الحكمة في الأربعين لا تعني أكثر من أنَّ قلب المرء لم يعد قلباً فقط، بل صار قلباً بالإضافة إلى كونه شيئاً ما فوق تكوين العقل، الشيء الذي يعني أنَّ القلب في سنِّ الأربعين غالباً ما يجنح نحو معنى الحمار.
أنا فعلاً أحسد هذا الكائن الذي يسمونه حماراً، وأتمنى من الأعماق لو أنَّ الناس احترموه قليلاً كي يعرفوا مقدار ما في رأسه من الحكمة، وإلا فقل لي بربك كيف يتحمل كلَّ هذا الشقاء وهو يبدو في غاية السعادة بالنسبة إلى جميع الناظرين؟!
قد يقال إنَّ الشقاء المضاعف من شأنه أن يورث السعادة أخيراً، هذا حقٌّ، ولكن مع ذلك يبقى الحمار في ذروة الحكمة لأنه استطاع أن يرقى إلى هذه المنزلة، فيكتشف السرَّ الحقيقيَّ للسعادة، مع أنَّ الفأرابيَّ وابن سينا وكلَّ الفلاسفة العظام لم يهتدوا إلى هذه الحقيقة الحمارية البسيطة، حيث يولد الحمار على الفطرة وهو مزوَّدٌ بهذه الفكرة الأصيلة عن معنى الفردوس المفقود.
حتى ملتن، لم يكن يحيد عن الفكرة الساذجة التي تقول أنَّ على المرء أن يكتشف معنى السعادة في الذاكرة الجمعية البعيدة، حيث كان آدم وحواء عليهما السلام يأكلان من ثمر الجنة بلا عناءٍ، وعلى هذا الأساس لم يكن ملتن حاملاً موهبة السيد الحمار بالطبع، وإلا لحاور في كتابه الطويل ((الفردوس المفقود)) هذا الكائن الشقيَّ حدَّ السعادة، ولم يبحر في أغوار الذاكرة الإنسانية البعيدة ليدلَّنا على معنى السعادة، هناك، في المناطق التي لم تعد مأهولةً على الإطلاق.
إنني متعبٌ جداً، ربما لهذا السبب أتكلَّم بهذه الطريقة، ولا أجد الآن حريّاً بصداقتي حقاً إلا الحمار.
بعض الناس يفضِّلون صداقة البقر، على أساس أنَّ البقر هو مصدر الخير الوفير، حتى أنَّ الهنود عبدوا هذا المخلوق ونحتوا له التماثيل في المعابد، أما أنا فمصرٌّ على أنَّ الحمار كائنٌ أرقى من البقر، ولست محتاجاً إلى أن أنحت له التماثيل في المعابد، فالحمار يعلم جيداً حقيقة نفسه، ولا يشاء أن يكون منحوتاً في المعابد مثل البقر.
الحقيقة أنَّ في أنماط الحياة المختلفة التي تعيشها الحيوانات العديدة مثالاً أرقى بالنسبة إلى الإنسان لو أنه أحسن التفكير قليلاً، ولقد كان ابن المقفع مولعاً جداً بترجمة الأحاديث على ألسنة البهائم والطيور والأفاعي وما إلى ذلك، ولقد كان على حقٍّ، لأنَّ الإنسان لا يتكلم في الحقيقة ليبين عما في دخيلة نفسه، بل هو يتكلم فقط ليقول للناس أنه ليس هو، وبناءً على هذا فإنَّ اللغة هي أبشع اختراعات الإنسان على الإطلاق، إلا عندما تكون موسيقى، فهي الجمال كله، ومن هنا يمكن وضع اليد على نقاط الضعف في النظرية القصدية للسيد عالم سبيط النيليّ، لأنه أنكر المجاز، والمجاز رقصٌ باللغة وموسيقى بالفكر، أما لو كان الإنسان يقصد فعلاً ما يقول فإنَّ النتيجة لا بدَّ أن تكون هي الكارثة، فالإنسان يكذب دائماً لكي يعيش، ويكذب دائماً لكي يستمرَّ كلامه إلى ما لا نهاية كما ترى، وإلا فإنَّ مجموع ما يحتاجه الإنسان من الكلمات لا يمكن أن يتعدّى العبارة الواحدة، وهي أنَّ الإنسان كاذبٌ على الدوام.