ليس غريبا على العراقيين أن يعيشوا بدون موازنة اتحادية ، فقد كان هذا هو الحال في سنوات ما قبل 2003 بذريعة انتفاء الحاجة لها لضعف التوقع بالإيرادات ، وتكرر الحال سنة 2014 حيث لم يتم تشريع قانون الموازنة بحجة انخفاض أسعار النفط والانشغال بالإحداث الأمنية التي أدت لفقدان مساحات واسعة من البلاد وخضوعها لعمليات حربية من قبل عصابات الإرهاب ، ولأن ضياع موازنة 2014 مر مرور الكرام دون مساءلة او محاسبة و تحديد مدى وجود التعمد والمقصرين ، فقد توقع البعض تكرار هذه الحالة لاحقا لأن ( الطمطمة ) هي سياسة تعتمد أحيانا ويمكن أن تغطي على الكثير من العيوب حتى وان وصل لدرجة التقصير ، ومن أدلة ذلك إن الحسابات الختامية لم تقدم بعد للسنوات 2014 – 2019 ، مما يعني بان نتائج الأعمال المالية لعام 2014 لم تعرض بعد للمناقشة رغم إنها سنة استثنائية كونها أنجزت بدون موازنة ورغم مرور أكثر من خمس سنوات على انقضائها التاريخي ، وفي سنة 2020 اختلقت مختلف الأعذار ليبقى البلد بدون موازنة لحد اليوم رغم مرور شهرها الخامس ، وبشكل يشير لضياع طعمها ولونها ومذاقها بطريقه تبرر الغياب ، لان الأصل في كل موازنة هو أن يتم التخمين للإيرادات والنفقات للعام اللاحق لتكون أداة للتخطيط والرقابة والحكم على مدى جودة الأعمال ، ونقول اختلقت الأعذار لان وزارتي التخطيط والمالية قامتا بإعداد مشروع موازنة 2020 وكان بالإمكان إحالتها إلى مجلس النواب للتشريع لوجود الغطاء القانوني ، حتى في ظل غياب رئيس مجلس الوزراء ( الأصيل ) الذي قدم طلبا لقبول استقالته وتمت المصادقة عليه ، فبموجب المادة (80) من الدستور فان مجلس الوزراء يمارس مجموعة من الصلاحيات وقد نصت الفقرة رابعاً :- إعداد مشروع الموازنة العامة والحساب الختامي وخطط التنمية ، ولكون المادة (83) نصت على ( تكون مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء أمام مجلس النواب تضامنيةً وشخصية ) ، فإن مهمة إعداد الموازنة ليست مسؤولية رئيس مجلس الوزراء لوحده وإنما يتشارك بهذه المسؤولية تضامنيا مع كل أعضاء المجلس ، وقد يقول أحدا كيف تتم المناقشة لإعداد الموازنة وإقرار مشروع قانونها وإحالته إلى مجلس النواب في ظل عدم وجود رئيس او نائب للرئيس يتمتع بصلاحياته في الإحالة ، والإجابة عن ذلك منصوص عليه في المادة (81) من الدستور التي تضمنت : أولاً :- يقوم رئيس الجمهورية مقام رئيس مجلس الوزراء عند خلو المنصب لأي سببٍ كان ، مما يعني إن بإمكان رئيس الجمهورية إحالة الموازنة للبرلمان كما يحق له تسيير أعمال مجلس الوزراء لحين تعيين البديل ، وهذا الغطاء ليس بخاف على احد ومن الممكن الاستناد إليه ، ولكن الإرادة السياسية هي التي لم تعمل به ربما لوجود رغبات لدى البعض في استخدام الموازنة الاتحادية كورقة ضاغطة للعدول عن قرار قبول استقالة رئيس مجلس الوزراء ، حيث استمر بمواصلة صلاحية ( الرئيس ) الدستورية لغاية انفكاكه في 7 / 5 / 2020 بعد مصادقة مجلس النواب على تعيين السيد مصطفى ألكاظمي خلفا له ، وقيام الأخير بإصدار الأمر الديواني رقم 1 لسنة 2020 المتضمن إحالة عادل عبد المهدي وحكومته إلى التقاعد على وفق الدستور ، ولو كانت الرغبة لإصدار الموازنة موجودة لصدرت لان اسلون العمل بالوكالة قد أدمنت عليه البلاد فالكثير من المناصب الحالية تدار بالوكالة وتسيير الأعمال .
