23 ديسمبر، 2024 12:20 ص

الحصري القيرواني :” يا ليلُ : الـصَّـبُّ متى غَدُهُ؟”

الحصري القيرواني :” يا ليلُ : الـصَّـبُّ متى غَدُهُ؟”

مسيرة حياته ..قصيدته نقداً و تحليلاً
1 – قول الضرير أبي الحسن علي بن عبد الغني الحصري القيرواني (420 هـ – 488 هـ / 1029م – 1095م) ، وهو يمدح أمير مرسيه (عبد الرحمن بن طاهر ) بقصيدة من تسعة وتسعين بيتاً ، مطلعها ثلاثة وعشرون بيتاً في الغزل ( التشبيب) :

يـا لـيـلُ : الـصَّـبُّ مـتـى غَدُهُ؟ ** أقِــيـامُ الـسَّـاعَـةِ مَـوْعِـدُهُ
رَقَـدَ الـسُّـــمَّـــارُ فَــأَرَّقَــــهُ ***أَسَــفٌ للـبَـيْــــــــــنِ يُـرَدِّدُهُ
فَــبــَكـــاهُ النَّـجْــمُ ورَقَّ لـهُ*** مِمَّــــا يَــرْعــاهُ ويَــرصُــدُهُ
كَـلـِفٌ بـِغـــَزالٍ ذي هَـيــَفٍ *** خَــوْفُ الـواشِـيـنَ يُــشَــرِّدُهُ
نَـصَـبـَتْ عَــيـنايَ لهُ شَـرَكاً ****فـي النَّـومِ فَـعَـزَّ تـَـصَـيُّــدُهُ
وكَـفـى عَـجَـبـاً أنـّي قـَنِـــصٌ****للـسِّــرْبِ سَـبَـانــي أَغْـيَدُهُ
صـَنَـمٌ للـفِـتـْنـَـةِ مـُنـْتـَصِـــبٌ ****أَهْــــــواهُ ولا أَتـَـعـَـــبَّــدُهُ
صاحٍ، والـخَـمْـرُ جَنى فَمِــــهِ ***سَـكْــرانُ اللَّــحْظِ مُــعَرْبـِـدُهُ
يَـنْضـو مِـن مُـقـْـلـَتـِهِ سَـيْفـاً****وكَـأنَّ نـُـعاســاً يُــغْـمِـــــدُهُ
فَـيـُريـقُ دَمَ الـعُـشّــَاقِ بــهِ *** والـوَيْــلُ لمَـــــنْ يَـتـَـقَـلـَّـــدُهُ
كَـلاّ ، لا ذَنـْبَ لـمَنْ قـَتـَلـــــَتْ*** عَــيْـنـاهُ ولـم تـَــقـْـتـُـلْ يَـدُه ُ
يـا مـَنْ جَحَـدَتْ عَيْناهُ دَمــــي**** وعـلـــى خَـــدَّيْـهِ تـَـــوَرُّدُهُ
خَـدّاكَ قــدِ اعْـتـَرَفا بــِدَمــــي *** فَـعَــلامَ جُـفـــونُــكَ تَجْحَـــدُهُ
إنّـي لأُعـيـذُكَ مـــــِن قَــتــْلي *****وأَظُــــنـُّكَ لا تـَــتـَـعَـــمَّــدُهُ
بـاللهِ هَـبِ المـُشْـتاقَ كـَـــرَىً *****فَـلَـعَــلَّ خَـيـالَـكَ يُـسْـــعِــدُهُ
ما ضَـرَّكَ لـــو داوَيـْــتَ ضَـنى ****صَـــبٍّ يَـهْــــواكَ وتُـبْـعِــدُهُ
لـم يُـبـْقِ هـواكَ لـهُ رَمَـقــاً * * ** فَـلْـيَـبْــكِ عــلـيــــهِ عُـــوَّدُهُ
وغَـداً يَـقْــضـي أو بَعْـــدَ غَدٍ ****هـلْ مِـــــن نَـظَــــرٍ يَــتَـزَوَّدُهُ
يـا أَهْلَ الشَّـوْقِ لـنـا شَـــــرَقٌ ** **بـالـدّمـعِ يَـفـــيـضُ مُـوَرَّدُهُ
يَـهْـوى الـمُشْـتـاقُ لِـقاءَكُــــــمُ ****وصُــروفُ الـدّهْـــرِ تُبَـعِّـدُهُ
مـا أَحْلى الوَصْـلَ وأَعْـذَبَـــهُ * * * * لــــولا الأيّــــــامُ تُـنَـــكِّــدُهُ
بالـبَـيْـنِ وبـالهُجْـرانِ، فـيـــــا **** لِــفُـؤادي كـيـفَ تَـجَــلّــــدُهُ

