما تكون الانظمة شعبية ديمقراطية.

وبعد، لو امعنا النظر في هذه الاراء لوجدنا ان كلاً منها على جانب من الصواب من حيث الزاوية التي نظر اليها لظاهرة الانقلابات العسكرية، وهذه الاراء المتعددة يكمل بعضها بعضاً. ولكن الخطأ في ان تعتبر الحقيقة كلها محصورة في رأي واحد، طالما انه مشدود الى نقطة مضيئة واحدة تحجب رؤيته الواضحة للنقاط الاخرى. ووحدانية السبب في مثل هذه الامور السياسية غير واردة، ومن هنا نستطيع القول: ليس من الضروري ان ينتهي الحوار حول قضايا الحوار ويثري المعلومات عند المتناقشين ويفتح اذهانهم على افاق لم تكن معروفة لديهم.

من المعروف ان حياة البشر تتسع لشتى الاراء والمعتقدات والمذاهب الفكرية والسياسية ،ويكفي ان تكون هذه الاراء والمعتقدات والمذاهب كثيرة متنوعة، وتستقطب اعدادا كبيرة من الناس حتى يكون فيها ما يبرر هذا الاستقطاب، وبغض النظر عن مدى بعدها او قربها من الحقيقة العلمية فانها تعبر عن واقع اجتماعي وسياسي قائم، وتفصح عن ارادة شرائح معينة من المجتمع فان كان هنالك قطاع جماهيري واسع مؤمن بعقيدة سياسية دينية، وحتى لو كانت بمنطلقات غيبية ومفاهيم سلفية ولكنه مستعد للعمل والتضحية من اجلها، فلا بأس من قيام حزب او حركة تستقطب امثال هؤلاء شريطة الا يعبأوا بالكراهية للقوى السياسية الاخرى، مهما كانت مخالفة لما يؤمنون به والا يبنوا علاقاتهم مع الاخرين على اساس من التعصب والتفكير لمخالفيهم بالرأي.

واذا وجد قطاع آخر لا يندفع بالنضال في سبيل الوطن والمجتمع الا على اساس فكري منسجم مع مفاهيم العصر السائد كالعلمانية والليبرالية، فلا بأس من انضمامه الى أي حزب يحقق له هذه القناعة شريطة الا يتوجه الى معاداة الاخرين المعارضين لقناعته، والى التعبئة ضدهم بروح الحقد المؤدي للتصادم والاقتتال علماً بانه لا بد لنا هنا من التوضيح مرة ثانية، ان قولنا هذا لا يعني الدعوة لالغاء التنافس والصراع بين القوى المتعارضة في مفاهيمها وارائها لانهما من طبيعة الحياة البشرية ومن مقتضيات التطور ولأن الحياة كلها قائمة على الصراع بين المتناقضات. وانما اردنا التنبيه الى اهمية التقييد بالاساليب السليمة للحوار الديمقراطي لانها تضع هذا الصراع على طريق البناء والتقدم بينما تضعه الاساليب الخاطئة في الطريق المؤدية للهدم وتبديد الطاقات.

ان القوى الوطنية والاحزاب السياسية والحركات الشعبية لم تهمل التثقيف على اهمية التعددية الفكرية والسياسية فحسب وانما استهدفت التثقيف لديها فكرياً وسياسياً وتنظيماً شد الاعضاء وربطهم بالحزب ربطاً متيناً وتكوين اعتقاد راسخ في اذهانهم بسلامة الاهداف والمبادئ التي ينادي بها حزبهم والتي قبلوا الارتباط بها.

ومما يؤسف له ان جانباً غير قليل من التعبئة والتثقيف يقوم على تسفية مبادئ الاحزاب الاخرى والطعن في اهدافها، وذلك لتحسين العضو من تأثيرات تلك الاحزاب وجعل صلته بحزبه ثابتة غير قابلة للتحول والتبدل. وهذه مسألة تكاد تكون عامة لدى جميع الاحزاب وتتسم في كثير من الاحيان بطابع اعلامي رخيص يتعارض مع الروح الديمقراطية ويحمل الكثير من التشويه والتجني على الحقيقة الموضوعية.

ان هذا الاسلوب لا يمكن تجاهله والدعوة الى التخلي عنه طالما ثبتت اهميته وجدواه في تحصين الاعضاء من التراخي والفتور وضعف الايمان وهي شروط ومواصفات لا بد من توفيرها لدى الاعضاء في كل حزب او حركة عقائدية لكي يستمروا في النشاط والاندفاع نحو البذل والنضال. ولكن مهما كان لهذا التثقيف التحصيني من فوائد ايجابية فيما يتصل بشد الاعضاء الى حزبهم فان له بالمقابل اضرار تفوق الفوائد المرجوة منه وفي مقدمتها تعويد الاعضاء على التعصب والانغلاق وعدم النظر الى الحقيقة كقوة اساسية او قيمة ثمينة في حياة الانسان ان لم نقل انها القيمة التي تعلو على كل القيم.

وفي رأيي ان وجود مثل هذه المواصفات السلبية لدى العضو في أي حزب عقائدي ينتزع منه الكثير من مواصفات النضال وشروطه، ذلك لان الفكر الحر المتفتح والذي يحترم الحقيقة ويلتزم جانب الحق ويتحلى بالصبر والتسامح والتواضع ويحسن الاصغاء للآخرين ويحترم ارائهم هو القادر على اكتساب ثقة الجماهير وانتزاع تأييدها له، ولأهدافه التي يدعو لها.

وأيا ما كان الامر، فانه من غير المستحيل في نظري بلوغ السبيل الافضل في هذه المسألة، فاذا كان من المشروع والمفيد بان شد اعضاء الحزب الى حزبهم وتمتين ارتباطهم به بتثقيفهم على ان مبادئهم هي الافضل وفيها الحل الامثل فليكن ذلك بعيداً عن الطعن والتجريح بغير حق بمبادئ ومواقف الخطأ لها بشكل موضوعي وهي كثيرة في كل حزب او حركة. كما يجب ان نعترف لأي منها بما لها من مواقف ايجابية وبذلك نربي الاعضاء على قول الحقيقة والحق. ويغدو تأثيرهم على المواطنين اشد واقوى من أي منطق دعائي كاذب مهما تبرقع بالفصاحة والبلاغة والالفاظ البراقة.

ومن هنا تظهر لنا الصلة الوثيقة بين الاخلاق والديمقراطية، ولا بد من ان نضيف في هذا الصدد ملاحظتين:

الاولى: ان معظم السياسيين التقليديين يعتقدون بان السياسة فن والمناورة والمداورة والبراعة في التكتيك وتضليل الاخرين، بل ان نسبة كبيرة منهم وبخاصة عندما تكون في السلطة تطبق المبدأ الميكافيلي المعروف في السياسة والذي يتلخص بعبارة- الغاية تبرر الوسيلة- وهو المبدأ الذي يسمح لمعتنقه باعتماد كل الوسائل الاخلاقية وغير الاخلاقية من كذب وتضليل ومن غدر وعنف.. اذا كان ذلك يحقق الهدف الذي يريد الوصول اليه ولكن في المجتمعات التي يكثر فيها الكذب والتلاعب ويتفشى التضليل والغش ويزداد التحريف والتزييف للحق والحقيقة تصبح الحاجة امس واقوى للقادة والمناضلين الذين يجسدون في مواقفهم كل القيم الاخلاقية والايجابية المناقضة لتلك العلل والامراض. والذين يتحلون بالصدق والصراحة ويلتزمون بالحق والحقيقة ولا يقولون اكثر مما يفعلون. وهذه هي المبادئ التي يجب ان تحكم العلاقة بين القادة والقواعد في الحزب الواحد، وبين المناضلين والجماهير، والى حد كبير بين الاحزاب في مسيرتها النضالية وعند تعاملها في القضايا الاساسية.

على ان اخطر ما يهدد الاحزاب بالتمزق والتفسخ هو ظهور التكتلات في داخلها على اساس الولاء الشخصي والطموحات غير المشروعة حيث تتستر وراء اهداف وشعارات مثالية فيها طابع المزايدة والحرص على التمسك بالمباديء، ولكنها تتسقط اخطاء الاخرين المنافسين وتعمل على نشرها وتضخيمها، وهي في حقيقة الامر تستهدف التسلق الى مراكز القوة في الحزب، وفي الحكم اذا كان الحزب حاكما. وما يرافق هذه التكتلات عادة من تبادل الاتهامات الشديدة، كالخروج عن المبادئ والرجعية والعمالة والانحراف، دون ان يكون لمعظمها اساس او دليل ثابت، اذ لا يؤكد غياب الوعي لمضمون الديمقراطية واسلوبها الصحيح فحسب وانما يؤكد ضعف الجانب الاخلاقي والتربوي بين الاعضاء. وليس من الصعب ان نلاحظ ظواهر الانقسام والتشرذم في المجتمعات المتخلفة اكثر واوسع مما هي في المجتمعات المتقدمة.

اما الملاحظة الثانية: فتتصل ببعض الاقوال الرائجة والتي يعتبرها الكثيرون قواعد مهمة لأي حوار، كالقول بأن –حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة- ويتضح من مضمون العبارة، ان الشك باقوال الآخرين هو الاساس، غير ان منطلقا كهذا لا يعقد الحوار ويجعله صعباً فحسب وانما قد يدفع الى الشطط والقفز عن الواقع، وهذا امر معروف، لان الافراط في الشك يتحول الى داء الشك ولا يخدم الوصول الى الحقيقة.

ولئن كان في الدعوة الى الشك عنصر ايجابي وهو التنبيه الى ضرورة الحذر من الخديعة والابتعاد عن الانزلاق في مطبات الوقيعة عند الدخول في حوار او مناظرة بين فئتين متنافستين او متناحرتين او مع عدو اجنبي، فان الانطلاق من سوء الظن عند النقاش حول قضية فكرية او سياسية بين فئات وطنية تريد الوصول الى الحقيقة وخدمة المجتمع، يغدو ضاراً ومعرقلاً لمجرى النقاش الديمقراطي السليم، وفي مثل هذا الحال فان مضمون الآية الكريمة – اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن اثم – يصبح اولى بان يؤخذ بعين الاعتبار. وهذا لا ينقض القاعدة العلمية المعروفة- الشك هو الطريق الى اليقين- على حد تعبير ديكارت والمعروف بالشك المنهجي والذي يعني- رفض ما فيه ادنى شك لنرى ماذا بقي شيء لا يمكن الشك فيه ابداً- وهذا شك نظري مؤقت لا ينطبق على الحياة العملية.

مما تقدم نخلص الى القول: ان الشك والحذر مطلوبان مع الاعداء وفي حالات التفاوض من اجل المحافظة على افضل الشروط والمكاسب، ولكن عندما يصبحان قاعدة تتبعها الاحزاب والشخصيات السياسية والنضالية في الوطن الواحد تجاه بعضها وتجاه الشعب، وفي داخل الحزب الواحد فمعنى ذلك ان العلاقة بين المتحاورين علاقة سلبية لا تستند الى الثقة والرغبة الصادقة في التفتيش عن الحقيقة، وان ثمة خللاً جوهريا في اسلوب الحوار والتعامل يزيد الامور سوءاً وتعقيداً اذا ما استمر ولم يعالج بما يستحق من الاهتمام والتصحيح.

هناك اشخاص بطبيعتهم عصبيون سريعوا الانفعال وردود الفعل، وان لديهم حساسية مفرطة تجاه اللهجة واسلوب المخاطبة وحتى تجاه بعض الالفاظ التي يرونها فجة وغير لائقة فيتأثرون بها وينفعلون منها منطلقين من ان في استخدامها استخفافاً بهم او تعريضا بشخصهم. وتشتد حساسيتهم عندما يكون ذلك في معرض الرد عليهم والمعارضة لوجهة نظرهم. وليس من النادر ان يعتبروا ذلك الاسلوب اهانة مقصودة او تجريحاً معتمداً فيقابلون بانفعال وردود فعل مما يعطل لغة العقل والمنطق.

ولا شك ان مواقف الغباء والتعصب للرأي، والاستخفاف باراء الآخرين واستخدام بعض الالفاظ النابية من الامور المثيرة للاعصاب ولكنها تظل امورا طبيعية بين بني البشر ولا نستطيع ان نزيلها ونتخلص منها بل يمكننا تقليصها والتخفيف منها وتطويق نتائجها السلبية بالتربية والتوجيه في المنزل والمدرسة والحزب والمؤسسات الاخرى. وكل شيء في هذه الحياة قابل للتهذيب والتشذيب وللضبط والتقنين، واكاد اقول ان الديمقراطية نفسها يمكن ان يكون لها من القواعد والضوابط الذاتية والموضوعية ما يشبه ممارسة لعبة كرة القدم، واعني كالمباراة الرياضية يمارس اللاعبون فيها نشاطهم ضمن اصول وضوابط محددة ثم تنتهي بفوز مؤقت لاحد الاطراف من دون ان تترك احقاداً وخصوماً بين المتبارين .

وهنا لا بد من ان نلاحظ اننا كبشر نختلف كثيرا في الامزجة والطبائع، فبعضها قادر على الصبر والاحتمال ويأخذ الامور بحسن النية وبالحكمة والروية، في حين ان بعضنا الاخر انفعالي يثور لأتفه الاسباب ويسيء الظن بالاخرين ويشك فيما يقولون.

ولذلك او من اجل ذلك كان الاختلاف في الاسلوب وتلقي الانطباعات وفهم العبارات كما هي او تحميلها اكثر مما تحتمل من المعاني من الامور الطبيعية غير المجهولة من العاديين والبسطاء من الناس. ولكننا مع ذلك نلاحظ ان الكثيرين تغيب عنهم هذه الحقيقة عندما يتناقشون مع الاخرين فيستسلمون لعواطفهم وللاساليب الانفعالية اللاعقلانية وينساقون مع منطق يفتقر الى الانصاف والموضوعية.

وبعبارة موجزة: ان للانسان طبائع ملازمة لحياته وتكوينه، كالانفعال والحماسة وعدم الدقة واللباقة والذكاء والغباء. فاذا تذكرنا ان هذه الحالات طبيعية في حياة الانسان وان علينا ان نتحرر قدر المستطاع من الاهواء والميول العاطفية في أي حوار نستهدف منه الوصول الى الحقيقة فان هذا يساعدنا على استبعاد السلبية وسوء النية عن اجواء الحوار ويضفي عليه طابعاً عادياً وديمقراطياً.

عندما يكون المحاور ملتزماً باهداف حزبية معينة او عندما تهيمن على ذهنه قناعة راسخة بصحة القضية التي يناقشها كنتيجة لثقافته وللمعطيات التي كونت هذه القناعة لديه يصبح الحوار معه غير مجد ولا يؤدي الى نتيجة واضحة، لانه بذلك يكون كمن يكلف بتبليغ موقف محدد من مرجع اعلى ويفوض باستخدام ما لديه من حجة ومنطق لاقناع من يراد تبليغهم من دون ان يكون له حق التصرف او التعديل في مضمون القضية وجوهرها، وكذلك الامر بالنسبة لمن يتشبت برأيه لاسباب ذاتية تتعلق بطبيعة تكوينه النفسي. ومن هنا نستطيع ان نقرر ان الحوار عندما يأخذ هذا المنحى الذي تسيطر فيه الاراء المقيدة والقناعات الثابتة والعناد في الرأي يغدو ضرباً من الجدل العقيم الذي لا جدوى منه ولا طائل فيه.

هكذا يظهر لنا مما تقدم.. ان الخطأ لا يكمن في مسألة النقاش ولا في جوهر القضايا المطروحة وانما في اسلوب النقاش المفتقر لوعي الاسس والضوابط الضرورية للحوار الديمقراطي السليم وللايمان بها وممارستها بصورة عفوية. ومن هذه الاسس: ان يعي ويؤمن بأن الادعاء بامتلاك الحقيقة واحتكار الصواب نوع من الغرور والطغيان. وان بلوغ الحقيقة يحتاج الى كثير من التجرد والموضوعية بعيداً عن المجاملة او المعاندة. وان الحوار والتشاور يساعدان على بلوغها اكثر من التفرد والجهد الشخصي. وان حسن الاصغاء واحترام اراء الاخرين مهما كانت خاطئة او تافهة شرط اساسي وانه لا شيء ثابت ومطلق في القضايا السياسية والاجتماعية بل هو قابل للتبديل والتطوير..

ولا ريب في ان وعي هذه الاسس والضوابط وتطبيقها يتطلبان مستوى رفيعاً من الثقافة والتجرد قلما يتوفران لغير العلماء والباحثين عن الحقيقة. ولكن هذا لا يعفينا من المسؤولية ولا يجب ان يدفعنا الى الاهمال والتخلي عن السعي لوعيها وتطبيقها على اوسع قطاع من المواطنين، كلما وحيثما امكننا ذلك.

ان ظاهرة الحوار الحاد والمناقشات الحامية معروفة لدى شعوب العالم وبين بني البشر كافة ولكنها في المجتمعات النامية ومنها مجتمعنا العراقي تتسم كما نلمس بطابع الحدة والشدة وبالانفعال وردود الفعل اكثر مما نلاحظه عند الشعوب المتقدمة على وجه الخصوص حيث يندر ان يؤدي تضارب الاراء الى التضارب بالايدي في برلمان الدول المتقدمة، وتندر فيها حالات الاضطراب والعنف وتكسير صناديق الاقتراع وعمليات الغش والتزوير، وعند انتهاء عمليات الانتخاب يهنئ الفاشلون خصومهم الفائزين، بينما تكثر هذه الظواهر العنيفة والشاذة في المجتمعات النامية، ويزداد الحقد والتباعد بين الفائز والفاشل، وان دل ذلك على شيء فانما يدل على مدى الوعي الفكري والسياسي ومدى الفهم للديمقراطية والايمان بها. ولكن استقصاء هذه الظاهرة بشيء من الدقة والتفصيل لمعرفة ما اذا كان للطبائع الموروثة او لعوامل البيئة الجغرافية والاجتماعية او لحالات التخلف دور واثر فيها، وقد يخرجنا عن الاطار المحدد لهذا الموضوع فضلاً عما يتطلبه من جهود وابحاث علمية من ذوي الخبرة والاختصاص في علم الاجتماع والانتروبولوجيا.

