23 ديسمبر، 2024 3:55 ص

الحلم العظيم .. المحورية الدلالية والبعد الرابع

الحلم العظيم .. المحورية الدلالية والبعد الرابع

قسم الناقد سعيد يقطين النص السردي إلى ( الأبنية الحكائية، أو المادة، وهي القصة، التركيب اللغوي وهو الخطاب، الوظيفة الدلالية وهي النص ).. هذه الأبعاد الرئيسية نجدها حاضرة بحرفة ودراية، في رواية ( الحلم العظيم) للروائي احمد خلف، والصادرة عن المدى 2009 غير إننا نلاحظ وجود بعدا رابعا، شكل رافدا مهما للنص، ولوعي القارئ للاستدلال على فحوى النص ومحوريته الدلالية، البعد الرابع هذا تخطى حدود الزمان والمكان والثيمة الرئيسية، في الكثير من محطات حضوره، حتى تحول إلى قطب رحى تدور حوله الجزء الأكبر من الأحداث، إضافة إلى التداعيات والرؤى، التي شكلت محورا انطلوجيا متقدما، سخر له احمد خلف بطلا مثقفا إشكالي، يحمل فكرا جدليا، كان الغرض من هذا الذهاب بالرواية نحو قصدية، هي (المفتاح لفهم العلاقة بين الوعي والوجود، بموضوعاته وموجوداته)، كما عبر عن ذلك ادموند هورسل .. كان الإطار العام للنص يحكي قصة شاب مثقف يكتب القصة القصيرة، الذي لم يجد لها سبيلا للنشر في الصحف والمجلات، يعيش فوضى اجتماعية ونفسية مصاحبة لوعي استثنائي، يرافقه شبق جنسي غير منضبط، يفسر طبيعة هذه الشخصية القلقة ومعالمها، هذه الرغبة الجنسية العارمة، دفعته إلى أن يصبح عشيقا لزوجة أب صديقه المقرب، وحبيا لأخت ذلك الصديق في نفس الوقت، وعشيقا لجارتهم الجميلة، هذا الجموح قاده إلى الوقوع بالمحظور، حين أقدم على قتل زوج جارتهم الجميلة، طمعا بها، وبأموال الزوج المغدور، التي يخفيها في مكان ما في داره، كما أخبرته الزوجة الخائنة.
كانت لغة السرد سهلة مرنة، تحتوي على بعض المصطلحات اللغوية الفخمة والموحية، أما لغة الحوار، فكانت تتداخل بين الفصحى التي طغت على النص، وبين بعض المفردات الشعبية التي تشير إلى طبيعة البيئة التي تدور فيها الأحداث (أزقة مدينتي الكاظمية والحرية)، في أواخر العقد الخامس وبداية العقد السادس من القرن الماضي، كانت معظم الحوارات ذات طابع افتراضي تعكس المزاج العام للأبطال، لكنها لا تعكس المستوى الثقافي والبيئي لهم، فقد ظل الحوار يسير على وتيرة لغوية واحدة، واعية هادفة ذات منحى تداولي قصدي، عدا بعض المفردات الشعبية التي اشرنا إليها سابقا، كان الغرض من هكذا حوارات هو خلق جوا من الإثارة والتشويق والترقب، إضافة إلى سعي الروائي للتأكيد على البعد الرابع من خلال هذه اللغة النخبوية الممسكة بأدوات السرد المتحكمة فيه.
رافق هذه اللغة إيقاع هادئ، حافظ على اتزانه مع تنامي البناء الهرمي للنص، حتى في أكثر أحداثه سرعة واحتداما، كما في مشهد قتل الزوج المغدور.. وتميز النص بقدرة احمد خلف على نقل الصورة وسيميائيتها، وذلك بتصوير متقن لحركة المشهد وشخوصه، مثل مشهد شراء البطل لجهاز الغرامافون وإدخاله إلى منزله، ووقع هذا الحدث على أفراد عائلته، وتأثرهم بما يصدر عنه من أغنيات، كلا حسب خلفيته النفسية، ومستواه الثقافي، ونظرته البسيطة لهذا التحول المفاجئ، وقد استمر تصوير هذا المشهد لثلاث صفحات متتالية.
