قالت مصادر سياسية عراقية إن التهديدات التي تطلقها الفصائل المكونة للحشد الشعبي بشأن نتائج الانتخابات هي تهديدات جدية، وإنها قد تمر إلى خطوات تصعيدية إن لم يفض إجراء عد جديد للأصوات إلى فوزها بالكتلة الأكبر، ومن ثمة حصولها على حصة ذات قيمة في الحكومة المقبلة.
وأشارت هذه المصادر إلى أن قادة الفصائل يجهّزون عدة بدائل تصعيدية تبدأ من إثارة “احتجاجات شعبية”، وقد تنتهي إلى انقلاب ميداني لإرباك الوضع تستخدم فيه ميليشيا الحشد قوتها المