اطلالة على نصّ
(( وراء هذا الغموض تتكورُ قناديلي راعشة ))
للشاعرة : رحمة عناب – فلسطين
انّ الأحساس اليقيني بفجيعة الغياب تفرض سطوتها على الشاعرة ان تتوارى وراء الغموض في محاولة للهروب واخفاء حقيقة المشاعر خوفا من / السلطة / المجهول / القهر / الظلم , ولكن كيف الهروب والاختفاء والقناديل تفضح هذه المشاعر المتكورة براعشتها .؟ ! . انّ المعرفة اليقينية بفداحة وقسوة هذا الغياب يتطلب المعرفة الواضحة به والاحساس و التعايش معه والحضور الفعلي والحقيقي والوجداني عند الشاعرة , يبدو بانّ هذا الغياب امتدّ منذ مرحلة الطفولة الى مرحلة النضوج الفكري , فصار أكثر ايلاما وقسوة ووحشية في النفس , وكان يؤرّقها ويطاردها أنّى كانت وتكون هذا الواقع بسبب الصلة الوثيقة فيما بينهما . هذا الحضور واستيقاظ الحواس وحرارة المشاعر زاد من المعانات فكان النصّ عبارة عن كتلة متوهّجة من المشاعر الصادقة , فتخلّت الالفاظ عن نقل المعنى واصبحت وظيفتها نقل الاحساس , فهنا نحن نرى هذه الاحاسيس والمشاعر ونتلمس طراوتها وهي تبلّلنا بفيض نداوتها وعطرها , ومن خلالها اصبحنا نستشفّ قوة المفردة وسطوة المعاني وحركية المشاعر والاحاسيس . ان الكتابة والانطلاق بها من اعماق النفس يتجلّى في لغة متوهّجة لا يحدث هذا الاّ باستيقاظ الحواس / الشمّيّة / اللمسيّة / السمعيّة / الذوقيّة / والبصريّة . اننا امام لغة قادمة مما وراء الحلم المستيقظ تزيح عن كاهلها تراكم رماد السطحية والتكرار , لغة صادمة سريعة الايقاع والحركة والصورة . لغة قادمة من القلب نقيّة وصافية عبّرت كلماتها بوضوع لا يتسرّب اليها الترهّل او الغموض عن الذات الشاعرة . ان الغربة التي يعيشها الانسان / الشاعرة / وحالة الفقد والشعور بالاانتماء الى وطن واستمرار حالة اللاوطن منذ الطفولة جعلت فكرة النصّ يمتلأ بها الذهن فتمثّلها القلب صورا مشحونة بالعواطف والحرمان تملّكته حدّ الانفجار فكانت اللغة هي السبيل الوحيد للتنفيس عمّا يعتريها من الألم والوحشة والغربة .
من خلال العنوان / وراء هذا الغموض تتكورُ قناديلي راعشة / هناك صرخة مكبوتة حاولت الشاعرة ان تصرخها بصمت مدوّي لتصل الى ابعد مدى , صرخة مبحوحة على وطن ظلّ بعيدا عنّها كل هذا الزمن , ماأحوجها اليوم اليه بعد ان تيقّنت حضوره الملحّ بعد كل هذه السنين المريرة من الضياع , صرخة تفضحها قناديلها / سنوات عمرها / بعد ان اصابها اليأس وترآى امام احلامها قنوط وخيبة في تحقيق ولو بعض احلامها المستباحة امام الطغيان والقسوة والمجهول . مازالت بعد كل هذا العناء والخيبة تحلم ان يهبها / الوطن / حق اللجوء اليه تتنفّس تحت جناحيه عطر ارضه وتنستنشق عبير عشقه وترتمي بكل قوة وحرية بين احضانه تنعم بالدفء والامان وتستكين الروح عند اللقاء / هبني جنان اللجوء تحت عطر جبّتك / انه البحث عن الجنّة المفقودة في هذا الوطن البعيد / زمنيا / مكانيا / الوطن الحافل بالمجد والجمال والحبّ . مهما حاولت أطيافه الهروب من مخيلتها خوفا من طغيان هذا العشق والانتماء والتوحّد معه ستظلّ عذبة رقراقة ستقتفي آثارها مرغمة تتلذذ برحيقها , انه التولّه والتماهي مع الذات الاخرى / فاطيافك الهاربة خيفةَ عتوّ طغياني اقتفيها بسلاسة فراتها عذب اتلذذ رحيقها / . انها لغة الحلم المستمر والدائم في