كلما أتذكر الحلة .أتذكر بابل. ذلك المجد البعيد ، وأتخيل الاسكندر الكبير في نفسه الأخير ودموعه أمام الفرات الذي انتزع منه جبروته في بلدة الحلة يوم جاءها غازيا وقد عبر جغرافية كل الأرض ليلاقي في حزنه مصير النهاية في ميزوبوتاميا.
الحلة ــ بابل ثنائية الوجود في تواريخه الأزلية ، التوراة ، السبي البابلي وأنبياء اليهود الأوائل ( الكفل والعزير ) ، شريعة حمورابي ، البرج والجنائن المعلقة ، الشريف الرضي ، صفي الدين الحلي ، محمد مهدي البصير ، أحمد سوسة ، طه باقر ، علي جواد الطاهر ، صباح نوري المرزوك ، ناجح المعموري ، قاسم عبد الأمير عجام .
عبر هذه التواريخ تحمل المدن تواريخ مشقة وجودها وتعيش كل هذه التحولات بين إغريق ورومان وفرس ومغول تتار وسلاجقة ترك وتنتهي بالانكليز ومدرعات المارينز لكنها تبقيَّ لوجودها نكهة الصمود والانتماء الى شطها وبساتينها وتلولها الاثرية وتلك الرائحة القادمة من وردة أصالة المكان ومحلاته القديمة والأثر الروحي لتلك الذاكرة الحالمة بدفء بيئة الفقراء والعشاق والشعراء لتتحمل هذه المدينة كل هذا الأثر ومتواليات الأزمنة وتبقى مثل هاجس الأساطير ينمو عند أديمها الصبر والأمل ، ومثل عنقاء دائما تنهض من رمادها لتقول للحياة : أنا الحلة.
ينتابني الحزن من اجل هذه المدينة في بلوتها مع الإرهاب، لا اعرف إن كانوا في قسوتهم عليها يتفصدون سرا ما فيها من أنها منطقة أمنية رخوة من السهل أن يخترقها المعتوه التكفيري ويأتي إليها بسيارته المفخخة وحزامه الناسف ومعه حلمه بأنه سيرمى في الجحيم عندما يفجر نفسه لأنه قتل أبناء مساكين من أهل الحلة الفيحاء التي أتسمت عبر كل تواريخها ببساطة والإبداع والخجل حتى مع تلك البحة التي كان سعدي الحلي يطلقها في ليلها الساحر : يامدلوة شبكه بعمري غير الألم والحسرة.
هي الحسرة على من يموتوا أبرياء ومساكين في محرقة التفجير الهائل الذي يصيب جسد المدينة الطاهر بين حين وحين وآخره ما حصل أمس في تفجير سيطرة الآثار في مدخل المدينة من جهة العاصمة بغداد وكان اغلب الضحايا من الموظفين الذاهبين الى عملهم أول الدوام.
في كل مرة تمنح المدينة قرابينها الى سماء الوطن ، أمس كانت تزف ضحاياها من الجنود في محارق الحروب ومواويل الربايا ودموع بحيرة الأسماك وجبهات الشيب والطيب والفكه واليوم تفتح في خاصرتها الأحزمة الناسفة والسيارات جبهة جديدة تأخذ بالكم ضحاياها وهم غير مهيئين لهكذا شكل من الموت الجديد ، عندما يسكنهم هاجس الدوام اليومي أو التسوق أو معاملة في دائرة الطابو.
لكن الإرهاب الذي أوغل غدرا في الحلة يأتي بوساخة ما يضمر ليقتل الجمال الحلي في اللحظة التي يختارها وينفذ منها في بؤس تفكير عجيب انه قد يستطيع تشويه وجه الجمال لمدينة عرفت كيف تصنع غرامها الأزلي مع بساتين النخل ووجوه آلهة المدينة الاثرية.
كل مرة ابكي من اجل الحلة .
كل مرة اكتب من اجلها مرثية لنهر من الدموع يسقي الم المكان من قسوة هذا المصنوع في بلاليع داعش وتفكيرها الغير في صنع المواجهة الحضارية الضد مع الجمال والموسيقى والفن والحرية والسلام والتآخي.
هم قتلة …والحلة مدينة مسالمة.
هم مغول ، وفاشست وجهلة .
والحلة وردة جوري تشم الحياة برئتي الفرات وطفولتها وقصائد شعراءها.
هي صناع الموت ..
وهي تصنع الحياة.
هم يحملون في أحشاءهم الحقد والديناميت
والحلة تحمل في أحشاءها وليدها الجديد…………….!