2 – (يا ليلُ : الـصَّـبُّ متى غَدُهُ؟) ……وليس كما ورد في كثيرمن الكتب والروايات : (يا ليلَ الـصَّـبِّ متى غَدُهُ؟) !!
تذهب كتب كثيرة ، ومعها مواقع أكثر ، إما عدم تحريك الكلمات تخلصاً من إشكالية الإعراب ، أو بحركات ضعيفة التأويل نحوياً ، أو بلاغيا ، فمثلاً بعضها يذهب إلى : (يا ليلَ الصبِّ متى غذُهُ) هنا ( الصبِّ ) مضاف إليه لـ (ليلَ) المخاطب . فالمفترض أن يقال : ( يا ليلَ الصبِّ متى غدُك) ، والكاف تعود على الليل ، لأن العرب لا تمثل المضاف إليه بضمير إلا في حالة الركاكة اللغوية ، وإلا يجب ذكر المضاف إلية مرّة ثانية ( يا ليلَ الصّبِ متى غد الصّب ) ، كما في الشاهد التابي ، وآخرون يجعلونه ( ياليلي: الصّبُّ ُ متى غدُهُ ).

3 – شاهد من (دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني) – مطبعة المدني – مكتبة الخانجي ص 554 – 555.
648- ” وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا حُكِيَ عَنِ الصَّاحِبِ مِنْ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْفَضْلِ يَخْتَارُ مِنْ شِعْرِ ابْنِ الرُّومِيِّ وَيُنَقِّطُ عَلَيْهِ، قَالَ : فَدَفَعَ إِلَيَّ الْقَصِيدَةَ الَّتِي أَوَّلَهَا
أَتَحْتَ ضُلُوعِي جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ
وَقَالَ : تَأَمَّلْهَا . فَتَأَمَّلْتُهَا فَكَانَ قَدْ تَرَكَ خَيْرَ بَيْتٍ فِيهَا وَهُوَ
بِجَهْلٍ كَجَهْلِ السَّيْفِ وَالسَّيْفُ مُنْتَضًى***وَحِلْمٍ كَحِلْمِ السَّيْفِ وَالسَّيْفُ مُغْمَدُ
فَقُلْتُ : لِمَ تَرَكَ الْأُسْتَاذُ هَذَا الْبَيْتَ فَقَالَ : لَعَلَّ الْقَلَمَ تَجَاوَزَهُ؟ قَالَ : ثُمَّ رَآنِي مِنْ بَعْدُ فَاعْتَذَرَ بِعُذْرٍ كَانَ شَرًّا مِنْ تَرْكِهِ قَالَ : إِنَّمَا تَرَكْتُهُ لِأَنَّهُ أَعَادَ السَّيْفَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ . قَالَ الصَّاحِبُ : لَوْ لَمْ يُعِدْهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَقَالَ:
بِجَهْلٍ كَجَهْلِ السَّيْفِ وَهُوَ مُنْتَضًى حِلْمٌ كَحِلْمِ السَّيْفِ وَهُوَ مُغْمَدُ
لَفَسَدَ الْبَيْتُ.
وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ الصَّاحِبُ . وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا حَدَّثْتَ عَنِ اسْمٍ مُضَافٍ، ثُمَّ أَرَدْتَ أَنْ تَذْكُرَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْبَلَاغَةَ تَقْتَضِي أَنْ تَذْكُرَهُ بِاسْمِهِ الظَّاهِرِ وَلَا تُضْمِرُهُ.”
خلاصة الأمر لا يمكن أن يكون صدر البيت الأول إلا هكذا : “يـا لـيـلُ : الـصَّـبُّ مـتـى غَدُهُ؟”