ومهما يكن من امر الاسباب والعوامل فان ظاهرة الانفعال والغضب والاتهام اثناء النقاش تعبر عن فهم خاطئ ووعي قاصر لمبدأ اساسي ومهم من مبادئ الديمقراطية وهو المبدأ الذي يفرض القبول بالرأي المخالف على انه مجرد رأي لا ينال من كرامة المحاور ولايمس عقيدته ولا يثلم هيبته وبالتالي لا يستوجب الانفعال وردود الفعل العاطفية ولا يستدعي الاتهام ولا التجريح والتشكيك، رغم ما قد يبدو من ضعف وسخف في الرأي المعارض او من عرقلة لمسار التطور.

ومما تقدم نخلص الى النتيجة التالية وهي: ما لم نصل الى مستوى كافٍ من الوعي لمبدأ التعددية الفكرية والسياسية والايمان به وممارسته بعفوية، فسيبقى مجرد لفظ يردده اللسان ولا يرتبط بالوعي والايمان، وسيبقى تعدد الاحزاب مؤدياً للصراع المبذر للطاقات، وعاملاً من عوامل التمزق واستمرار العجز والشلل وارضاً خصبة للطامعين في التفرد بالسلطة لكي ينسفوا الحياة الديمقراطية من جذورها.

ما هي الاسباب؟

لئن كان من المتعذر ان نتحرى بالدقة والتفصيل اسباب الظاهرة المذكورة وبخاصة ما يتصل منها بالتراث والحياة الاجتماعية، فان هذا لا يعفينا من تلمس الاسباب المهمة منها، والاشارة الى ملامحها العامة. ففي تقديري ان اهمها وفي مقدمتها:

1. اوضاع التخلف الفكري والسياسي والاجتماعي في هذه المرحلة من حياتنا كمجتمع ووطن.

2. فقدان التقاليد العلمية والديمقراطية في مجتمعنا العراقي منذ مئات السنين، حيث طغت عوامل التجزئة والتفكك والهيمنة الاجنبية في وطننا.

3. ضعف التربية وهزال الثقافة التي يتلقاها الطلبة في المدارس والجامعات وعدم الاهتمام بمسألة الديمقراطية من حيث المضمون والاسلوب والممارسة وعدم تعميق الفهم لها والايمان بها.

4. ضعف التأثير التوجيهي للاحزاب والمنظمات السياسية والنقابية في هذه المسألة.

5. الدور السلبي للانظمة العراقية المتعاقبة ملكية وجمهورية وبخاصة الفردية والبوليسية منها التي تقتلع الديمقراطية او تبقى منها على الاشكال والمظاهر كالنظام البعثي الذي حكم عراقنا العزيز، حيث صرف انظار جيل الشباب نحو امور مادية تافهة ومنعه من ممارسة الحياة الديمقراطية السليمة، وحيث خاطب الحاكم البعثي ابناء الشعب وكأنه يملك وحده ناصية الحقيقة، وعلى المواطنين ان يصدقوا ويصفقوا ويمتثلوا للاوامر الصادرة عنه بالرغم مما يغلب عليها من زجر وقسر. وحيث تنمو في اعماق كل مواطن مشاعر الخوف الى الحد الذي يشعر معه وكأن رجل الامن يرافقه كظله ويحصي عليه انفاسه، ويفرض عليه الطاعة والانصياع ويقتل فيه روح المبادرة والابداع.

وبعد، فما اعظم الفرق بين ان يشب الطفل وكل ما حوله في البيت والمدرسة والحياة العامة ومؤسسات الحكم تدفع به نحو الطاعة والخضوع والانصياع وبين ان يشب في جو من الحرية والحياة الديمقراطية والقدرة على ممارسة النقد والحوار والمبادرة.

اما فيما يتعلق بالتراث والطبائع الموروثة وفيما اذا كان لها دور سلبي في فهم الانسان العراقي للديمقراطية وممارستها بالاسلوب الصحيح، فأنني وبحدود معلوماتي التاريخية استطيع القول ان تراثنا العربي الاسلامي حافل بالعادات والتقاليد والتوجيهات التي تنم عن فهم دقيق لمضمون الديمقراطية واسلوب ممارستها على النحو الصحيح. فكثير منها يلتقي مع الديمقراطية من حيث النتيجة والجوهر مثل الاهتمام بالحلم والصفح والتسامح.. وكلها تعني الصبر واتساع الصدر لاي خطأ او اساءة تصدر عن الاخرين. وفي هذا لجم الانفعال وردود الفعل المنافية للديمقراطية. ولو امعنا النظر فيها لوجدناها ايضا تحمل روح المحبة وهي اروع وانفع ما اودعه الله لبني البشر كيما يتعايشوا بأمان واطمئنان ولكيما يمضوا في طريق البناء والتقدم.

الا ترون اننا عندما نناقش مع شخص نحبه، نميل الى التساهل معه، وقلما نؤاخذه ونتحسس منه، اذا ما اخطأ في التعبير عما يريد طرحه او اذا ما كان جافاً وغير دقيق في الفاظه، في حين ان نقاشنا مع شخص لا نحبه يقودنا الى كثير من الحذر والتذمر، ونجنح الى التفسير السلبي عند استخدامه لعبارات فجة وغير دقيقة.

ان الصراع الطبقي حقيقة واقعية لا يمكن انكارها، وكما يشير تاريخ البشرية فانه لا يقف عند حدود الصراع الفكري والسلمي بل كثيرا ما يأخذ طابع الحقد والعنف والاقتتال، لان الطبقات المستغلة المستحوذة على السلطة والثروة لا تتخلى عن امتيازاتها بالحوار الديمقراطي، أي بالحجة الدامغة وبالتالي هي احسن بل بالقوة وبالتالي هي اخشن.

