19 ديسمبر، 2024 2:08 ص

الحمام لا يطير فوق شارع المتنبي

الحمام لا يطير فوق شارع المتنبي

للوهلة الاولى التي شعرت فيها بدجلة ينساب تحت خطوتي على ذلك الجسر الكبير الراقد منذ فتقت ذاكرة القراءة والتجوال عيوني على حكايته،،تلك التي باحت لي باسرارها قصيدة الغضب الجواهري ،،وحيث نعل الشهيد الذي قدر له ان يكون أعز من جبروت الطغيان*،،لا أنسى اخر مرة حملني الجسر الحزين على ظهره وعبر بي الى الضفة الاخرى التي اعتادت ان تكون كعبة الأحلام والاحزان التي لا تنتهي لجحافل الادباء والمثقفين والمتثاقفين والادعياء والفقراء وصبية الشوارع الذين يرتزقون من يسير ما تجود به جيوب زوار شارع المتنبي شبه الخاوية،،الا من نهم عقيم لثقافة لا تروي ،،رغم انفتاح أبواب المكتبات وبسطيات الكتب التي تعج بالتاريخ والادب والفلسفة،،،،وووووووووو،،ذلك الذي خطته اقلام أناس غرباء جمعهم شارع المتنبي من كل بقاع الارض ،،
قبل ان ينتصف الجسر المجهد بتواريخ الحكايا جلس رجل مسن معاق يمد يد الحاجة الى جموع لا يابه أكثرها بوجوده،،ولا شكواه،،وما بين ملامح الحزن التي ارتسمت في عيني الرجل وكآبة دجلة الذي ازداد قتامة عن اخر مرة التقيته فيها،،توزعت نظراتي حيرى أواسي فيها من منهما وكليهما جزء من حكاية حزن عراقي لا يبدو ان لها نهاية،،،
لملمت خطوتي وسرت اقصد المتنبي ولأول مرة منذ عقدت صداقتي مع هذا الشارع يفتشني احدهم يضمر تحت ملامح الحرص الزائف تهمة يتقاسم جريرتها الجميلة كل من يقصد رحاب ابي الطيب عطشا الى المتع المباحة المرمية على ارصفة الشارع ،،
هي تهمة ان تقرا في وطن يخطيء في تهجية اسمه ،،فما بالك بمذاكرة تاريخه الطويل ،،
تجولت بعيني اتفحص الوجوه التي تتناول على مد البصر المتكسر ببعض الملامح المألوفة لاناس اعرف وجوههم ولا اعرف أسمائهم ،،ومَن يكثرث بالأسماء  اليوم،،!! انا عن نفسي بدأت اتملل من اسمي ،،حتى من ضمير المتكلم،،لم اعد استخدمهما كثيرا ،،
هنا عند ناصية الشارع استوقفني وخز مسمار في الذاكرة،،رغم حلاوة الذكرى لكن غصة البقاء بعد الموتى،،والعيش في نقطة اخرى بعيدة عمن أحببنا يوما يحول الذكريات الى مسامير،،تغور في نعش الروح،،دقته مطارق السنين التي لا ترحم،،وعلى وقع التذكر انساب صوت جاهدة وهبه من احد المقاهي حزينا شجيا يغني حمامة درويش **الحائرة بين التحليق والبقاء على الارض،،
يطير الحمام،،،يحط الحمام،،،
كانما يسترجع مرور أربعة نسوة يافعات ينتمين لعقدين متتابعين من الزمن،،كنت ومهدية الدافئة التي زاحمتني على الامساك بذيل عباءة الموت الذي طالما اشتهيت،،واثنتان من صحبة الوجع الذي ضيعت ذاكرة تفاصيله الايام،،
تغير الشارع والمارة وحتى الكتب ،،بعد الحادث الاليم الذي شوه وجه المتنبي بسيارة مفخخة كانما أراد من ارسلها ان يغير وجه الزمن الذي ظل عصيا على التغيير في هذا المكان،،حتى تلك الفاجعة،، تغيرت ملامح الواجهات والكثير من وجوه الباعة والمارة لكن الأرواح التي عاشت هنا يوما ومرت من هنا يوما ذهبت حتى ذكرياتها ،،بحثت عني،،عن روحي الجميلة التي مرت من هنا يوما ،،عن صوت مهدية ببحته المحببة،،وابتسامة رندة التي لايشبهها شيء في العالم،،وعفوية سعاد التي تختزن اعماق المعاني كلها وهي المولعة باللغة،،،،
قاطعني حمام درويش ثانية،،أخذني  من حلمي
،،،وحين ينام حبيبي اصحو لاحرس الحلم مما يراه،،
فنم يا حبيبي ليصعد صوت البحار الى ركبتي،،ونم يا حبيبي لاهبط فيك وأنقذ حلمك من شوكة حاسدة،،
كانما هي لحظات من الحلم الهارب الى صحاري الصحو في سنوات النفي المسماة عمرا،،
بحثت عن شجن ضائع تبعثر في رذاذ الموتى الذين قضوا في شارع المتنبي ،،ورذاذ احتراق كتب الف ليلة التي ظلت ابدا ناقصة ليلتها ألما بعد الف السهر في سجن شهريار الاخرق،،كانما قضى فيه المؤبد على حمامات اربع جاءت بهن الخطى ليتركن للحمام الذي حط وطار ثم طار ولم يعد حكاية للذكرى،،،،ومن لحظة افتراق الخطى وتبعثر المصائر لم يعد الحمام يطير فوق شارع المتنبي الذي ضيع ذاكرة الخطى،،
ملاحظة:للعنونة احالة على رواية معروفة،،الحمام لا يطير فوق بريدة لروائي سعودي.
*رثاء الجواهري لاخيه جعفر الذي اغتيل على الجسر،،
** قصيدة يطير الحمام لمحمود درويش

أحدث المقالات

أحدث المقالات