كل شعوب العالم تتقدم الا نحن نرجع الى الوراء. كل الدول تصير افضل في المستقبل الا نحن نعود للخلف. هذه شكوى تطلق يوميا مع الف علامة تعجب ومطلقها المتأفف يشكو زمانه ويندب حظه. وهو يدري او لا يدري انه لا يوجد سر في هذه المعضلة التي يشكو منها، بل هي نتيجة طبيعية جدا.
الغريب جدا بل ومن غير المنطقي تماما لو حدث العكس، اي لو تقدمنا الى الامام. وهذا امر لا يصعب تفسيره ابدا ولا يحتاج الى اي فلسفة ولا تنظير. ولا حتى الى تأمل وان كان بسيطا.
هذه ليست احجية ولا اكتشاف جديد يستحق براءة اختراع. وبلا مقدمات مملة، يثبت ذلك ما نسمعه يوميا من رأي ظاهر ومتفشي جدا في الاوساط العامة (وليس اليوم فقط بل بشكل متلازم) من تغني بالماضي والحنين اليه.
الحنين الى الماضي شعور يظهر في كل انسان عاكسا رغبته في الهروب من المشاكل الانية والمعاصرة التي تحيط به. ولكنه شعور عاطفي لا واقعية له، فهو استراحة من ضغط المشاكل وليس منهجا في التفكير والحياة. لذا عندما يتحول هذا الحنين من شعور الى هجرة عكسية للماضي وللتعلق به والعيش في تفاصيله فهذا ليس بهروب من المشاكل بل تقهقر في نمو العقل العام يمنعه من التحرك الى الامام بالمطلق، بل يسحبه الى الخلف الذي اندثر وانتهى تحت صفحات التاريخ وفي المقابر. ومن كان مشدودا الى مقابر الفكر والتاريخ سيبقى يعيش فيها وينتهي به الامر هناك.
واسهابا في توضيح الامر ان الاكثر انحطاطا في عملية التراجع هذه عندما يعتبر هذا الماضي الموغل في بعده الزمني والمعرفي والاجتماعي، هو الغاية المرجوة التي ينبغي السير اليها. واكثر من هذا عندما يعتبر هذا الماضي غاية الحركة والامل المنشود ويُعَد افضل ما جاد به الزمان. وحين تحسب الاخطاء والآثام والرزايا فان اكبر الاخطاء التاريخية التي حدثت هو مغادرة هذا الماضي الجميل. ووقتها تحمل المسؤولية كل من اخرج المجتمع من هذا النعيم الزائل والفردوس المفقود وبسبب جنايته هذه يستحق هذا الذي كان سببا في الخروج اللعنات والسباب والشتائم ليل نهار.
وعلى سبيل المثال من التاريخ المعاصر، الخلافة العثمانية التي اذاقت الناس والشعوب وخصوصا العربية منها الويل والثبور عندما تُعْتَبَرْ نهايتها نكسة عظمى في التاريخ وان الواجب والخلاص هو بالعودة الى نظام حكمها المتخلف فكيف للمراقب السياسي والمؤرخ المحلل الاجتماعي ان يصدق ان هذا المجتمع سينتج نظاما افضل منها. وفي مثال آخر عندما يرى نفس هذا الحنين للملكية التي جاءت على انقاض الخلافة العثمانية وما تمكنت من التملك والسيادة الا بجيوش المحتل وكانت اسيرة بيده بل دمية يحركها كيفما شاء وعندما يقرأ التاريخ ويرى انتفاضات الشعب وثوراته في 1920 و1930 و1941 و1948 ويطلع على صفحات قمع كل اصوات المعارضة الوطنية الحقيقية ويسمع بتشريد وسجن بل وحتى احيانا اعدام مخالفيه لمجرد الرأي ويتذكر احداث الفرهود والتهجير الذي لحق باليهود وبعدها يسمع حنينا الى هذه الملكية بل ويحمل زوال النعم من اسقط الملكية مسؤولية كل تراجع بعدها ويرى ان الحالمين بها ثانية ينسون كل ماضيها. ومثال آخر عندما يرى المحلل كيف تنسى مذابح شباط 1963 وبيان 13 وقتل مئات او الاف الابرياء بتهمة الشيوعية وينسى الحروب العبثية وقطار الاعدامات التي ابتدأت بالحزب الحاكم نفسه ومناصريه الذين مهدوا له الطريق للحكم ابتداءا من 30 تموز 1968 وما تلاها من عمليات اغتيال فؤاد الركابي مؤسس القيادة القطرية في العراق او حردان التكريتي او عبد الرزاق النايف وعبد الكريم الشيخلي وسليم العوادي ثم مجزرة قاعة الخلد 1979 ولم تنتهي حتى بمنظر الحزب منيف الرزاز ولا شاعره شفيق الكمالي وما تخلل ذلك من نفي وابعاد لكثير، من ينسى كل ذلك وينسى البطش بكل صوت معارض وحفلات الاعدام الجماعي ومقابرها ويعتبره زمنا جميلا هل تتوقع له ان يسير نحو الامام ام انه غير قادر على التحرك ولا حتى خطوة واحدة نحو الامام بل انه يسير حثيثا الى الخلف. من كان هذا دأبه في مسيرة قرن كامل ولم يحد عنه في اي تغيير مر به فهل يمكن له ان يغير واقعه الحالي نحو الافضل اذا كان همه الدائم هو العودة القهقرى الى الخلف.
وعندما يكون المجتمع في كل مسيرته التاريخية يلتفت دائما الى الوراء والماضي. والى زمن السلف الذي تفوح منه رائحة المصائب الكبرى والتخلف والجهل ويتحسر على هذا الماضي فهل يمكن لهذا المجتمع ان يتقدم للإمام؟ بل هل توجد اي امكانية حقيقية للتقدم؟ من المستحيل حدوث ذلك فمن لا يرى الا الماضي لا يمكن له ان يبني مستقبلا لأنه اصلا لا يراه. مجتمع هذا ديدنه هل يمكن فعلا ان يغادر الاوهام والخرافة والاساطير التي ورثها من ماضيه البعيد ومن تخلفه او عدم احاطته بالحقائق وقتها. ومن كان مشدودا الى الخلف بهذه الاواصر القوية ولا يقوى على فراقها بل ويعشقها فهل يمكن لهذا المجتمع ان يغادر وباء الانقسامات العرقية والطائفية ؟ ربما الجواب المنطقي ان مجتمعا نظره الى الخلف دائما لن يجد نفسه الا حين يرى هذه الانقسامات والحروب والنزاعات والصراعات شائعة ومنتشرة في وسطه. مثل هذا الوضع المزمن في عقدة التفكير هو الذي يسمح بظهور كل امراض التخلف بأنواعها الكثيرة التي يزخر بها الان وكلما مشت عجلة الزمان اكثر سوف يذهب المجتمع الى الخلف مرتين. مرة لان العالم يسير نحو الامام ومرة لأنه يسير حثيثا الى الخلف. واعيدها ثانية: من كان مشدودا الى مقابر الفكر والتاريخ سيبقى يعيش فيها وينتهي به الامر هناك.