وفي ظل غياب خمسة أشهر عن الموازنة ( الأمل ) وما يتطلبه إعدادها وتشريعها من جديد بما يتوافق مع البرنامج الحكومي ( الجديد ) في ظل الانخفاض بأسعار النفط وسريان أخطار جائحة كورونا ، فان الحديث يتم اليوم للاستغناء عن موازنة 2020 وتحويلها من موازنة سنوية إلى موازنة شهرية وكأننا نعمل في ( العمالة ) ولسنا دولة يمتد عمرها التاريخي إلى عقود وسنين معروفة للجميع ، ويستند من ينادي للعمل بالموازنة الشهرية بدلا من السنوية إلى أنها اقرب إلى الواقعية كما إنها اقرب إلى واقع الحال نظرا لانقضاء خمسة شهور منها بالفعل ، ومهما تعددت المسوغات التي تستسهل الحلول وتكون نتيجتها وأد الموازنة ، فإن الأصل أن الموازنة هي إحدى أدوات السيادة ومن الوسائل المهمة التي يتم التعويل عليها في تتبع السلسلة الزمنية لأي بلد حاليا او بعد عدد غير معروف من السنين ، من الناحية الاعتبارية فمن المعيب أن يكون بلدا مثل بلدنا بدون موازنة ونحن ننتهج الديمقراطية والتعددية وتتم دعوة الشعوب للتحرر من القيود والاستفادة من تجربتنا في التحول من الشمولية إلى الديمقراطية والحريات ، ومن الناحية الإدارية والمحاسبية فأي موازنة حتى وان كانت ( ترقيعية ) بسبب ما مرت وتمر به البلاد من ظروف فهي أفضل بكثير من حالة اللاموازنة باعتبارها أداة تخطيطية من الممكن أن تتعرض نتائجها للانحراف ، فاغلب او كل الموازنات والخطط التي أعدتها اكبر الدول ومنها الولايات المتحدة الأمريكية والصين والدول الأوربية وغيرها تعاني اليوم من حالات انحراف شديد في تقديراتها وتخميناتها بعد دخول وباء كورونا كمتغير طارئ ولا يمكن حساب تأثيراته الحالية والمستقبلية بشكل دقيق ، وهذا يؤكد ضرورة السعي لوضع موازنة اتحادية بضوء الواقع والتوقعات ويمكن إيجاد السبل الممكنة لإعدادها من خلال مجموعة من الإجراءات الفاعلة التي تختصر الزمن لعرضها على مجلس النواب الذي كان عليه الإصرار على تشريع الموازنة قبل التمتع بعطلته التشريعية استنادا لنظامه الداخلي والدستور ، ونعتقد بان السيد رئيس مجلس الوزراء أمام موقف حقيقي في اختبار قدرته في وجوب صياغة مشروع قانون الموازنة الاتحادية السنوية ، والسعي لتشريعه من قبل مجلس النواب لان التاريخ سيتذكر الحدث الخاص بالموازنة من حيث تشريعها او عدم تشريعها في زمن ولايته وفي تاريخ العراق ، والقضية ليس فيها مستحيل وان كانت تقتضي جهودا مميزة للانجاز ، وهي ليست دعوة لنخوته وإنما تذكيرا لانجاز واحدا من واجباته في الظروف الصعبة ، والموازنة ستكون معينا في تحريك كابينته الوزارية ومواجهة التحديات وتلافي الأعذار ، وفي قطع دابر الفاسدين الذين ينتعشون في أجواء غياب الأدوات المهمة في الرقابة والتخطيط ووضع معايير ومؤشرات للأداء ، ومن الضروري جدا إعادة فتح الملفات للتقصي عن أسباب عدم إعداد موازنة 2014 وما رافق ذلك من قصور وتقصير وما تسببه في هدر الموارد والفساد ، فضلا عن الأسباب التي جعلت البلد بدون تشريع موازنة اتحادية للعام الحالي ، فمن يتعهد ببناء الدولة بالشكل الصحيح عليه أن يتحمل هكذا أعباء ويتصدى لكل الاحتمالات دون القبول الاستسلام للأمر الواقع .