إن المساحة التي تحرك فيها البعد الرابع للنص طغت على معظم حيثياته، وبناءة الأفقي والعمودي، وسخر له الروائي اغلب عناصر السرد لإيصال دلالته، وتجلى حضوره عبر نافذتين هما:
1- حركة البطل وأرائه وتصوراته الشخصية، عن الأحداث السياسية والاجتماعية الدائرة من حوله، فقد كان البطل أنموذجا للمثقف الستيني، الذي عاصر أهم التحولات السياسية والفكرية والاجتماعية، التي مر بها العراق الحديث، وتأثر بالفلسفات الوجودية والمادية والجدلية التشكيكية، والأفكار التحررية القادمة من الغرب، والتي هيمنت على الفكر الإنساني آنذاك، واعتنقها معظم الشباب العراقي في تلك المرحلة، كما في حديث البطل مع نفسه في إحدى المشاهد الصامتة (أنا أفكر فانا موجود، ليس ديكارد أفضل مني حين يفكر جادا انه موجود، من خلال التفكير الذي يميزه عن الحيوان ).. كان هذا البطل يعيش صراعا فكريا ونفسيا حادا، بين ما يمكن أن يمثله من قيم وأخلاقيات إنسانية سامية، من خلال ما يكتبه من نصوص قصصية، وبين حياته العبثية المنقسمة على نفسها، في فوضى العلائق المحرمة، وحب لا يجد له طريق، بين ركام الغرائز المحاط بها، لذا كانت الإشكالية الكبيرة التي يعانيها هي : عن ماذا يكتب ؟ ولمن ؟ وكيف؟ وهل يحق له الكتابة عن المثل العليا ؟ ..( عن أي شيء تريد الكتابة، ومن اجل من سوف تسود الصفحات الطوال ؟ عن الحبيبة المستحيلة أم عن الزوجة الخائنة ؟ وهل لك مقدرة على ترك مئات الناس الذين يتضورون من الجوع والآلام والاضطهاد أيضا ؟ مع من سوف تقف؟).
كان هذا الصراع يتجسد في النص، عبر حوارات ومشاهد صامتة، ومنولوجات داخلية، يعيشها البطل بمعزل عن محيطه البيئي، في عملية بحث مضنية عن ذاته، جدوى وجوده، وماذا يريد، لتشكل هذه التداعيات ردة فعل سلبية لديه، عن حياته الفوضوية وواقعه الاجتماعي المزري، الذي ظل يبحث عن وسيلة ناجعة للخلاص منه ( واحسرتاه على أيامي الضائعة، في هذه الطرق المغبرة، والأزقة المليئة بالبرك الأسنة، بالمياه، والبيوت التي يكاد بعضها يتهدم ).. من خلال هذه الرؤى والتصورات، ساهم البطل في أن يضع القارئ في موقع يسمح له بان يطل على تلك المرحلة، إطلالة واعية ناضجة، عن الأفكار التي سادت تلك المرحلة، عن أهم رموزها، مثل ( ذكر أسماء الساسة في تلك المرحلة، وصف بغداد الستينيات، ذكر أهم الأحداث التي حصلت آنذاك)..لذا فان البعد الرابع الذي منحه احمد خلف للنص، كتقنية سردية متوارية، أعطى زخما له ومنحه بعدا واقعيا، لتصوير تلك المرحلة، بطريقة لا تجعل من القارئ يقف في منتصف الطريق، فالبطل كان يمتلك من النضوج الفكري والثقافي والجموح، ما مكنه من أن يصبح دليلا سياحيا لتلك الفترة من تاريخ العراق المعاصر، فلم يستثني مشرطه الذي يبحث عن الداء أي شيء، حتى العلائق الاجتماعية التي تختبئ وراء عادات تلك البيئة الاجتماعية المحافظة، تناولها بجرأة ووضوح، كاشفا عن الوجه الآخر لمجتمعه، فقد كانت الحلم العظيم رواية البطل الأوحد، على الرغم من وجود عدة أصوات أخرى، لكن تلك الأصوات كانت تقف في الظل، وقد سخر الروائي هذا البطل الإشكالي ليسلط الضوء عليها، وأوكل المهمة إليه في التعريف بها، بدلا من السارد العليم.