وهنا ترد الاسئلة التالية:

السؤال الاول: كيف نوفق بين الايمان بالصراع الطبقي وما يستلزمه من تعبئة سلبية تبلغ حد العنف ضد الطبقة المستغلة وضد الاحزاب التي تمثلها، وبين الدعوة الى التعددية الفكرية والسياسية واعتماد الحوار الديمقراطي سبيلاً لتحقيق الاهداف الرامية الى التغيير الجذري والقضاء على عوامل التخلف والاستغلال؟

الاجابة عن هذا السؤال ذات شقين: يتعلق الاول منها بالقوى الوطنية والاحزاب السياسية والمنظمات الشعبية.. وعلائق بعضها ببعض. والثاني يتعلق بالموقف من الفئات الحاكمة ومتى يمكن استخدام العنف ضدها؟

عندما تتيح القوانين والانظمة حرية العمل والنشاط للاحزاب والتنظيمات السياسية، فمن غير المفيد بل ومن غير الجائز ان يتحول التنافس بين هذه الاحزاب الى صراع حاد تستخدم فيه القوة والعنف بل عليها ان تلتزم بمبدأ التعددية الفكرية والسياسية. وان تدرك انها وجدت لكي تتفاعل وتتكامل وليس لكي تحترب وتتقاتل. وان قضايا النضال التي تستوجب المشاركة واللقاء فيما بينها تظل كثيرة وكافية للتعاون والعمل المشترك.

وفي تقديري، يغدو من الخطأ القاتل والجهل الذي لا يغتفر ان تتقاتل الاحزاب والقوى السياسية في حالات ثلاث:

الحالة الاولى: في الوقت الذي يكون فيه الحاكم المستبد هو المستفيد من ذلك بترسيخ حكمه وامعانه في مصادرة الديمقراطية وتشويهها، ذلك لان القوى الوطنية والاحزاب السياسية والمنظمات الشعبية ما دامت مشغولة بخلافاتها وتبذر طاقاتها بالمنازعات الحادة فيما بينها، فان ثقة الجماهير بها تخف وتضعف بحيث لا ترى فيها البديل الافضل للنظام القائم، بالاضافة الى ان هذا المناخ من المنازعات يشكل للحاكم مبرراً مهماً لكي يشدد قبضته على الحاكم ويمضي نحو المزيد من التفرد والاستبداد.

الحالة الثانية: عندما يكون في البلاد حد ادنى من الحياة الديمقراطية فان المنازعات المذكورة بين القوى والاحزاب والمنظمات تخلق جوا نفسيا وسياسيا مواتيا لدول الاستعمار الحديث لكي تمد نفوذها وتبسط هيمنتها الاقتصادية وذلك بان تساعد في الوصول الى الحكم فئات اكثر موالاة واستعدادا للتعاون معها او بأن تشجع الانقلابات العسكرية التي تقدم بعض المنجزات والاصلاحات السريعة المغرية مقابل نسفها للحياة الديمقراطية وقطع الطريق على النمو الطبيعي الصاعد للحركة الشعبية. ولقد اثبتت التجربة في عراقنا العزيز، ان الانظمة الفردية والعسكرية التي تولت السلطة فيه غدت بالفعل معزولة عن الجماهير. وكلما اشتدت عزلتها اشتد تجاوبها مع الدول الاجنبية الطامعة في الهيمنة ومد النفوذ كلما ازداد استعدادها للتعاون معها والاستقواء بها.

الحالة الثالثة: واخطر انواع الصراع، ذلك الذي يحصل داخل التنظيم الواحد، فعندما تنشأ التكتلات التي تدعي المحافظة على اهداف التنظيم ومبادئه وتتهم غيرها بالشطط والانحراف وتتشبث بمواقفها فلا تقبل بالحوار الديمقراطي لحل الخلاف الفكري ولا ترضى بالخضوع لرأي الاكثرية تحت ذرائع شتى فلا بد من ان تتصاعد حدة الخلاف وتبادل الاتهامات ويشتد التراشق فيما بينها باقوال جارحة حتى ينتهي الى نهايته وهي الانقسام العلني حيث تخرج احدى الكتل لتشكيل تنظيماً اخر مستقلاً او قد يطرد القوي منها الضعيف، وعندما يكون التنظيم في السلطة فان اللجوء الى السلاح واستخدام القوة يغدو امراً وارداً ويسهل اعتماده طالما ان التكتل في حقيقته لا يتقيد بمضمون الديمقراطية ولا بأسلوب الحوار الديمقراطي ولا يراعى حرمة للشرعية والقيم الاخلاقية. وهكذا تتكرر المأساة وتستمر الانشقاقات الى ان يفقد التنظيم هيبته ومصداقيته امام الجماهير، ولا تبقى لديه القدرة على استقطابها والتأثير عليها.

ولا ريب في ان كثرة الانشقاقات وطابع الحدة والعنف الذي يرافقها تنعكس سلبا على هذه القوى والاحزاب والمنظمات الشعبية كلها من حيث علاقتها بالجماهير من جهة وباضعاف معنويات الاعضاء وحماستم لها من جهة ثانية. ولا يخفى ما لهذه الحالات عند اتساعها من اثر في بقاءالحركة الشعبية بفصائلها المختلفة، ضعيفة وغير قادرة على ان تأخذ دورها الحقيقي الفعال في مسار الاحداث وتسيير دفة الحكم وفي الحيلولة دون قيام او استمرار الانظمة الفردية والبوليسية والرجعية الواقعة تحت نفوذ الدول الاجنبية.

اما بالنسبة للشق الثاني من السؤال المطروح فيمكننا القول: عندما يتوفر حد معقول من الديمقراطية، حيث يفسح المجال لتشكيل الاحزاب والنقابات المهنية والعمالية واصدار الصحف المعبرة عنها وحيث تتاح حرية الاجتماع والاحتجاج والتظاهر، أي عندما يصبح للكلام والتوجيه تأثير على الجماهير، فمن الخطأ اعتماد العنف واستخدام السلاح في الاطاحة بالنظام طالما ان مسار الحركة الشعبية باتجاه التقدم وطالما ان التغيير الجذري يمكن تحقيقه بالنضال الشعبي.

