يظل التراث بما هو تراكمات(حسية واعتبارية)متواترة،مستنبتة اصلا في فضاءات بيئة حاضنة له، من أبرز ملامح هوية أي كيان اجتماعي، قبيلة كان هذا الكيان،أم شعبا أم أمة،وبالتالي فهو نيسم امتداد عصرية الحاضر إلى اصالة الماضي.وبهذه المقاربة الجدلية فالتراث بمثابة لوحة فنية، رسمت الأجيال المتتالية ملامح هويتها عليها،ومن ثم فهي تعرض للجيل المعاصر اللاحق،صورة حال الأجداد بكل أبعاده الاجتماعية،والثقافية، والمعيشية.
ولأن حركة الحياة قائمة على قانون حتمية التطور المستمر، فإن الموروث الشعبي كان لابد أن تطاله آثار هذا التطور، وتنعكس عليه ملامح التغيير بمفاعيل الزمن، والسياق الحضاري،شانه شان بقية مظاهر الحياة،حيث يتشكل فضاء معاصرة اللحظة التالية للتغيير، بحيث تكون لكل عصر بالضرورة ملامحه الاجتماعية، وإذا كان من الصعب منع تأثير عوادي الزمن على التراث، لأنه انسياب فيزيائي موضوعي خارج السيطرة المجتمعية، إلا أن التأثير فيه إيجابيا ضمن سياق حضاري معين، لصالح الحفاظ الوقائي على بصمات التراث، ينبغي أن يظل نزوعا انسانيا حضاريا هادفا، يؤصل للخصوصيات الشعبية عند كل من يعنيهم الأمر، لان التراكم التراثي لأي مجموعة كانت، يواجه تحديات الاختراق بزحف العصرنة للأسباب المذكورة، إضافة إلى تحديات المسخ بالغزو الأجنبي، عبر ثقافة الهيمنة المعولمة.
ولكي يبقى الموروث التراثي منسجما مع الذات الجمعية التي أبدعته، في تراتبية توافقية مع الجيل الصاعد، ويبقى متوازنا مع العصرنة في ذات الوقت، ولاسيما في حركة انسياب منتجاته المادية من التراث المعماري، والحرف الموازية،والازياء المتقادمة،بالإضافة للسلوكيات الاخرى المرافقة لها، فإن عليه أن يتشبث بخصوصية سياقه الحضاري بوعي تام، لكي لا تسلبه العصرنة شخصيته، وتنتزع منه هويته، في نفس الوقت الذي ينبغي عليه أن يرتقي باستخدام معطيات العصرنة بأعلى درجات الانتفاع الواعي، لكي يختزل الضياع في الكفاءة، الناجم عن اختزال السياق، ويتجاوز سطحية الاستيعاب، وعسر التمثل،وصعوبة التطويع التي يعني كلفة مضافة، مادية ومعنوية معا، تتمظهر بأشكال معقدة من التخلف، والاستلاب، وتدني مستوى الانتفاع، ما لم يتم التمكن من تدجين تلك المعطيات بكفاءة، لكي تتلاءم مع خصوصية طبيعة البيئة التي تنساب إلينا في ثناياها من الماضي تدفقات موروثات التراث.
ولعل تطور استخدامات الهاتف المحمول،والتوسع السريع باستعمال الشبكة العنكبوتية، وشيوع الفضائيات كوسائط معاصرة للتواصل المباشر، الذي أنهى العزلة المكانية للأفراد، وخلق مجتمعا معولما بالتواصل،وان كان حقا أحد أبرز إنجازات ثورة الاتصال والمعلوماتية، التي حققت لنا الكثير من المنافع، بعد أن نجحت في إلغاء المسافات بين الناس، واخترقت كل الحواجز، وزادت من أواصر التواصل الاجتماعي، وقللت أكلاف المواجهة المباشرة بوفر الزمن الفائض، إلا أن عدم توازن مستخدمها مع سياق تراثه،وبيئه، ونمط أخلاقياته، دفعه تحت وطأة الانبهار، وأحيانا من غير وعي، لانتزاع الاستخدام من سياقه الإيجابي المشار إليه بالتجاوز على الموروث من القيم، لكي يكون أداة سفه إنساني، وانحطاط اجتماعي،من خلال المضايقات الهابطة للآخرين، بالمكالمات الرخيصة، وتصوير المشاهد المسيئة، والتدردش القبيح، ومشاهدة الأفلام الإباحية، فراح المجتمع يدفع ثمنها باهظا في حالات كثيرة،ناهيك عن العزلة الوجاهية البينية المباشرة،بما افرزته من تعاسة إنسانية، يحس الفرد إزاءها بالاستلاب، ويفتقر إلى تلك السعادة الضائعة،رغم كل ما أبدعته له الحضارة المعاصرة من منجزات علمية وتكنولوجية،ورفاهية مادية ، مما جعله يتمنى أن تعود له سعادته الاجتماعية المفقودة حتى بطريقة النكوص، والحنين إلى الماضي السعيد على قساوة ظروفه.
لذلك تجلى مسخ التراث بالعصرنة مزدوجا، إذ هدد قيم المجتمع المتلقي بالتشويه، في نفس الوقت الذي اختزل السياق الحضاري المتمدن لهذه التكنولوجيا المتقدمة، ليقتصر على سلبيات الانتفاع بأرجحية واضحة، وخاصة بين فئات الشباب، التي لا تهتم كثيرا بمعطيات الخصوصية والحفاظ على التراث، تحت وطأة الانبهار الزائف بتلك المعطيات.
لذلك يتطلب الأمر ألانتباه إلى مخاطر المسخ بتحديات العصرنة الذي ما انفكت تتركه على هوية التراث، بتسفيه العادات والتقاليد الحميدة، في نفس الوقت الذي تمسخ فيه الصورة الإيجابية لإبداعتها، التي هي إحدى أدواتها المعاصرة للهيمنة، لاسيما بعد أن فتح الفضاء المعلوماتي بقنواته الفضائية، وشبكة الإنترنت، والهاتف النقال، الباب على مصراعيه، أمام الغزو الأجنبي للدخول إلى البيوت بدون استئذان، ليؤسس لثقافة جديدة، وعادات جديدة، ومصطلحات جديدة غير مألوفة، سيكون لها بالطبع أثر كبير على تغيير سلوك الجيل، الذي بدأنا نلمس جنوحه صوب الانسلاخ التدريجي من سيطرة البيت،والتفلت من ضوابط المجتمع بشكل واضح، والانزياح خارج حدود فضاءات سيطرة الأب والأم، بمسارات غريبة عن المألوف من الموروث الاجتماعي، حيث تفاقمت فجوة الجيل مع غزو العصرنة بشكل مقلق، يهدد بتفكك قيمي واجتماعي، يقود إلى الضياع والاستلاب المحقق في الأفق المنظور، مما يؤدي بالمحصلة إلى مسخ الهوية، وقطع التواصل الحركي مع التراث.