4 – إعراب : “يـا لـيـلُ : الـصَّـبُّ مـتـى غَدُهُ؟”
يا حرف نداء مبني على السكون لا محل له من الإعراب.
ليلُ : منادى مبني على الضم.
الصبُّ : مبتدأ أول مرفوع وعلامة رفعه الضمة.
متى : اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع خبر مقدم.
غده مبتدأ ثانٍ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة وهو مضاف والهاء ضمير متصل مبني على الضم في محل جر مضاف إليه والجملة الاسمية من المبتدأ الثاني وخبره في محل رفع خبر للمبتدأ الأول.
ومن هنا يتضح معنى البيت فهو ينادي الليل ويسأله عن زمن الصب ووقته وليس يسأل ليل الصب.
5 – إيقاع القصيدة و وزنها وبحرها العروضي:
البحر من ( المتدارك – الخبب) : فَعَلُنْ أربع مرات في الشطر ، ومن جوازاته فعْلنْ ) .
إن أسماء البحر المتدارك : (المحدث، والمخترع، والمتسق ، والشقيق ، والخبب)
المتدارك تفاعيله في الدائرة الأولى ( المتفق ) ، و للشطر الواحد : (فاعِلُنْ فاعِلُنْ فاعِلُنْ فاعِلُنْ) ، وهو شقيق للبحر المتقارب في الدائرة ، إذ كلّ منهما يتشكل من وتدٍ واحد ، وسبب واحد ، والمتقارب وزنه للشطر الواحد : (فَعُوْلُنْ فَعُوْلُنْ فَعُوْلُنْ فَعُوْلُنْ).
ولكن ( الخبب) تمرّ كل تفعيلاته بزحاف ( الخبن) ، أي حذف الساكن الثاني من الأسباب ، وهو زحاف حسن ، فتصبح التفعيلات (فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ). وعليه, فإن قصيدة الحصري القيرواني (يا ليل الصب متى غدُه) وقصيدة شوقي (مضناك جفاه مرقدُه) تنسبان إلى الخبب ، وهو فرع من المتدارك.
إذاً لبحر الخبب تفعيلة فرعية وحيدة هي فَعْلُن بسكون العين . مفتاح البحر (المحدث) الشائع:
حركات المحدث تنتقلُ فعلن فعلن فعلن فعل***
مفتاح (الخبب):
خببا ذهبت تمشى الإبل***فعلن فعلن فعلن فعل
يُعتبر بحر الخببُ أشهرَ الأوزان العربية المستدركة على إيقاعات الشعر العربي وأعذبها، وذلك على الرغم من خروجِه عليها، وشذوذِه عن جميع قوانينها. حيث استقبله الكثير من الشعراء -قدماءَ ومحدثين- بالرضى والقبول، وجذبهم إيقاعُه الجميل، فكتبوا عليه أرقَّ القصائد وأجملها. فلبحر الخبب إيقاع راقص، في حركته خفة وسرعة يدل عليها اسمه، الذي أطلق عليه تشبيها له بجري الخيل. وقد أشار أبو الحسن العروضي (-342هـ) إلى عذوبته في السمع، وصحّته في الذوق، وأنَّ ‏”‏الشعراء [في عصره] قد أكثرت من ركوبِ هذا الوزن”. كما ازداد اهتمامُ المحْدَثين بهذا البحر حتى أصبح ‏”‏من أكثر الأوزان انتشاراً في الشعر الجديد”‏
يقول المعري: “وقد تأمّلت عدو الخيل، فوجدت هذا الوزن يشابه التقْريب الأعلى والتقريب الأدنى، على حسب عجلة المنشد وتراسله…وذلك أنّ الفَرَسَ يضربُ بحوافرِه الأرضَ ثلاثَ ضرباتٍ متوالياتٍ ثمّ يَثِب، فيكون ضرب الأرضِ موازياً لثلاثة أحرف متحركات، ويكونُ وثبه موازيا للسكون‏”.
على أغلب الظن أنّ ا بن رشيق (-456هـ) أوّلَ من أعلن اسم (الخبب) على هذا اللون من الأوزان بقوله عن المتدارك: “‏وهو الذي يُسمّيه الناس اليوم الخبب‏”‏. وسايره شاعرنا الحصري وكان معاصراً له، بقوله في أحد أبيات هذه القصيدة :
ما أجْوَدَ شِعْريَ في(خَبَبٍ)*** والشّعْرُ قليلٌ جَيّدُهُ
وإذا أخذنا برواية ( يا ليلي : الصّبُّ مت غدُهُ؟) ، فيجب أولاً تخفيف الياء الأخيرة من (ليلي) إلى الكسر لتكون التفعيلة الثانية للصدر (فعْلنْ) ، ليس في هذه النقطة المشكلة فقط ، ولكن في (يا ليلي ) ياء المتكلم فيها خصوصية ، أما في ( ياليلُ) ، الليل بشكله المطلق شتان بين الصيغتين.

