تحكم حياتنا ثوان من الزمن ، تقرر مسيرة وجودنا في تكرارها المستمر، حين تكمن مظاهر الحياة في مذكرة الزمن التي تتقلب صفحاتها السوداء والبيضاء في تعاقب مستمر عند زحف الثواني في حيز حركتها الدقيقة التي تعصر بقبضتها الجبارة عناصر الوجود من موت وحياة ،ظلم وقهر، نجاح وفشل ،جميل ونكران للجميل ، خير و شر، وكل حركة وسكنة في ديناميكية الاستمرار و التواصل….!!
من يجرؤ ان ينفلت من جبروت تلك المذكرة الزمنية التي تحتضن اسماء الخلق واعمالهم وقد قصمت ظهور اعتى الطغاة وسحقت عظامهم ونزعت اظفارهم المنغرسة في جلد الحياة و جدار الطمع لكي يتعظ سلفهم ويعملوا على ترميم انفسهم والعودة الى ساحل الصلاح الانساني النقي …!؟ قد يسخر كل منهم خبرة الزمن وتجارب الحياة اتجاه مبتغاه المنفرد ولا يدرك جوهر هذا الاستمرار المحكوم بحركة عقارب الزمن المسجلة مسبقا بلائحة القدر ، عندها تنتهي حياة وتبدأ اخرى… الاذكى من اتعظ…..!؟
اخرجتني من هذا الصراع الداخلي جلبة حدثت امام المسجد الذي نصلي فيه، شاب قد اعتدى بالضرب على رجل مسن ، تجاوز السبعين من العمر ومن وجوه المدينة المعروفين وتجمع الخلق كالعادة للتفرج وربما لمنع هذا الشاب من اقتراف هذا العمل الغريب والغير انساني ، و ما اثار العجب والاستغراب في نفسي هو صراخ الرجل بأعلى صوته بعبارة غريبة اثارة الدهشة في نفوس الجميع وقشعرت لها الجلود ، اما انا فقد كاد جلدي يزحف من هول الموقف وشدة تأثيره:
” اتركوه !….انه ولدي وانا السبب في ذلك…..انا السبب في ذلك ، انا السبب ..!!؟؟”
وانصرف الرجل وهو في حالة مزرية ، وجهه ملطخ بالدماء و تسيل الدموع من عينيه التعبتين وتبلل لحيته البيضاء ، ولا تزال تلك العبارة ملتصقة بلسانه ، وكل منا فاغر فاهه ويتعوذ بالله من هول الموقف….!؟ كثر اللغط والتساؤلات حول هذا الموقف الرهيب و الغريب فقال احد المصليين:
– “والله لو كان هذا ولدي لذبحته..!”
همهم الحاضرون بالموافقة على قوله هذا ،اصابني الفضول لمشاركتهم الحديث وقلت:
-” في موقف كهذا يجب ان نبحث عن جوهر الفعل ، لا عن وقوعه ونتعرف على ماهيته والاسباب التي ادت اليه لان امور كهذا الامر بعيدة جدا عن اعرافنا واخلاقنا الاسلامية…!؟ّ”
حدثت جلبة وحركة بين الحاضرين تشير الى ان كلامي كان مؤثرا فيهم وقد قوبل بالرضا والقبول الى درجة ان الجميع التفت نحوي مشجعا لي باستمرار الحديث ، اضفت:
-” ان هذه الافعال السلبية وغيرها ما هي الا افرازات للتصادم الحضاري والهجمة التكنولوجية الشرسة ولم نكن في اتم الجاهزية والاستعداد لمواجهتها ، لذا ظهر انعكاسها السلبي على ابناءنا ، يقابل ذلك تكاسلنا ولامبالاتنا مما سهل تغلغلها السريع في نشأنا وكالعادة، نهمل ولا نحاسب علي الاشياء الصغيرة حتى تكبر وتستفحل وحين تجد لها ارض خصبة وبيئة ملائمة تكبر وتنمو حتى تصبح ظواهر سلبية كبيرة لا يمكن التخلص منها بسهولة ، بالتالي تؤول نتائجها الى الانحراف الاخلاقي الذي نعاني منه الآن ….!! علينا ان لا نهمل الفعل السلبي مهما كان صغيرا وندرك ان معظم النار من مستصغر الشرر….؟!!”
هذه المرة سمعت كلمات الاستحسان والدعاء لي من الجميع على كلامي هذا الذي فتح شهية الكثير على الكلام وبدأ الكل يتسابق على الحديث وابداء الراي واصبح المشهد كمحاضرة اكاديمية ، اذنت بيدي لاحد الحاضرين بالحديث فقال:
” يبدو اننا لا نفهم هذا الجيل من ابناءنا حين مقارنته بجيلنا عندما كنا صغارا ، كنا نحترم اباءنا والكبير منا ولا نخرج عن طاعتهم وكانوا يقومون بضربنا ومعاقبتنا عن اي فعل مهما كان صغيرا ونحن نتقبل ذلك برحابة صدر….اما الآن اصبح الامر معكوسا….!!”
هز الجميع رؤوسهم بالقبول والموافقة على قول هذا الرجل فاستطردت قائلا :
” ان الله ،جل شأنه ، خلق فينا العقل و به ميزنا عن باقي مخلوقاته فنحن مخيرون بما ملكت ايماننا، ثم وضع توازنا دقيقا يحكمه قانون الفعل و انعكاسه الذي يساويه في التأثير ورتب كل شيء بحكمة واتقان ، الافعال الجيدة، رد فعلها مبارك و السيئة سخط …!!؟… ما حدث امام اعينكم هذا اليوم هو خير مثال عملي للعدل الالهي، فالرجل الذي ضربه ولده ،اعرفه شخصيا ، فقد ضرب والده في يوم كهذا و في نفس المكان والزمان، وانا شاهدت ذلك بعيني وان الله جل شانه يمهل ولا يهمل….!
بدأ المؤذن يستعد…..انهيت كلامي وتهيأنا جميعا للصلاة….!