18 ديسمبر، 2024 8:36 م

الحكومة تتأمر على شعبها

الحكومة تتأمر على شعبها

يمر العراق اليوم بحالة سخط وغضب جماهيري عارم منذ 1/ تشرين الأول 2019، والى يومنا هذا من بداية تشرين الثاني، حيث التظاهرات والاحتجاجات الشعبية الكبرى التي خرجت في العاصمة بغداد وأغلب المحافظات العراقية في الوسط والجنوب، ما عدا المحافظات الشمالية والغربية، سخطاً وغضباً شعبياً كبيراً على الدولة وسياستها وسياسيها برمتها، برلمان وقضاء وحكومة، للوضع المأساوي الراهن الذي يعيشه العراق منذ عقد ونصف، وتراكم سلسلة الفساد والأرهاب المدمر الذي عاشه البلد طوال تلك السنوات، مما أنهك البلاد والعباد بذلك الهلاك والفساد، الذي دفع ثمنه الشعب العراقي بكل أطيافه ومكوناته الاجتماعية، وجنى ثماره اليانعة الاحزاب والتيارات السياسية الحاكمة منذ 2003، الاسلامية منها والعلمانية، وغياب الأحزاب الوطنية الحقة أو أهمالها وكتم صوتها بماء أتيح للسلطة والمتنفذين من كواتم، ولكن مما يؤسف له هو غياب هذا الطرف الوطني الحر الذي يعول عليه البلد والشعب معاً، وقد تم شراء بعض الذمم من هذا الطرف ليتم توجيه الوجهة التي تريد تلك الاحزاب، وبالتالي سقط في فخ السياسة الحاكمة وباع وطنيته بثمن ليس بالبخس وانما بأموال وقصور ومناصب لن تبور، ولكنه فقد شرفه ونزاهته حينذٍ وسقط من عين المواطن والتاريخ الذي يسجل المواقف ولا ينساها أبداً، ويبقى اللوم والعتب على القلة القليلة والفئة النادرة التي ضعفت أمام تلك الاحزاب والتيارات ولم تستطع أن تثبت نزاهتها ووطنيتها سواء بالمعارضة اوالنقد أو تشكيل حزب وطني عابر للمحاصصة والطائفية، كما يزعم المزيفون لترويج ذلك تحت مسميات ويافطات كاذبة عدة.
كنا نعتقد أن النظام السياسي الديموقراطي هو الحل في حكم العراق وهو الذي سيأتي لنا في قادم الايام بالحلول السحرية الجاهزة، وأنه المرهم المثالي الذي سيداوي آلامنا ويضمد جراحاتنا، واذا به يزيد هذه الآلام ويفتح تلك الجراحات ويزيد الطين بلة، واذا بنا نخرج من الملة ونلعن ذلك اليوم الذي تكونت فيه هذه الشلة وتصنع لنا هذه العلة، التي هي سر تأخر بلدنا ومأساته وخرابه، حين أشتركت تلك المكونات المختلفة لتأتلف على مصلحتها وتهتك عرضنا وأرضنا، وتتفق على كل ما لا يخدم مصلحتنا، وتدخل البلاد والعباد في أتون حرب طائفية لم تبق ولم تذر، جعلت العراق ساحة حرب ولعب، تحركه الوجهة التي تريد، وجعلت الشعب في حيرة من أمره لا يعرف أين يتجه، ولا بوصلة تحركه ولا مظلة آمنة يستظل بها، فهو الطرف الخاسر من اللعبة برمتها، وهو الطرف الملعوب عليه أولاً وآخراً، ولكن ذلك الوضع المأسوي أن كان قد مضى وأنطلى على جيل ما فهو لم ولن يمضي وينطلي على جيل الشباب ولن تمر عليه تلك الاكاذيب والوعود السياسية الزائفة، التي أكل الدهر عليها وشرب والتي ملّ منها الشعب، فعندها حل الغضب والسخط الجماهيري الشعبي على العملية السياسية في العراق برمتها، بعد ذلك اليأس والخراب المزمن الذي حلّ بالعراق، وأنتج طبقتين متباينتين فيما بينهما هما : طبقة سياسية اقطاعية طائفية محاصصاتية حاكمة تحتكر السلطة ووسائلها، وطبقة شعبية مسحوقة تحت خط الفقر محكومة، وقد جعلت هذه الطبقة الثانية محرقة وجسراً للطبقة الأولى، ولكن نسي الجميع أن للتاريخ وللاجتماع وللحياة منطقاً وقانوناً يتحكم بها، وأن هناك سنن كونية وتاريخية واجتماعية تحرك الشعوب وأن لا شيء قار وثابت في ذلك المنطق والقانون، فالتغير والتبدل والتطور سنة وقانون حياتي وأجتماعي يخضع له الجميع، وما حدث في العراق من أحداث ورفض شعبي كبير هو جزء من ذلك القانون، وعجبي على السلطة والاحزاب الحاكمة والسياسيين الذين آمنوا بذلك القانون حين كانوا خارج السلطة وناضلوا ضد من سرق السلطة ورفضهم وحاربهم وقمعهم، ولكنهم اليوم يتناسون ذلك القانون الذي غيرّ كل المسارات