وهذا التغيير مهما تأخر تحقيقه يكون اعمق واشمل واكثر رسوخا وفائدة. ومن هنا يغدو استخدام العنف اجهاضا للحركة الشعبية واعطاء الذريعة لوقف تقدمها الطبيعي السليم بانقلاب عسكري او بتدابير بوليسية قمعية جديدة، كما جرى ولا يزال في اغلب المجتمعات النامية. ولكن عندما تكون الحريات الاساسية المنصوص عليها في الاعلان العالمي لحقوق الانسان غير متوفرة حيث تصادر حرية الفكر والرأي والتعبير والنشر وحق الاعتراض والتظاهر، ويمنع قيام الاحزاب المعارضة، وتصبح النقابات مجرد واجهات للسلطة لا يسمح لها بغير التأييد والتصفيق وعندما يطغى العمل بقوانين الطواريء والاحكام العرفية وتكثر المحاكم التي تعطل دور القضاء العادي العادل كمحاكم امن الدولة والمحاكم العسكرية والاستثنائية والميدانية وما شاكل ذلك من هذه التسميات، وعندما يشعر المواطن بانه غير آمن على حريته وأمنه وكرامته، ويعتبر مذنبا حتى يثبت براءته وليس بريئا حتى تثبت ادانته، وعندما يتم الاعتقال بدون محاكمة للمواطنين ولا يسمح لذويهم بمعرفة اماكن اعتقالهم، وحيث يمارس التعذيب الجسدي والنفسي بشكل واسع بشع وتجري التصفيات والاغتيالات السياسية للمعارضين في الداخل والخارج وتصبح وكأنها من الامور العادية في سلوك النظام الحاكم، حيث يصبح من الجائز بل من الواجب مقاومته بكل وسائل العنف المتاحة.

لقد ورد في ديباجة الاعلان العالمي لحقوق الانسان ان هذه الحقوق اذا لم تكن محمية بالقانون فيجوز التمرد على الظلم كما نصت هيئة الامم على حق استخدام الكفاح المسلح للشعوب المستعمرة. ففي اعراف حقوق الانسان والشعوب.. “ان كل شعب انتهكت حقوقه الاساسية بخطورة له الحق باستعادتها بالنضال السياسي او النقابي. وان يلجأ الى استخدام القوة”. وهنا لا بد من التذكير بأن استخدام القوة والعنف يجب ان يكون ضمن خطة محكمة حكيمة حتى لا يكون ذريعة بايدي الحكام لكي يضاعفوا البطش بالمواطنين ويرهبوا المعارضين ويشلوا حركتهم بالشكل الذي يطيل عمر النظام بدلاً من زعزعته والاطاحة به.

السؤال الثاني: اذا أمن مواطن بقضية معينة وكان صادقا بينه وبين نفسه حين يعتبرها حقيقة ناصعة لا مجال فيها للشك والارتياب، فكيف نلومه عندما يتمسك بها ويتشبث برأيه عند النقاش حولها؟ أليس من شأنه في ذلك شأن الانسان العالم الذي يتمسك بالحقيقة العلمية ويدافع عنها حتى الموت، وحين يكون الدفاع عن الحقيقة فضيلة ونضالاً؟

ان الايمان الشديد المطلق بعقيدة سياسية او بقضية معينة الى حد الاستشهاد من اجلها لا يخضع لقواعد العلم والمنطق ولا يرتهن بالحقيقة العلمية وان كانت فئة المثقفين الواعين لا يشتد ايمانها بها الا بقدر ما تكون علمية ومنسجمة مع روح العصر ومتطلباته.

اما بالنسبة للجماهير فان الكثيرين منهم يؤمنون بعقيدة سياسية من مسلمات دينية وفوقية او من منطلقات ايمانية غبية. ويندفعون للتضحية من اجلها بالنفس والنفيس.

ومهما يكن من امر الوسائل والمنطلقات التي تدفع بالمواطن- أي مواطن- الى الايمان المطلق بعقيدة سياسية، ومن ثم الاندفاع من اجلها عن طريق التضحية والنضال، وبغض النظر عن مدى تطابقها مع الحقائق العلمية فان النتائج من الفائدة والاهمية بالقدر الذي يصبح معه المؤمن بتلك العقيدة مستعداً للنضال والعطاء بعفوية وسخاء. ونحن وان كنا لا نعترض على أية وسيلة تنمي في نفس المواطن هذا الايمان فاننا نعتقد بان ما ينتج عنه من تعصب للرأي يمكن الحد من اثاره وتطويق محاذيره اذا ما ترسخت القناعة بما يلي:

بالاضافة الى ما سبق ان اشرنا اليه عن ان الحقيقة والصواب لا يمكن ان يكونا حكراً لفرد او فئة وبالتالي لن يكونا من نصيب أي عقيدة وحدها كائنة ما كانت من الدقة والعمق والشمول. وان الحقيقة ضالة المؤمن ينشدها اينما يجدها. نقول بالاضافة الى هذا، يمكننا القول بالنسبة لمن يعتبرون عقيدتهم السياسية علمية وعصرية. ان التزامهم بمنهج البحث العلمي الحديث كفيل بحملهم على النظر الى العقائد الاخرى بعيداً عن التعصب والتشبث بالرأي.

اما بالنسبة لمن كانت عقيدتهم مرتكزة الى الايمان الغيبي واليقين الديني، فان مشكلة التعصب لديهم تجاه العقائد الاخرى، تحل بالقدر الذي يلتزمون فيه بمبدأ التسامح الديني والذي سبق وان اوردنا بعض الايات والاحاديث والمواقف التي تحث عليه.

وفي هذا الخصوص تحضرني فكرة طرحها الكاتب توفيق الحكيم في معرض رده على رجال الدين المتعصبين، وتتلخص في ان الله تعالى قبل برأي مخالف لرأيه وقبل بالاحتجاج الفكري عليه فما بال المتعصبين من رجال الدين لا يقبلون. وقد استمد فكرته هذه من قوله تعالى: “واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الا ابليس ابى واستكبر”. ومعنى هذا ان الله قبل ان يسمع رأياً مخالفا لرأيه، وانه وجد في عصيان ابليس نوعا من التمرد والاحتجاج الفكري يقوم على زعمه بأن الانسان قابل للفساد، فامر الله تعالى بمد اجله ليثبت فكرته بشرط عدم المساس بعقله.