6 – نبذة عن مسيرة حياة الحصري ومؤلفاته:
هو أبو الحسن علي بن عبد الغني الحصري القيرواني (420 هـ – 488 هـ / 1029م – 1095م) ، شاعر تونسي قيرواني مشهور يتّصل نسبه بعقبة بن نافع الفهري مؤسس القيروان وفاتح أفريقيا (تونس).
أما نسبة الحصري فيقال : إلى صناعة الحصر ويقال: إلى مدينة حصر الدارسة والتي كانت قريباً من القيروان، وهو قريب ( خاله أو ابن خاله ) ابي اسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني صاحب كتاب ( زهر الآداب وثمر الألباب) المتوفي ( 453 هـ ، وقيل غير ذلك).
حفظ القرآن بالروايات وتعلم العربية على شيوخ عصره.والأرجح أنه فقد بصره في طفولته ولم يولد كفيفاً كما زعم صاحب معجم المؤلفين. وكان فقده لبصره سبباً لولوعه بتقليد أبي العلاء المعري ( 363 – 449 هـ / 972 = 1057 م ) في شعره ورسائله مع أنه معاصر له.
وفي مقتبل شبابه كانت فتنة بني هلال في القيروان سنة 449 هجري، تلك الفتنة التي شتَّتت أهل القيروان ، فقال ينْدُبُها بقصيدةٍ طويلةٍ منها:
مَوتُ الكرامِ حياةٌ في مواطِنهمْ***فَإن هُم اغتربُوا مَاتُوا وَمَا ماتوُا
يا أهلَ ودّيَ لاَ والله ما انتكَثَتْ.*** عنـدي عهودٌ ولا ضاقتْ مودّاتُ
لقد قضى الحصري نحو ثلاثين سنة من عمره في القيروان اي فترة الشباب كلها، وبعد النكبة اضطرّ إلى الهجرة من وطنه كما فعل الشاعران أبناء بلده وهما ابن رشيق وابن شرف، والتجأ إلى سبتة واستقرّ بها يدرّس علم القراءات.
ثم تركها إلى إشبيلية ملتمساً الحظوة عند المعتمد بن عباد، ثم تركها إلى دانية لما علا نجم ابن مجاهد العامري، ولم يبرح أن تركه إلى سرقسطة ةً ثم رحل قاصداً ابن طاهر صاحب مرسية، فعظمت مكانته عنده ومدحه بالقصيدة التي ذاعت شهرتها وطبقت الآفاق وتنافس المغنون في تلحينها والشعراء في معارضتها، وكانت تلك القصيدة هي قصيدة
ياليل الصب متى غده***أقيام الساعة موعده
بقيت قصيدة ياليل الصب هي الاسم الثاني لأبي الحسن الحصري وهي اللفتة السانحة التي نفحته الخلود.
دوواينه
1 – ديوان مستحسن الأشعار وهو فيما قاله في المعتمد بن عباد.
2 – ديوان المعشرات وهو شعره الفنِّي الغزلي، يبتدئ كل بيت فيه بالحرف الذي يقفَّى به
3 – ديوان مختلف المناسبات
4 – ديوان اقتراح القريح واجتراح الجريح
ويشتمل على 2591 بيتاً في رثاء ولد له مات ولم يتم سن العاشرة، وكان إماماً في مسجد ناحيته، جامعاً لمعلومات يعجز عن إدراكها الكبار، وقد توفي وهو في حضنه، ووصف ذلك بقصائد تتفتت لها الأكباد
إنّي أحبّك حباً لـيس يبـلـغـه *** فهمٌ ، ولاينتهي وصفي إلى صفته
أقصى نهاية علمي فيه معرفتـي ***بالعجز مني عن إدراك معرفته
وأخيرا حلّ بمدينة طنجة، وفيها توفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة للهجرة 488 هجري.

