22 نوفمبر، 2024 11:44 م
Search
Close this search box.

الحوار الثقافي المسفوح والمحاورة النقدية المبدّدة

الحوار الثقافي المسفوح والمحاورة النقدية المبدّدة

1
الأدب والواقع لا يسيران دائماً في طريق واحدة تبعاً لنظرية النقاد والدارسين للأدب أبتداءاً من أفلاطون وأرسطو وأنتهاءاً بنظرية النقد الأميركية الحديثة والتي تتراوح كما يعرف الكثير من الكّتاب بين أفضلية الأدب على الواقع لأنه يرسم صوراً نقية جداً، فهل تكلمنا أو سنتكلم عن الواقع الثقافي بصورة حرفية؟ لست هنا في مقام الدفاع عن الثقافي مثلما لست من ذلك الحشد الذي تآلف مع مشهد الثقافة (الجديدة) ولا ممن يسودون صدور الصحائف بأكاذيب تشبه الفضيحة ولست من أصحاب البطولات المزيفة والجوائز والدروع والهدايا الثقافية، الحقيقة أنني أشعر بنوع من الشفقة أو لا أدري ما أسميها عندما أقرأ ما يكتبه البعض من نصوص وبحوث أو مقالات تُخضع للإستهلاك الثقافي اليومي، وكم أتمنى أن يأتي اليوم الذي نتخلص فيه من ظاهرة الاستهلاك والتكرار، وإذا كان البعض مضطراً لذلك فالبعض الآخر (القليل) غير مضطر ولأن، هذا البعض، أساساً غير مشارك في أي نشاط سياسي أو تهريجي هذا كل شئ، يبدو لي أن لا خلاص لنا من الثقافة المؤسسية التي تقوم على الإنكار والتهميش إلا بالعودة إلى العصر الحجري من جديد، أترى أيها القارئ الفاضل ذلك عدلاً؟ نعرف جيداً أن ديمقراطية الحوار في عراق اليوم ليست مثالية ولكن العمل على ديمومتها ضرورة معرفية مثلما هي ضرورة حضارية وأنا هنا لا أتهم كاتب ما أو سواه أنما أشير لحالة الحوار المسفوح والتباساتها أو المحاورة النقدية المبددة وتداعياتها إذ لايمكن لأحد أن ينكر إن هناك فرقاً كفرق السماء عن الأرض بين الحوار والصراخ، وربما كان أهم مسببات الأختلاف بين حواراتنا الفكرية والأدبية وحتى السياسية هو أختلاف طريقة معالجتنا للأمور، هذا كل ما في الأمر . ثمة من يتصورنا دخلاء وطارئين وهامشيين نكتب بطريقة فجة وبمنتهى الأميّة إضافة إلى إن كتاباتنا لا صلة لها بنقد أو بعقد أو بضمير وثمة من يدفعنا أو يدفع لنا ولا أدري ما يدعم أعتقادهم الجازم هذا، هل هي قساوة كلام بعضنا على بعض، تلك القساوة البدائية المخيفة، إذا أختلفت أنت معي سأحطمك قبل أن تحطمني أو أتخلص منك مؤقتاً برميك في سلة القمامة أو أمارس معك تسقيطاً مبرمجاً أليست المسألة هكذا؟ مرة أخرى أقول: أترى ذلك حواراً عادلاً أم تشويهاً ممنهجاً؟ أعرف جيداً كما يعرف الكثير إن بلادنا اليوم تمر بمسيرة حراك ثقافي لا يخلو هذا الحراك من مطبات قد نقع فيها أحياناً وننهض منها أحياناً أخرى وقد يحدث فيها الخطأ والصواب معاً، إنها مرحلة شاقة في زمن عصيب وعلينا أن نعمل من أجل تحقيق ذلك الحلم الثقافي المتحضر لا أن نتراشق بالمفرد والجملة، هل إنني أحلم فقط؟ وحتى لو كنت كذلك، فأين المعضلة؟ الحلم دائماً يحتاج إلى صبر لتحقيقه، إن حلماً كهذا يحتاج إلى جهود ثقافية متمدنة مكثفة لا معارك عقائدية فاصلة، لقد مللنا منها فمتى نعلن عن وقف إطلاق نار الاتهامات الباطلة، ولكي يتحقق هذا الحلم علينا جميعاً أن ننسى بيت الشاعر عمر بن أبي ربيعة : (كلما قلت متى ميعادنا/ضحكت هند وقالت بعد غد) ألا يمكننا أقتباس أسلوب الغرب الحضاري بالحوار ثم أقلمته ليتناسب مع تراثنا وثقافتنا وأخلاقياتنا .