حضوره القوي داخل النصّ ولغة مشبعة بالانزياحات وانسنة الطبيعة واضفاء الصبغة الانسانية عليها , / كلما راودت نوافذي ضحكاتها تنسج المواعيد رهافةً / .. نجد هنا الدقّة والحرص الشديد على تصوير اللحظة بكل تفاصيلها وعدم ترك ثغرات في الجملة اللغوية وكما في باقي الجمل والتركيز العالي وضغط المقاطع والتخلّص من النفايات في النصّ , فالاطياف هنا اخذت صفة الأنسنة وصارت متحركة ضاحكة تنسج التواريخ السعيدة الرقيقة ينفذ الضياء روح الشاعرة بعدما فتحت نوافذ ايامها تطلبها . / لأغرق في عباءة حكاياتك المعتقة ../ محاولة التطهّر من الوجع والارتماء باحضان الوطن الموعود والاستغراق والتمرّغ والاستكانة تحت ظلّه , / تؤنس ساعاتنا الحمئة نغفو على غيمة بهاء السحر ../ محاولة الاستئناس واطفاء اللحظات المستعرة بسبب الشوق العارم والحاجة الملحّة والشعور بسحر الوطن والاستغراق في عالمه المنتظر , / حتى احلامي تسكنها اضغاثك واشية ما يعتريك جنونا دفينا ../ انه الحضور المستمر والمتكررمن خلال صور الوطن المشوّشة نتيجة البُعد وعدم تحقيق الوصول اليه واللقاء , فاحلام الشاعرة تسكنها احلامه المضطربة التي لا يمكن تأويلها وفتح مغاليقها . هكذا يستمر النصّ في بناءاته الشعورية والحسيّة واللغوية على نسق واحد وربما يتصاعد ايقاع اللغة بطريقة مدهشة , نكتفي بما أوردناه من تفكيك واشارة ونترك البقية للمتلقي يكتشف أسرار النصّ ويتعامل معه وعليه ان يمتلك خيالا يوازي خيال الشاعرة كي يجد المتعة والانبهار ويعيش اجواء النصّ .
المقطع الاول زاخر بالعطاء كُتب بطريقة الكتلة الواحدة ( الافقية ) وبلغة سردية – تعبيرية – تجريدية منحت الشاعرة كل هذا الفضاء الرحب في استخدام المجاز والعزف عن طريق الخيال المتنامي تصاعديا جعلنا نعيش داخل اجواء النصّ ونتفاعل معه واستطاع ان يقتحمنا ويثير فينا القلق والتساؤل عمّا ارادته الشاعرة وصوّرته لنا من خلال صور سريعة متتالية في بناء جملي متواصل حيث المقطع الاول تكون من سبعة أسطر / فقرة واحدة / .
اما المقطع الثاني من النصّ فتكوّن من ستة أسطر كُتب بنفس الطريقة واللغة ابتدأ بالطلب والرجاء والتمني / ايها الممتشق ظل النبوءة ! ../ النداء على الوطن البعيد الزاخر بالعطاء والمجد / امنحني نبضا يأوي منازلك الموحشة ../ طلب الحياة والعيش بأمان يسكن تواريخه المقفرة لكثرة النكبات والمحن والصراعات ../ يرن عذوبة بأراضيك الدامعة / هذا النبض رنينه عذب يغمر ارضه الباكية شوقا وحرقة , أرضه المستباحة من الاخرين حيث عاثوا بها وزرعوا فيها الألم واصبحت الدموع تسقيها ../ كيما أتلون سنبلة ناااااضجة واهبةً جدب واحاتك الركدة انهارا جذلى / ويستمر الطلب والرجاء حتى تلبس / الشاعرة – سنبلة / الفرح الزاهر تتلوّن كسنبلة امتلأت بالخير والعطاء وتعيد الى واحاته المجدبة الماء يغمرها كي تبدأ الحياة من جديد , وتستأنف الشاعرة في حوارها مع الوطن البعيد لتختتم النصّ بهذه الاشواق اللحوحة كي تئد صوت وجع الفراق وعدم اللقاء القاسي والمؤلم في نفس الوقت / الاشواق اللحوحة وائدا هديل وجع البعد القاسي / .. لتصرخ صرختها الاخيرة في وجه القدر متسائلة / فماذا يبقى من قلب متقّد هاجمهه الفقد!! / نعم ماذا سيبقى من قلب عاشق للحرية والسلام هاجمه الفقدان والغياب الروحي والجسدي .