7 – معارضات القصيدة :
قصيدة الحصري الضرير القيرواني عارضها ثلاثة وتسعون شاعراً كبيرا فعجزوا عن مجاراتها ،
فمنهم أبو القاسم الشابي وأحمد شوقي وأمجد السامرائي وابن مليك الحموي وبشارة الخوري وجميل الكاظمي وجميل صدقي الزهاوي وخير الدين الزركلي وعاتكة الخزرجي وعبدالرزاق بستانه وعلي النفير وفوزي معلوف ومحمود بيرم التونسي ووليد الأعظمي وغيرهم من كبار الشعراء العرب.
فمطلع قصيدة أبي القاسم الشابي:
غناه الأمس وأطربه *** وشجاه اليوم فما غده
ومطلع قصيدة ابن مليك الحموي:
الحظ يسبيك مقلده *** أم سيف شاقك مغمده
ومطلع قصيدة جميل صدقي الزهاوي:
لي عندك حق أنشده *** أتقر به أم تجحده
ومطلع قصيدة فوزي المعلوف:
هل سيل يهدر جارفه *** أو بحر يزخر مزبده
ومعارضة محمود بيرم التونسي في مدحه للنبي (ص):
اليوم الأسعد مولده *** مصباح الدهر وسؤدده
ربّما أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته ( مضناك جفاه مرقده ) :
مُضْنــــاك جفـــاهُ مَرْقَـــدُه***وبَكــــاه ورَحَّــــمَ عُـــوَّدُهُ
حــــيرانُ القلـبِ مُعَذَّبُـــهُ***مَقْــــروحُ الجَـــفْنِ مُسهَّدُهُ
أَودَى حَرَقًـــــا إِلا رَمَقًـــــا**يُبقيــــه عليــــك وتُنْفِــــدُهُ
يستهوي الـوُرْقَ تأَوُّهـــه*** ويُـذيب الصَّخْـرَ تَنهُّـــدُهُ
ويُنــــاجي النجـمَ ويُتعبُـــه ***ويُقيــــمُ الليلَ ويُقْعِـــدُهُ
كاد أنْ يصل إلى روعتها لولا ……!!

8 – بين شوقي والحصري …تحليلاً ونقدا !!!
شوقي معارض متكلف متصنع ، يتخيل بالتشكيل وتقمص شخصية الشاعر الأصيل – في كلّ معارضاته …سيان لنونية ابن زيدون أو سينية البحتري ….أو دالية الحصري …لأن الظروف الموضوعية والذاتية ولحظات نظم القصائد متباينة مختلفة ، والنفسية البشرية نفسها غير نفسها في لحظات أخرى.
بدأ الحصري ” يا ليلُ الصّبّ ُمتى غدُهُ ” بنداء تحسره وتوجعه ، و واصل زفراته ولواعجه بمفردات كانت تلازمه في مسيرة حياته ما ظهر منها وما بطن ..الصبُّ..الغد..رقد السمار ..الأرق..البين ..النجم …كلف بغزال .. بعد أن عجز عن هذا كله استسلم للبين والنوم ، والبين لم يرضَ به ،
لم يستسلم صاحبنا…!!
وضع شركاً لحبيبته في نومه … فعزّ عليه تصيّدها ، وكرر مظفر النواب في شعبياته هذا المعنى ( تعال بحلم وأحسبها إلك جيّة ، وأكولن جيت …. يا ثلج اللي ما وجيت !!)
أي إيحاء تخييلي أصاب هذا الرجل الضرير ..ولا تتخيل الإيحاء يثنيني أن أحسب القيرواني كان كلفاً بحبّْ واقعي بدليل قوله : ( خوف الواشين يشرّدُهُ) ، فهذه جملة إخبارية ليس فيها مسحة تخيلية ، و إنما تجربة واقعية ! و بداياتها ليست مجرد مطلع لقصيدة مدح ، وإلا لعبرها الزمان ، ولم تتلاقفها الألسن جيلاً بعد جيل ، هائمة بها، مغنية لها ! نعم فيها أحاسيس صادقة ، ومشاعر مصدقة برسم العشق ، بينما قصيدة شوقي منحوتة من صخر التقليد ! لا تقل لي كان السيد ضريراً ، الضرير تكون الغريزة الجنسية عنده أقوى من السالمين الأصحاء لسبيبين :
الأول للتعويض عن النقصان العضوي ، وهذه قضية فسيولوجية ، والثاني الحرمان وهذه إشكالية بيئيه ، ألم يصرخ بشار الأعمى الماجن الصريح قبله بثلاثة قرون ( قتل بشار بالسياط في البصرة سنة 168 هـ) :
ياقوم أذني لبعض الحيِّ عاشقة ٌ***والأذنُ تعشقُ قبلَ الـــــعينِ أحيانا
قالوا بمن لا ترى تُهذي فقلتُ لهم***لأذنُ كالعين ِتوفي القلبَ ما كانا
ثم يندب حظه العاثر ، ولو أنني في شك كبير من هذا البرد أن يكون حظه عاثرا ، ولكن نقبل منه قوله:
لمْ يطلْ ليلي ولكن لمْ أنمْ ونفى عني الكرى طيفٌ ألمْ
وإذا قلتُ لها جودي لنا خرجتْ بالصمتِ عن لا ونعمْ