2- محورية مشهد قتل الزوج المغدور، هذا المشهد الذي تحول إلى خذروف رقصة صوفية يدور حول نفسه، وتدور من حوله معظم أحداث الرواية، وتتشظى وتتوازى وتشتبك، عبر قطوعات عدة في نفس المشهد الواحد، لتمثل تداخلا سرديا، وهي تقنية مقاربة لقصص ألف ليلة وليلة، التي استهل بها النص الروائي، لذا نجد أن هذه التقنية قد هيمنت على الوجه العام للرواية، منطلقة من مشهد يحمل دلالة محورية، وهو قتل الزوج المغدور على يد البطل (المؤلف)، والذي تكرر بصور متتالية على امتداد النص، وكان تكرارا ممدوحا، الغرض منه إبقاء القارئ في جو المشهد العام، ومنحه القدرة على الإمساك بأطراف النص، رافق هذا التكرار تنوع في وصف مشهد القتل، يصل حد الإطناب، للتأكيد على القصدية المرجوة منه، حسب تعريف سيبويه للإطناب ( هو تكرار بقصد التأكيد على المعنى )..هذه المقاربة السردية مع التراث، كانت من خلال عملية تداخل بين المشاهد والصور، والخروج من المشهد المحوري، إلى مشاهد وأحداث أخرى ثانوية فرعية، تنبثق من تداعيات المشهد الآني، وفق نسق حكائي بعيد عن أجواء اللحظة الحرجة للمشهد الرئيسي ( قتل الزوج المغدور) .. لتتشكل صورة أخرى، تتعدى حدود مكان وزمان هذا الحدث المحوري، حتى تصل في بعض الأحيان إلى مناطق الأهوار، حيث كان يقاتل أصدقاء البطل اليساريون النظام آنذاك.
الحلم العظيم هي رواية الأسئلة المحيرة والمفتوحة على المجهول، وهذا الأسلوب قد اعتاد عليه احمد خلف في معظم نصوصه السابقة، فهو يعمد على إشراك القارئ بصورة فعلية في أن يجد حلول للإشكاليات التي يثيرها نصه، وفق نظرة حداثوية لبناء نصه الروائي، الذي يبقى مفتوحا إلى مديات تتجاوز إنهاء قراءته، لذا نجد أنفسنا كقراء، أمام أسئلة بحاجة إلى أجوبة بقدر أهميتها وهي:
هل كان الحلم العظيم، هو حلم البطل المؤلف بان يصبح كاتبا مشهورا يشار إليه بالبنان ؟ وهناك مؤشرات تشير إلى هذا المنحى، وهو سعيه الدءوب الذي وظف له كل إمكانياته الفكرية والثقافية، ليصبح كاتبا مشهورا، حتى أطلق عليه الروائي اسم (المؤلف).. أم إن الحلم العظيم، هو ذلك الكابوس الذي رافق طيلة النص، واحتل معظم مساحته، وشكل بعدا رابعا له، حين أقدم البطل المؤلف على قتل زوج عشيقته، طمعا بماله المخبئ ؟ فهل كل ما حدث هو مجرد وهم، وحكاية من وحي ألف ليلة وليلة ؟ كما في الحوار الذي دار بين البطل والزوجة الخائنة:
– ماذا تفعل لو كان الأمر كله مجرد حكاية ترويها لك امرأة مجنونة.
ضحك: – وما الذي يجمعني بالمجانين ؟
– لا اقصد مجنونة العقل . بل تهوى رواية الحكايات.
هذه التساؤلات جعلت من نهاية الرواية، تبدو عائمة مفتوحة نحو خواتيم حكائية أكثر اتساعا وتعقيدا، فقد مثلت الخاتمة بداية أخرى لحراك سياسي واجتماعي لا يختص بالبطل وحده، بل بالعراق بأكمله، كونها غضت الطرف عن الأحداث والمشاكل الاجتماعية الخاصة والشائكة التي خلفها البطل وراء ظهره، حين قرر الذهاب إلى معتقل مدينة الحلة، لرؤية أصدقاءه، ومعلمه الشاعر (مظفر النواب)، وبقيت جميعها معلقة وتتجه نهاياتها نحو المجهول، وأوكل احمد خلف للقارئ مهمة البحث عن مخارج منطقية لها ( لم يتوصل إلى قرار حازم بشان كل شيء يدور من حوله، هنا في هذا المكان، أو هناك في مدينة الحرية).