ان هذا الفزع المخيف من المجهول والقلق والضياع والغربة والتدهور ما كان ان يكون جميلا لولا التعمّق الذاتي بالمحنة وهذه المساحة الواسعة من السرد التعبيري التي منحتها منهجية القصيدة السردية التعبيرية وخصائصها وطريقة كتابتها فحوّلت هذا الخراب الى فرح هادىء ملأ النفس بكل هذا الشعور والدهشة والجمال .
هنا نتساءل هل كانت هذه الاحاسيس والمشاعر وهذا الخيال العاصف حقيقية ام مجرد لحظة فنتازيا لعبتها ومرّرتها علينا الشاعرة في هذا النصّ ..؟ .
الجواب عن ذلك انّ مجرد التفكير بالمحنة يدلّ يقينيا على وجودها وحدوثها واستمراريتها , اذا كان هذا واقعا ملموسا , ربما كانت المعاناة أخفّ وطأة على ذاتها فيما مضى وانها كانت في سبات , لكنها اليوم استفاقت من جديد واصبحت وطأتها أكثر ايلاما وقسوة لكثرة التفكير فيها اثناء اليقضة واثناء النوم ومداهمتها حتى عن طريق الاحلام , انها حالة الوعي الوجداني والتيقّن بحدوث كل هذا , ان كثرة التفكير بالواقع المؤلم حرّك جميع المشاعر والاحاسيس والانفعالات لدى الشاعرة فاصبحت أكثر تأملا فيما حدث ويحدث , وسيطر عليها ولم تتمكن من الخلاص من قسوة الواقع الاّ بهذا البوح العميق علّ ذاتها تهدأ , انها لحظة اليقين والنظر ببصيرة لاتقبل الشكّ بان ما يحدث حالة يقين صادقة .
النصّ :
( هبني جنان اللجوء تحت عطر جبّتك فاطيافك الهاربة خيفةَ عتوّ طغياني اقتفيها بسلاسة فراتها عذب اتلذذ رحيقها كلما راودت نوافذي ضحكاتها تنسج المواعيد رهافةً لأغرق في عباءة حكاياتك المعتقة تؤنس ساعاتنا الحمئة نغفو على غيمة بهاء السحر حتى احلامي تسكنها اضغاثك واشية ما يعتريك جنونا دفينا تعرّي شقاوة طيشك تمنح فضاءاتك انكشاف نخلك الباسق .وراااء هذا الغموض أحلّ ازرار رَحْب سماواتك اباغتها هوينا هوينا اقبض انفاس وحدتك لأرتق ندوب مدنك المسكونة بكبت السماء . ايها الممتشق ظل النبوءة امنحني نبضا يأوي منازلك الموحشة يرن عذوبة بأراضيك الدامعة كيما أتلون سنبلة ناااااضجة واهبةً جدب واحاتك الراكدة انهارا جذلى تشق غيبوبة يتصارع فيها فيضك المرتبك تستأنف تكور شباب القناديل المرتعشة دما دااااافقا منهمكا يضرب بسحر عصيّه يدوخ الاشواق اللحوحة وائدا هديل وجع البعد القاسي فماذا يبقى من قلب متقّد هاجمهه الفقد!! ) .