23 ديسمبر، 2024 10:05 ص

الحقيقة والتغليس وأخواتهما !!

الحقيقة والتغليس وأخواتهما !!

يشعر المرء وهو يراقب دورة الحياة اليومية في العراق بوجود سياقات عمل فيها من الروتين واسقاط فرض المسؤولية ما يفوق مئات المرات الحاجة الفعلية لوجودها، ما يضفي سوداوية واضحة على مزاج المواطن ، ويخرجه في كثير من الاحيان عن عقلانية لم تعد منطقية في ظل تنوع قنوات الاخفاق الرسمي من ناحية، وتعدد جهات التنفيذ بكل عناوين الاجتهاد الشخصي،  فليس من المنطقي مثلا ان يحزم الموظف حقائبه فجر كل يوم من أجل الوصول الى مقر عمله قبل العاشرة صباحا، في أغلب الأحيان، اي بعد ساعتين أو أكثر على بداية العمل الرسمي في دوائر الدولة، مثلما ليس مبررا أن يصطف المواطنون في طوابير طويلة بانتظار المرور على نقاط تفتيش لايكلف القائمون على أغلبها عناء الالتفات الى المارة.
ولم يعد من المقبول مثلا أن تتحول طرق وممرات العاصمة الى ثكنات عسكرية ، لتخويف المواطن واستفزازه صباح مساء، بينما غالبا ما تتفجر الأوضاع الأمنية على مقربة منها، بعد أن تعرف الخارج عن القانون بكل توصيفاته الى نقاط الخلل وروتين الأداء في هذه الأمور، مع  التأكيد على أن العاملين في هذه النقاط ” السيطرات” يبذلون جهدا شخصيا كبيرا في ظروف استثنائية بكل معنى الكلمة، رغم حاجتهم العملية الى خبرات جديدة تترفع عن روتينية الأداء، فيما بات المواطن ” شديد اليأس والقنوط” عند مراجعة دوائر الدولة، حيث تساوره ” محفزات الرشوة” أكثر من مسؤولية وواجب انجاز المعاملات، على مقربة من يافطات كبيرة تحذر من الرشوة والتقاعس عن العمل، ما يضع ” سلطة القانون وشرف المسؤولية”، بين هلالين كبيرين يختزلان مغالطات لا تعد ولا تحصى، لا تقل في خطورتها عن توقف العمل لساعات طويلة في دائرة مهمة تجني الأرباح الكبيرة وتعجز ادارتها عن توفير بطارية لتشغيل مولدها الكهربائي العملاق!!
ونحن هنا لا نريد المبالغة في تشخيص الخلل بل تأشيره مرة أخرى واظهار اسبابه الحقيقية، والتي يتقدمها تقاعس المسؤول عن تنفيذ واجباته، فليس من المنطق ان يكون تجوال الوزير بين مؤسسات وزارته ” حدث استثنائي”، علما أن المتابعة الميدانية المباشرة ضرورة ملحة لتفعيل مبدأ الثواب والعقاب بعيدا عن أية مجاملة أو تزكية حزبية أو شخصية،  مثلما من غير المنصف على الاطلاق اهمال حقوق المواطن بلا وجه حق وتركه يصارع الأمرين لانجاز ابسط معملاته الرسمية بدون ” اكراميات مشروطة”، مثلما لم يعد مقبولا اعتبار كل صوت ناقد معارضا للحكومة وتوجهاتها من المناوئين لها، ويجب ملاحقته، لأن انعدام النقد الصادق يعني السكوت على استشراء الخلل، الذي تحصد الحكومة قبل المواطن نتائجه المؤلمة، ما يستدعي سعة صدر حكومية ،بل تأييد وتكريم لكل من يضع أمامها نقاط الفشل في الأداء، لا سيما وأن المسؤولين عن ذلك يحصلون على ما يكفي من المال لخدمة المواطن لا التفنن في معاقبته.
ولأن المفارقات أصبحت ديدن الحياة اليومية في العراق، على غرار تحميل رئيس الوزراء نوري المالكي كل عناوين الأخفاق الرسمي في البلاد، وكأنه لا يوجد هناك وزراء ومسؤولين اخرين من واجبهم معالجة الخلل في مهده بدلا من تمييعه لحسابات لا علاقة لها باحترام قيم المسؤولية وقبلها هيبة الدولة العراقية، نقول ان وضع اللوم على المالكي دون غيره مجافاة خطيرة للحقيقة، ما يضع على عاتق رئيس الوزراء مسؤولية اضافية في تطبيق القانون على الجميع، والخروج الى الأبد من رحم التوافقات المريضة بالولادة، والانتصار الى المواطن قبل غيره، لكي لا يستمر تزويد المواطن بالكهرباء ” بالقطارة ” مقابل مليارات تغدق ووعود لم تنفذ، فيما شوارع بغداد يلفها الأهمال من كل جانب، وكأنها معروضة في مزاد علني للبيع ،فيه من الفوضوية ما لا يحصى ولايطاق،ومجرد التجوال في شوارع العاصمة يقدم الرد على هذه المفارقة، وهنا يأتي دور رئيس الوزراء شخصيا لملاحقة الخلل في العمق والتخلص من مآساة ” التقارير والاستشارات الفنية المتخصصة”، التي غالبا ما تدار من مكاتب ” مترفة” في المنطقة الخضراء أو خارج العراق أصلا.
ربما سيقول بعضهم ان هذا كلام حق أريد به باطل، أو اننا ننتقد ظواهر مفروضة بحكم الواقع الأمني، او غير ذلك من وجهات نظر تحاول الابقاء على ” الأذان المؤصدة” لتحقيق الأكثر من المميزات وغيرها، وبالمقابل نجدد التأكيد على أن الابقاء على روتينية الأداء العام ينوع فرص الالتفاف عليه لتحقيق عكس المطلوب، كما أن السكوت على الخلل يفجر ردود أفعال غير محسوبة النتائج، فيما تجاهل حقوق المواطن عبر اجراءات غير عملية من الأخطاء باهظة الثمن في كل زمان ومكان.
وبمقدار تأكيدنا على وجوب صيانة وحدة واستقرار العراق والتفاني من أجل تحقيق هذا الهدف النبيل، نقول ايضا ان الكثير من الاجراءات باتت مستهلكة ،واعتبار حركة المواطن اليومية هدفا أمنيا مغالطة مدمرة، ما يستدعي وقفة عاجلة ومركزية للتخفيف عن كاهل المواطن عبر اجراءات عملية تتعالى عن الروتين لصالح التطور التكنولوجي على كل المستويات، فغالبا ما يتحول الأعياء البشري الى مشكلة خطيرة ضمن مفهوم البطالة المقنعة ، أو تكبد عناء العمل في دوائر الدولة لسواد عيون الراتب دون غيره، ما يكشف عن سبب اضافي في فوضوية أداء منظمة بالدوائر الرسمية، وهو ما يحتاج المواجهة لا التغليس، ما يدفع الى الواجهة الملحة ضرورة اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب على أساس عراقيته ووطنيته قبل اي شيء اخر، خاصة وأن فرضية الولاءات للمعتقدات الحزبية وغيرها لم تعد ملائمة لتطور المجتمعات،والعراق لن يكون استثناءا من ذلك، فهو حجر زاوية كل التوازن في المنطقة عكس ما يتوهم الحاقدون على كبريائه !!
رئيس تحرير ” الفرات اليوم”
[email protected]