والفلسفات، وجعلهم في مكان الظالم، يحكمون ويصولون ويجولون دون حسيب أو رقيب، وتحولوا الى سلطة غاشمة يريد الشعب الخلاص منها ومن سطوتها المزمنة، وينطبق عليهم قوله تعالى ” وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ” سورة ابراهيم الآية (45)، لقد نسيتم وأنساكم الله ذلك الحال الذي كنتم فيه، فأحللتم قومكم وأهلكم وشعبكم دار البوار، وحل بهم الخراب والدمار، فلله درك يا عراق، من يشتريك بالغالي والنفيس يبيعك بعدئذٍ بأبخس الأثمان، ويذيقه الله لباس الجوع والحرمان، كل من يعمل ذلك العمل المشين الجبان، وسودّ الله وجه كل من ضحى بوطنه وكرامته وشعبه.
يعيش الشارع العراقي حالة من الحراك الشعبي والأحتقان السياسي والاجتماعي والصراع بين السلطة الحاكمة والشعب، وفقدان الثقة وتزعزعها بين الطرفين، يكاد يصل الأمر الى حال الفتنة بين الطرفين، بوجود أطراف داخليية وخارجية تريد أن يصل العراق الى هذا الحال وأن يعود الى زمن ما قبل 2003، والعمل على عودة عقارب الساعة الى الوراء، ويعمل هذا الطرف بكل ما أوتي من قوة للزج بالشعب في تلك الحرب والفتنة الداخلية، ولكن الشعب يعي ذلك بقوة ولكن مما يؤسف له أن الحكومة هي من لم تع ذلك، وتصرح علناً بأنها تتقن اللعبة وكشف الأوراق، ولكنها في قمة البرود والشرود، وليست على قدر عالي من الحكمة ووالشعور بالمسؤولية، فالبلد على كف عفريت كما يقال والدولة العراقية بسلطاتها الثلاث لم تحرك ساكن وبصورة جدية فاعلة، لتغيير الوضع وتسحب البساط من تحت أقدام المخربين والمغرضين، لتبقي البساط تحت الأقدام وتريد من الشعب أن يقف عن التظاهر والاحتجاج عليها تحت ذرائع شتى، فهي تغط بنوم عميق ومخدرة حد الموت وتريد من الشعب أن يركن لذلك الهدوء والخراب والتخدير، وتخشى صولة الجماهير وخطاب التحذير، وتحسبه فساداً من قبل الشعب يمارس ضدها، وتتناسى ما تقوم به تجاهه من قتل وخراب وفساد، وما تطلقه عليه من رصاص حي وغاز مسيل للدموع، ومتهمة الجماهير بأنها تسير خلف أجندات خارجية، وخطاب فتنوي جديد، يريد بالعراق العودة الى المربع الأول، ولكنهم في نفس الوقت يقبعون ويسكنون في مدن محصنة لم يواجهوا جماهيرهم بخطاب عقلاني حكيم يهديهم سواء السبيل، ولم يحتكموا لطرف يهدأ من الوضع ويعيد الثقة للجماهير بمن يحكمهم من الأحزاب والقادة والعملية السياسية برمتها، فالواضع الراهن مأساوي والكل يتعرض لمنزلق خطير، أشد ما نحتاج فيه لأهل العقل والحكمة لتهدأة الأمور، ولكن مما يؤسف له هو غياب ذلك الطرف من جهة، وبطىء حركة الدولة بسلطاتها من جهة أخرى، وقد يعول هذا الطرف على تعب الشعب وقلة صبره، لتعود الجماهير الحاشدة من ساحة التظاهر الى منازلهم، ليوهموهم بأصلاحات ترقيعية بسيطة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولكن الشعب والجماهير عاكفة وعازمة على الاصلاح والتغيير الجذري الشامل، لأنها لم تخرج للمطالبة من أجل العمل والمال ومحاربة الفساد وتغيير الواقع السيء فحسب، وانما خرجت للمطالبة بحقوقها ومحاسبة الفاسدين، وخرجت صادحة هاتفة أنها (تريد وطن).
ما طرحه رئيس الوزراء عبد المهدي في بيانه الأخير يوم أمس للشعب العراقي يدل على لا مبالاة تامة، وبرود أعصاب قوية، وكأن في خطابه قصدية لهذا الدور البارد المناط به، فهو في وادٍ والشعب في وادٍ آخر، وكأنه يخاطب شعباً خارج رقعته الجغرافية ولا يعيش معه أبداً، الشارع غاضب ملتهب، والسيد الرئيس وحكومته يتكلمون بمنطق أن هناك مؤامرة تحاك ضد البلد، واذا بالحكومة هي من يتأمر على البلد ويقتل الشعب بدم بارد، واذا بجميع مكونات الحكومة وأحزابها يتنصلون عن مسؤوليتهم ويغازلون الشعب ببعض الحزم الاصلاحية الزائفة والوعود الكاذبة التي مللنا سماعها من هنا وهناك، وأن البلد سيسقط بسوء الادارة والحكم طوال تلك السنوات العجاف، وقد بلغ السيل الزبى.