يكفي ان نذكر بان الاسلام في مقدمة العقائد والرسالات السماوية التي رفعت مستوى الايمان بها الى حد الاستشهاد من اجلها ولكنه مع ذلك لا يقر بالتعصب بل يأمر بالدعوة الى العقيدة بالتي هي احسن وبالحكمة والموعظة الحسنة. كما ورد في الاية الكريمة “وادع لربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي احسن”. ثم ان لنا من سلوك المسلمين الاوائل خير دليل . فالمسلم في صدر الاسلام كان ايمانه بعقيدته مطلقاً ويستعذب الاستشهاد من اجلها، ومع ذلك كان يرى المجادلة والمنطق والحكمة خير سبيل للدفاع عنها.

ومما تقدم ندرك مدى الحاجة الى تعزيز الايمان بالتعددية الفكرية والسياسية وبضرورة التسامح والاخذ بالمنهج العلمي الديمقراطي في الحوار. وندرك في الوقت نفسه الحاجة الماسة لايلاء هذه المفاهيم الاساسية، الاهتمام الذي تستحقه من التوجيه والتوعية والتثقيف، والتي اذا ما اخذت بعين الاعتبار فان الايمان عندئذ بعقيدة سياسية والدفاع عنها حتى الموت لا يؤدي بالضرورة الى اعتبار العقائد الاخرى خاطئة وتستوجب المعاداة والمقاومة. واذا كانت الجهود التي يمكن بذلها لترسيخ المفاهيم المذكورة في اذهان المنتمين الى مذاهب فكرية وعقائد سياسية محدودة الاثر بين القواعد العريضة فانها اكثر تأثيراً بين الاطارات والكوادر الواعية والتي لها بدورها تأثير ملحوظ في التوجيه وفي قيادة القواعد الحزبية.

السؤال الثالث: ذكرنا ان الديمقراطية ظاهرة حضارية، وان وعي جوهرها والاسلوب الصحيح في ممارستها، يتطلبان جهدا تربويا طويلاً وشاملاً للبيت والمدرسة والجامعة والمؤسسات الشعبية والحكومية. الا يعني هذا امكانية تحقيق الديمقراطية المنشودة اصبحت ضعيفة في المجتمعات المتخلفة طالما انها ظاهرة حضارية ويحتاج وعيها وممارستها الصحيحة لسنوات طويلة من التوعية والتثقيف؟

ان قولنا بأن الديمقراطية ظاهرة حضارية لا يجب ان يفهم فهماً حرفياً وبصورة مطلقة. ولعلنا نطرح المسألة بشكل اكثر دقة على الوجه التالي: حيث وجدت ممارسات ديمقراطية صحيحة فالمجتمع بالضرورة حضاري متقدم وبخاصة في ميادين الثقافة والسياسة والاخلاق. ولكن غيابها عن مجتمع ما لا يعني بالضرورة انه مجتمع متخلف بل ربما يكون متقدما في العلم والتكنولوجيا. ولكن فلسفته في الحكم قائمة على الاهتمام بالجانب الاقتصادي والاجتماعي من الديمقراطية مع اهمال الجانب السياسي فيها واعتبار الفرد وسيلة والمجتمع هو الغاية مما يلحق اكبر الضرر بالحريات العامة الاساسية كحرية النقد والاجتماع والاحزاب مع تقييد حرية الصحافة والنشر والتعبير وربطها بالدولة ليس هذا فحسب بل كثير ما يهيمن الحزب الواحد على الحكم ويقيم جبهة شكلية من قوى شعبية اخرى ثم يقع الحزب نفسه في قبضة حديدية للجنته المركزية، وقد يهيمن احد اعضائها عليها واذا بالحزب والشعب والدولة في قبضة الحكم الفردي بشكل يبعث على التذمر والنقمة، ومن ثم التفكير بوسائل جديدة للخلاص والتغيير.

ولا يخفي على المتتبع ما يجري في هذه الانظمة من محاولات شعبية جديدة باتجاه الحصول على المزيد من الحريات السياسية الديمقراطية، كما اصبح من الواضح ان القبضة الحديدية للحكام بدأت تخف وتضعف وبدأت تظهر على السطح مظاهر الاعتراض والتذمر من اساليب القسوة والكبت والفساد التي تعاني منها شعوبهم.

وفي هذا المقام لا بد من التنويه ايضا بان الانسان في ظل الكثير من الدول ذات الانظمة الديمقراطية لا يزال يعاني من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي، بل ومن التمييز العنصري، وما تزال تمارس على الصعيد العالمي ابشع انواع السياسات الاستعمارية الحديثة وما يرافقه من ظلم واستغلال للشعوب فضلاً عن دعم الانظمة الفردية والرجعية.

وكائناً ما كان الواقع، فانني استطيع القول بكثير من الثقة والاطمئنان، ان الشعوب لن تستكين ولن يستقر لها قرار ما لم تنل حريتها وتمارس الديمقراطية بشكلها الصحيح مهما طال الزمن وعز الثمن.

وفي تقديرنا ايضا انه مهما قيل عن تزايد الانظمة التي هي وليدة الانقلابات العسكرية، وعن نمو وتضخم اجهزة الامن والمخابرات مع انحسار الاهتمام بحقوق الانسان في العالم، فان مظاهر الفشل في الانظمة الدكتاتورية وردود الفعل الشعبية القوية على جميع ضروب القسر والتقييد في العالم وانهيار كثير من تلك الانظمة المذكورة يؤكد صحة ما نذهب اليه من ان مسار التقدم للبشرية هو باتجاه الديمقراطية السليمة وليس العكس.

اما فيما يتصل بالجهد التثقيفي الطويل والشامل فيمكن التوضيح ان بناء الانسان الديمقراطي يحتاج الى عامل الزمن وتضافر البيت والمدرسة والمؤسسات الاخرى بمعنى انه لا يتم بمجرد الوعظ والارشاد او بالقاء المحاضرات او ندوات محدودة عن الديمقراطية وانما يتطلب جهداً اطول واشمل يمكنه من استيعاب ابعادها وفوائدها ووعي اسسها وضوابطها الذاتية والموضوعية بحيث تصبح ممارسته لها جزءاً من حياته وسلوكه وكأنها عادة لديه يطبقها بصورة عفوية، وكلما توفرت له الشروط والظروف المواتية لتحقيق ذلك في مراحل حياته المختلفة، اقترب من الهدف المنشود.