9 – الحصري وبشار يجرّاني للكلام نبذة موجزة عن ليل الشعراء :
وجرّنا الحصري بيا ليله متى الصبُّ غده ، وبشار ببت ليلي لم أنمْ ، وابن زيدون كان يقول : بتّ أشكو قصر الليل معه ، والشاعر يقول :
والليالس كما علمت حُبالى ***مقارباتٌ يلدن كلَّ عجيبِ
نعم الليالي عجيبات بصخبها ومجونها ، وعبثها وسمرها ، ومرجها وهرجها ، وربّما أجلى مظاهر الطبيعة ليلها البهيم الذي يحتل نصف حياة الإنسان ، وأروع ما قيل فيه ليل امرىءالقيس (توفي 540م) :
وليل ٍ كموج ِالبحر ِ أرخى سدولهُ*** عليّ بأنـواع ِالهمـوم ِليبتلي
فقلتُ لـــهُ لمّــــــا تمطـّى بصُلبهِ*** وأردفَ أعجازاً ونــــاءَ بكلكل ِ
ألا أيّها الليلُ الطويـلُ ألا أنجلي ***بصبح ٍ وما الإصباح ِمنك بأمثل ِ
وابن خفاجة (إبراهيم بن أبي الفتح ت 533هـ – 1138م) ، يتخيل كما يشاء لوصف جبل هرم شامخ ، مرّت به العصور الغابرة ، أكثر مما مرّت على ( أبي الهول):
وقور ٍعلى ظهر ِالفـــلاةِ كأنـّهُ*** طوالَ الليالي مفكرٌ بالعواقبِ
و أبو فراس الحمداني (ت 357هـ /968م) يوظف الليل لمعللته بالوصل – أو ذهب مذهب الأولين بإطلالة النسيب – تارة :
أذا الليلً أضواني بسطتُ يدَ الهوى ** * وأذللتُ دمعاً من خلائقهِ الكبرُ
هنا أراد الليل بشحمه ولحمه ، يعني بهدوئه وصمته وسكونه وغسقه وسحره بدليل إذلال دموعه في وقت لا من درى ، ولا من رأى ، وطوراً – وفي القصيدة نفسها – يستخدم كلمة الليل جسرا للعبور إلى الفخر مشبهاً نفسه ضمنياً بالبدر في بيته:
سيذكرني قومي إذا جدَّ جِدّهم ** * وفي الليلة ِ الظلماءِ يُفتقدُ البدرُ
وبشار بن برد ( ت 168هـ / 784م) يلجأ إلى الليل بكواكبه المتهاوية في بيته الرائع – وهو الأعمى – لوصف معركة حامية الوطيس ، جعل نهارها ليلاً بـ (كأنّ ) التشبيهية لمثار نقاعها ، وسيوفهم اللامعة تتهاوى كالكواكب المضيئة فوق رؤوس أعدائهم بتشبيهيَن تخييلييَن:
كأنَّ مثار النقع ِ فوقَ رؤوسهمْ* * ** وأسيافنا ليلً تهاوى كواكبهْ
وفذلكة الأقوال – يا صاحبي – الليل طويل ، وإنْ لم يطل ليل بشار ، وابن زيدون بات يشكو قصره …! فهو ظاهرة طبيعية صامتة طويلة على من داهمته هموم الملك الضليل ، لذا أطلنا الشوط معه ، وأنا متحسر على خيبة القيرواني ، نودعكم بالخيبة على أمل اللقاء بالرجاء..!!
كريم مرزة الأسدي