19 ديسمبر، 2024 2:43 ص

لايدري كيف تسربت الى ذاكرته تلك الحكاية مخترقة السنين، لتظهر ناصعة كما حدثت بدون زيادة او نقصان، اندهش من تلك الذاكرة الغضة، هل كانت هي هكذا ام هذه اشتراطات العمر ام الوقت، افترض ان الهموم اذا تراكمت ربما افسدت الذاكرة، وكذلك السنين اذا تراكمت افسدتها ايضا، كالمجنون يعبر تلك المقبرة التي تشرف على مرتفع يسميه ( اليشان)، ينتظر عودة آخر دفان، وقبلها ينظر باتجاه الفوانيس التي تضيء من بعيد، تضيء عالم الاطفال الاموات، ليهرع صباحا الى نفس المكان يرى مافعلوا ، وكيف دسوا الطفل في التراب، فيرى بقايا جريد سعف النخيل وآثار اقدام على الممرات بين القبور، وحفرة جديدة، ومعلمة بعدد من الحجارة، عندما اموت سيفعل ابي هكذا معي، وهو بعد منشغل بافكاره السوداء التي ايقظت ذاكرته على كثير من الاحداث الشيطانية، كأنه حارس لتلك المفازة من الارض وتلك القبور؛ العشاق واصحاب السيارات من الذين يجلبون العاهرات هناك، حتى مرة دعاه احدهم بالحرف الواحد: ماذا تريد؟ كانت هي تحمل ( علاكة السوك الفارغة) وتشيح بوجهها بعيدا، فقال له: تعال اتريد تتونس؟ (بس انته بعدك ازغيّر)، اشاح بوجهه عنه وهو يرصد اصفرار وجه المرأة، كأنها خالية من الدماء، كانت تحمل سحنة الموتى، فظن ان الجنس يفعل هذا، لكنه لم يدر بأنه الخوف والمجازفة، ولايدري على ماذا، فهو لم يصل حد البلوغ، ولم يجرب اشتعال الرغبة.

بكر صباحا الى القبور وهو يرصد حركات العشاق ككل يوم، كانت متعة كبيرة لديه عندما يجد عاشقين في حالة تلبس، لايشيح بوجهه عنهم، يريد ان يعرف مايجري، فيتعالى صوت الذكر دائما بالصياح، وكأنه هو الوحيد المسؤول عن هذه العملية: ( امشي ولي لك)، فيعود ادراجه ليتلصص من بعيد، هذا الصباح يختلف تماما، فقد جاء اثنان من الرجال يقودان حصانا وهو يتعثر في مشيته، انا اعرف ان البحيرة المالحة التي تحت ( اليشان) هي مقبرة الخيل في مدينتنا، اذ بمجرد ان يصاب الحصان بجرح بليغ ويصبح لافائدة منه، يجري سحبه الى ( المقلع المالح) ، ويترك ليلاقي مصيره، وهذا الحيوان الذكي يزعجني دائما، انه لايحاول الخروج، حتى وان حاولنا معه بالعصي والهراوات، هل يجد راحته في المياة المالحة، وهل ان هذه المياه تكون بمثابة علاج لجراحه، لم اتبين هذا الامر ابدا، الاثنان صعدا بالحصان الاعمى الى اعلى نقطة، وقاما بدفعه من هناك، فسقط في البحيرة ( المقلع)، وراح يسبح بقوة ولكنه ضائع تماما مع ان المساحة لم تكن كبيرة جدا، يناضل في احد الاتجاهات، حتى اذا اقترب من اليابسة ولم يبق له سوى ستة او سبعة امتار عاد ادراجه متوهما ان العودة ستنفعه اكثر من التقدم الى الامام، دام على هذا الامر طويلا، امن الرجلان خروجه فغادرا المكان، وبقي يرقب حركاته وهو يسبح بكل الاتجاهات، تعب اخيرا ووقف يستريح، ثم اعاد الكرة ثالثة ورابعة وخامسة، هبط من المرتفع ليقف له على احد الجوانب المنخفضة ويدعوه، لكنه لم يفهم، يقول له: (تعال وصلت) ، هذا هو الجرف، لكنه يجفل ويعود ادراجه الى الخلف، كانت الساعة قد تأخرت وعليه ان يذهب الى المدرسة، تركه وعاد اليه في اليوم التالي وهو يحمل كيسا من الخبز اليابس فرأى الحصان وليمة للكلاب السائبة وهي تمزق ماتستطيع منه.

أحدث المقالات

أحدث المقالات