23 ديسمبر، 2024 5:55 ص

الحصانة من شرور الانترنيت

الحصانة من شرور الانترنيت

نعيش في عالم تلاحقنا فيه الامواج والاشعاعات حتى غرف النوم ، وهي تحمل القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية وموجات الهاتف الخلوي ، ولو كان للموجات المتطايرة حولنا صوت لسمعنا طنينا هائلا مزعجا لا يطاق ، ولكنها موجات غير مرئية وصامتة ، الى ان تدخل في كمبيوتر او هاتف او اي جهاز استقبال ، لتتحول الى صور واصوات وموسيقى وكتابات وافلام ومعلومات ورسائل وبرامج عجيبة غريبة مريحة ومزعجة ، نافعة وضارة .. عاقلة ومجنونة ، محتشمة واباحية ، نافعة وعبثية ، معقدة وبسيطة …و…

وفي هذا الخِضَمِّ المتدفق بلا رحمة والذي يقتحم عالمنا بلا استئذان هل من وسيلة للحصانة ضد اضراره،

ولا اقصد هنا الحصانة من الاضرار التقنية التي تلحقها بنا موجات الكترومغناطيسية نرافق موجات الهاتف المحمول وغيره فتؤثر سلبا على اعصابنا وصحتنا ، وانما اقصد الاضرار التي تتسرب الينا من المضامين ،

الا يجدر بالمرء أن تكون لديه رؤية ناضجة في كيفية التعامل مع هذه التحديات الالكرونية وان تتوفر لنا قوَّة واعية تأخذنا الى برِّ الأمان، اي حصانة من شرور الانترنيت !

ان الانسان امام مغريات الانترنيت سيميل الى اختيار ما تهواه النفس ، خاصة وان المرء غالبا ما يكون منفردا امام جهازه يتابع بسهولة ما يصل اليه عبر الانترنيت من تنوع ومغريات بلا حدود ولا رقابة ، فكيف يمكن ان تتوفر عنده الحصانة الذاتية كجهاز مناعة واقٍ من أن يتسرَّب إليه شيء من الخلل والعطب .

وقديما دعا الإمام ابو حامد الغزالي (القرن الخامس الهجري 450) في كتابه ( إحياء علوم الدين) الى الحذر امام تنوع الافكار ومصادرها ، ( ولم تكن مطلقا مثل ما هي عليه في ايامنا هذه) فاكد على ان يعمل الانسان على تحصين عقله من الانحرافات الفكرية، وخصوصاً إن كان في منطقة يكثر بها أهل البدع والهوى، ( … فينبغي أن يُصان بتلقين الحق؛) ويعترف الغزالي بصعوبة وعسر تجنب الباطل !!

ماذا كان سيقول الغزالي – الذي عاش في زمن لم تكن فيه وسائل نقل المعلومات سهلة ولا متوفرة مثل ما هي عليه في زماننا هذا لو رأى ما يضعه الانترنيت امامنا من مغريات سهلة التناول متنوعة المحتوى والاساليب حيث يستطيع حتى الاطفال التعامل معها على الكمبيوتر او الهاتف المحمول الذي تحتضنه الاكف بحرص وتتعامل معه الاصابع بمهارة واستمتاع

يمكن للمفكرين والتربويين ان يروجوا للحصانة الفكرية بالعلم والتثقيف لحماية عقول النشء من الآثار السلبية والفكرية المتدفقة عن طريق وسائل التقنية الحديثة. ويمكن تدبيج النصائح والاحاديث التنويرية عن الاضرار الفكرية والتربوية خاصة للاجيال الشابة والفتية …

هذا كلام سهل امام الزخم الهائل للبرامج والمواقع الالكترونية التي تحمل ثقافات وقيم متنوعة تختلف في بيئاتها عن بيئاتنا واخلاقياتنا مما يشكل تناقضاً كبيراً بين ثقافتنا وثقافة تلك الدول،.

إن الاشكالية في التفكير والحياء والفضيلة تعود بالدرجة الأولى إلى سوء استخدام التقنية الحديثة، فمعظم السلبيات تتمركز حول سوء الاختيار والإفراط والتساهل في استخدام التقنية للتسلية، أو لإبراز المهارة والتميز، والمخاطرة وإشباع روح المغامرة، وعدم تقدير الأضرار التي تلحق بالذات أو بالآخرين نتيجة لسوء استخدام التقنية وعدم الإلمام بأبعادها المعرفية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية.

هل تتحقق الحصانة بالرقابة والمنع ؟ اولا ان هذا من الناحية التقنية العلمية غير ممكن الا بحدود ضيقة جدا ويمكن التحايل على جميع وسائل المنع واختراقها ا ، كما سيعتبرالكثيرون المنع والرقابة والحجب تعديا على حقوق الانسان ، وحَجرا على الأفكار، واسترقاق فكري، وإرهاب الثقافي ، وأنَّه لا بأس بأن يستمع من شاء إلى من يشاء، وهو يفرز ما يضره وما ينفعه .!!

وهنا تجدر الاشارة الى الاشكاليات التي تعيشها الكثير من العوائل العربية والاسلامية في بلاد الغرب حيث تعيش تناقضا كبيرا بين ما تربت عليه وما تعايشه هناك ، وتكبر المشكلة عندما بفكرون بالمخاطر الاخلاقية التي تهدد اولادهم وبناتهم وعجزهم عن صيانتهم من تلك المخاطر .. تماما مثل الشباب وحتى الاطفال الذين

يختلون بانفسهم امام الكمبيوتر او الهاتف المحمول المتعدد الوسائل فيقلبون الصفحات على هواهم ومزاجهم ورغباتهم .. ويخفون عن اهلهم ما يرونه عبر الانترنيت زاعمين انهم لا يرون الا ما ينفع من معلومات ، او انهم يستمعون للموسيقى واالاغاني التي يحبونها بينما الصفحات التي امامهم قد تكون في ادنى مستويات الاباحية !!

ما العمل ؟ انا لا اريد ان اعطي حلولا ونصائح بل انني اشخص حالة معقدة ، فالتربويون وعلماء الاجتماع حائرون امام اشكالية الحصانة ضد الانترنيت فيتحدث البعض عن التنوير والتثقيف ، ويدعو البعض الى تشديد الرقابة العائلية ويرتأي اخرون توسيع اجراءات المنع ، فهل المنع الالكتروني ممكن ؟ كيف ؟ ومع كون المنع من الناخية الاجرائية متعذراً في هذا الزَّمن، وقد تكون له ردَّة فعل تجعلهم الشباب والاطفال حتى يصرُّون على ما يفعلون ويرجع الأسلوب التربوي ان لا منع مطلق، ولا إباحة مطلقة، بل إباحة وفق ضوابط وتحذير ودعم تربوي.

ان الانترنيت ليس نظاما شريرا فاسدا ومفسدا ، بل الشر والفساد يكمن في سوء الاستخدام من قبل المصدر الذي يبث ما يضر ويفسد او من المتلقي الذي يغويه ما يراه امامه فيواصل الالتصاق بشاشة الكمبيوتر وهو منزوي في ركن من البيت لا يرى فيه احد غيره ما يظهر على الشاشة