وعلى سبيل المثال فان استعداد المواطن لاستيعاب الديمقراطية وممارستها بالاسلوب الصحيح يغدو اشد واقوى اذا نشأ بين ابوين لا يستبد احدهما بشؤون البيت وبافراد الاسرة، ويحس بانه يتراجع عن رايه اذا اكتشف خطأه، ولا تقوم التربية في البيت على الزجر والقسر وانما على المحبة والحوار والاقتناع بالتي هي احسن بينما يقل استعداده لفهم الديمقراطية وممارستها في جو بيتي معاكس لذلك.

ومن البديهي ايضا ان وعيه للديمقراطية وايمانه بها وقدرته على ممارستها تزداد وتتعمق كلما كان الجو ايجابيا وديمقراطياً في المدرسة والجامعة والمؤسسات الرسمية والشعبية التي تعامل معها. غير ان هذا الذي نذكره عن الشروط والعوامل المؤدية لبناء الانسان الديمقراطي وبخاصة من حيث الزمن والشمول. لا يجب ان يفهم فهما حرفيا يوحي بالتعقيد الشديد ويتعذر التنفيذ، ذلك لان المواطن يستطيع ان يستوعب مضمون الديمقراطية ويمارسها من دون ان تتوفر الحياة الديمقراطية السليمة في كل من المؤسسات المذكورة بل ربما يكفي ان يعيها ويتعود ممارستها في حياته الجامعية مثلا او عن طريق انتمائه الى حركة سياسية تؤمن فعلا بالديمقراطية وتعمل على تطبيقها، او من خلال الثقافة التي يكتسبها بجهوده الشخصية حتى ولو لم يتسنى له ذلك في البيت والمدرسة والمؤسسات الرسمية والشعبية الاخرى.

واخيراً وليس اخراً، فلا بد ان يبقى ماثلا في الذهن، ان الجهود المطلوبة لبناء الانسان الديمقراطي مهما كانت طويلة ومضيئة وان الصعوبات مهما كانت شديدة لا يجب ان تثنينا عن السير على الطريق الصحيح المؤدية لتحقيق الهدف المنشود. والمهم الا نيأس ولا نتردد ولا ننتظر وانما علينا ان نبدأ حيثما كان ذلك ممكناً، سواء في المنظمة الحزبية او في النقابات المهنية اذا تعذر ذلك في المؤسسات الاخرى وعلينا ان نعمل بالقول المأثور- ما لا يدرك كله لا يترك جله- وعلينا كذلك ان نتذكر ان رحلة الالف ميل تبدأ بالخطوة الاولى، وان الوصول الى اعماق البحار يبدأ من الشواطئ الضحلة.

 

مرتجيات مؤجلة:

إن التأسيس لوعي حقيقي عن مفهوم الحوار، سيكون شرطاً لقيام ثقافة الحوار، والحوار بمعناه الانساني والمثالي يقتضي القبول بالاخر ويقتضي القبول بالاختلاف، مع التسليم التام بان ليس هناك مرجعية بشرية واحدة منذ وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وان ليس هناك سوى نص متعدد الامكانات الدلالية، متعدد الوجوه، كما قال الامام علي (رض) وبانتقاء المرجعية البشرية المطلقة، ينفتح مجال الاجتهاد وتعدد التفاسير والرؤى، وهذا يقتضي تعدد المذاهب والجماعات، ومن ثم فلا بد من اختلاف وجهات النظر، وقد يبلغ ذلك مستويات كبيرة.

وامام هذا التنوع الحتمي لا بد من تنوع في التعامل مع هذا التنوع، أي تنوع الفهم وتنوع المواقف وتنوع ردود الفعل، ولا سبيل لضبط علاقات هذه الاطراف مع بعضها البعض الا بالتعايش الثقافي المفتوح والراضي بشرط الاختلاف.

ولسوف يأتي الاشكال هنا حينما يدخل سؤال الحكم وسؤال السياسة وهو الاشكال الذي حول ثقافتنا في الاصل من ثقافة الفهم وثقافة التسليم بمرجع واحد وبحكم واحد الى ثقافة التنوع ومن ثم التفسير، وبعده التأويل، ما عقد الامور حينما صار الهدف الواحد هو المفرق لا الموحد. ولقد ظل الامر يتكرر ويعيد نفسه عصراً بعد عصر وجيلا بعد جيل ولن نخلص منه الا بالقبول بمبادئ الاختلاف.

ومن هنا يأتي السؤال الجوهري، وهو: هل بالامكان تأسيس وعي سياسي اسلامي، أي هل بالامكان الجمع بين الدين والسياسة من دون ان نقع في شراك الفرقة والتكفير والنفي؟ واذا كان الدين يجمع والسياسة تفرق، فهل بالامكان ان ننتج سياسة دينية او سياسة متدينة لا تفرق ولا تكفر ولا تنفي..؟

هذه مثالية دينية واخلاقية لا شك اننا بحاجة اليها، ولا شك ان كل صاحب ضمير حي هو بحاجة اليوم الى التصدي للمطلب الانساني في الحوار، انها مهمة مقدسة في انقاذ البشرية من حال التأزم وهو تأزم تواجه فيه كل الثقافات البشرية حال انكسار وتراجع لكل القيم البشرية في الاسلام والوئام، بدءاً من ارهاب الدول الكبرى وطغيان المؤسسات السياسية والاعلامية والشركات الكبرى الى ارهاب الجماعات والافراد وقيام المظالم التاريخية الجماعية والفردية والرسمية والمؤسساتية في معركة غايتها هيمنة طرف على آخر وفي تحول خطير من مراحل الفعل ورد الفعل الى مراحل لم يعد الفعل قائما فيها، وانما اصبحت كلها ردود فعل…

ومن هنا يصير سؤال الحوار كدلالة اخلاقية وكدلالة ثقافية، وهو صوت الضمير الانساني الذي لا بد من الانتصار له والسعي من اجل قيامه، ولن يكون ذلك الا بقبول الاختلاف والرضى بان ليس هناك مرجع واحد وبان المرجعيات كلها من الحق بعضه، بما ان الحق ليس في صف واحد ولا وجه واحد.