2
علينا التمييز بين ثقافة البوح وثقافة الأعتراف فالحوار الرصين هو فعل حضاري لا ميدان للتناطح، الحوار الرصين وثقافة الأعتراف خطان أحمران في الثقافة الفئوية السائدة، ذاك لأن الإقصاء هو السيد المطاع في كل ثقافة فئوية طائفية أو عقائدية، ولا مكان تالياً لأي خروج على القاعدة وحتى لو حدث ذلك فإنه الشذوذ الذي يؤكد على القاعدة ولا يدحضها . الحوار المسفوح والمحاورة المبدّدة قطبان أساسيان في كتابات كثيرة وتتخذان عند كل كاتب سمتاً مختلفاً رغم نقاط اللقاء بين الذي يسفح مداد الآخر وبين الذي يُبدده أو يسخر منه وحتى يكذبه، الحالتان تعلنان عن نفسيهما من خلال تقاليد جميع الأجيال الغابرة الجاثمة على أدمغة الأحياء حتى يومنا هذا والرائد لايكذب أهله، أن مثل هذا القول، على خطله، يدخل في باب الكفر بالقيم والفكر معاً، نتسأل ثانية: هل من المعقول أن ننسب مثل هذه العلل إلى الوضع الحالي فقط؟ يبدو أن الكثير من الزملاء لا تستهويه عبارة فولتير: (قد أختلف معك في الرأي ولكنني على أستعداد لأن أدفع حياتي ثمناً لحقك في الدفاع عن رأيك) وبهذا يُرمى بها وبفولتير المسكين على قارعة البلاد .
هل يتبرأ الكاتب مما كتبه في الماضي؟ ربما يتبرأ البعض مما كتبه في فترة ما ويعلن البراءة، وهذا موضوع آخر لنا عودة إليه مستقبلاً . كم كنت أتمنى على (بعض) النقد أو النقاد أن يطرح أفكاراً تستحق النقاش لا سيلاً من الاتهامات والهواجس ولا أريد التذكير، لبعض الكتاب، في هذا المقام بحادثة الشاعرين أبي العلاء المعري والشريف الرضي حول المتنبي ولكن على النقد الرصين المجرد والمعرفي أن يتحقق ويتأكد ويتيقن مما يريد قوله وأن كثير الذم مدح .
طالما أن ساحة الحوار مغلقة، فلِمَ أسمع رأيك وتسمع رأيي؟ لنجعل ثقافة الإقصاء والتسقيط والمحاباة روح الثقافة ونهضتها ولنقربها أكثر من خصومة البداوة أو صراع الضراير وبهذا نضيع، ربما إلى الأبد، بين الفعل وردة الفعل وحتى يتحول القلم إلى سيف آخر يضعه البعض على رقبة الكلمة الناصعة وهكذا إذن، كلما يحاول أحدنا التعرض (للمقدس) يستلّ الآخر سكيناً من درج مكتبه، صحيفته الرسمية أو مؤسسته، عموده الأسبوعي واليومي، معارفه وتساؤلاته المريبة ويقوم بالتلويح بها أمام ما نريد أن نكتب، فهل ضاق علينا الهامش وصارت الكلمات تحاسب قائليها؟ يقول الكاتب النمساوي بيتر هاندكة: (أنا كما أنا، فكروا كما شئتم وكلما همزتكم أحقادكم وغيرتكم للافتراء عليّ أزدادت حريتي إزاءكم) إذا كان الوعي المزيف هو الذي يعيد إنتاج الخرافة داخل الواقع الإنساني المزيف فإن الصورة الدالة التي يمارسها البعض هي صورة التمويه والتشويه والتحريف ومن الجدير بالذكر إن ثقافة البعض تحاول أن تستنبط صور تجد تفسيراتها مع ما يتفاعل به المشهد الثقافي المزور بلغة غائمة ملتبسة وتلقينية . كنت أفكر قبل البدء في كتابة هذا المقال باللغة والحماسة والنقد ومتسائلاً: هل بإمكان اللغة أن تزيح هذا الكم الهائل من النفايات المتناثرة هنا وهناك؟ أما عن الحماسة فأقول: ثمة فارق كبير بين الحماسة والنقد، قد يكون الكاتب متحمساً إلى حد التعصب ولكن تعصبه هذا قد يسقط عنه صفة الناقد، ورحم الله الشاعر أبا تمام فهو الوحيد الذي نجح في الوقوف على أسباب الحماسة .

أحدث المقالات