-1-
يتسابق السياسيون ، وأصحاب المناصب الرفيعة … في الدولة على إطلاق التصريحات الموّارة بعبير حبّهم للوطن ، وصدق وطنيتهم وما يعتمل في نفوسهم من توق شديد لانجازات كبرى تخدم الوطن والمواطنين .
والسؤال الآن :
هل ثمة من مؤشر نستطيع من خلاله الحكم على صدق تلك المدعيات الوطنية ؟
والجواب :
نعم
إنَّ الحفاظ على المال العام ، وصيانته من ان يهدر لصالح شخص معيّن ، أو في مشروع غير ذي نفع ، أو أنْ يتسرب الى أيدي المفسدين ، هو من أكبر المؤشرات على صدق الوطنية وفاعليتها .
-2-
لقد سقطت النظرية القاتلة بان الانسان حرّ في التصرف بماله الخاص يتصرف به كما يشاء، حيث أنّ للمال وظيفة اجتماعية يمكن ان تستنبط من قوله تعالى :
{ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } 5/ من سورة النساء
إنّ السفيه يحجر عليه لئلا يصرف ماله في قنوات بعيدة عن المشروعية…
ولكنّ الآية المباركة تعبّر عن اموال السفهاء بأنها (اموالكم) في اشارة واضحة الى الوظيفة الاجتماعية للمال .
فلا حق للانسان ان يبذّر أو يسرف في انفاق ماله الخاص، لأنّ في ذلك تضييعا لحق المجتمع في هذا المال .
فاذا كان الانسان مُلْزَماً بابعاد ماله الخاص عن التبذير والسرف، فكيف يجب ان يكون الموقف من المال العام ، الذي تعود ملكيتُه للشعب والأمة بأسرها ؟
-3-
وحين تكثر الاختلاسات ، وتنشط عصابات النهب المنظم للمال العام ، تعّن الحاجة لتسليط الأضواء على أهمية الالتزام العملي بصيانة المال العام ، والتحفيز على استيعاب الأبعاد الشرعية والقانونية والاخلاقية والوطنية الكامنه وراء ذلك الالتزام …
إنّ العراق الجديد إبتُلِيَ بآفتين :
آفة الارهاب المُرعب من قبل التكفيريين وعصابات داعش واخوانهم من الرضاعة …
وآفة الفساد المالي والاداري التي تهدلت بسببها الكثير من الكروش ، وتحوّلت الثروة الوطنية المنهوبة الى أرصدة في حسابات السرّاق في البنوك الاجنبية ، والى عقارات وممتلكات هنا وهناك ، وعُطلّت المشاريع التي تمس اليها حاجة البلد في العديد من القطاعات الزراعية والصناعية والتعليمية والصحية ، بل في سائر القطاعات والمجالات .
لا فرق بين الفريقين فكلاهما ينخر كيان الوطن ، ويفتكُ بالمواطنين بلا هوادة .
ولا يمّتُ كل منهما الى (الوطنية) والقيم الحقّه كلها بِنَسَبٍ أو سَبَب .
-4-
ويحسن هنا أيضا ايراد بعض الأمثلة والحكايا عن نزاهة بعض رجال العراق، ممن آثروا الحفاظ على المال العام ،ورفضوا التصرف بما وضع منه بين أيديهم انطلاقا من وطنيتهم الصادقة .
جاء في كتاب (أشخاص كما عرفتهم) للسيد أحمد الحبوبي – الذي كان وزيراً للشؤون البلدية والقرويه أيام عبد السلام عارف – ص26 مايلي:
( اتصل بي {عبد الله مجيد} –وهو مرافق رئيس الجمهورية الراحل عبد السلام عارف – قائلا :
إنَّ عبد السلام عارف قد أرسل لك كتاباً في طريقه اليك فالرجاء أن تأخذه بعين الاعتبار .
وعندما سألتُه عن فحوى هذا الكتاب، أجاب أنه سيصل اليك مع المندوب ، وستعرف ما فيه …
جاء المندوب ، وسلّمني الخطاب وفيه :
” ان السيد الرئيس عبد السلام محمد عارف قد وضع تحت تصرف الوزير أحمد الحبوبي مبلغاً وقدره اربعون ألف دينار عراقي كمخصصات سرية تُصرف بمعرفته ”
وصورة منه الى وزارة المالية ، وغيرها كما أتذكر …
أعدتُ قراءة الكتاب مرة اخرى
وقلتُ في نفسي :
ان الذي أعرفه ان وزارة البلديات ليست من الوزارات التي لها مخصصات سرّية ،
وكلّمت عبد السلام عارف تلفونياً مستفسراً عن كتابه الذي وصلنا الآن وما معناه !!
فتلكأ أولاً سائلاً عن اي كتاب ، بعد ان أحس بنبرة صوتي المنزعج ، ثم استدرك قائلاً مع ضحكة :
” لماذا أنت منزعج يا استاذ …
فأنا أعرف أنَّ عليك تكاليف كثيرة والتزامات ، وان ضيوفك كثيرون من النجف وغيرها ،
وهذا مبلغ تصرفه على الناس …”
فأجبتهُ ان بابي مفتوح ولله الحمد قبل استيزاري …،
وكرامتي وكرامة ضيوفي تأبى ان أصرف عليهم من أموال الدولة …
فقال مستنكراً :
لِمَ هذه الحساسيّة ؟
فقلتُ له :
ارجوك … لقد انزعجتُ كثيراً من هذا التصرف ، واعتبره إهانة لا أقبلها، فراح يعتذر ويقول :
انه حسن النية ، وأرجو ان لا تزعل .
وبعد ان أنهيتُ المكالمة ، كتبتُ على الكتاب (أرفض قبول هذا المبلغ لعدم حاجة الوزارة لمخصصات سرّية …
ثم وقعتُ ) وأعدتُ الكتاب … ص27 / أشخاص كما عرفتهم
أقول :
وليت سياسيّ الصدفة من المعاصرين يفعلون ذلك أيضاً ، ولكن هيهات..!!
إنّ الذي يملك منهم داراً لسكنه صَعُب عليه ان يعتذر عن قبول قطعة أرض مُطلة على النهر تقدّر بمليارات الدنانير ..!!
لماذا ؟
لأنه سعى للمنصب اغتناما للفرص ، واستغلالها ، وليكن بعد ذلك ما يكون …
وعلى الوطن والوطنية ، وكل المعادلات والحسابات ألف تحية وسلام..!!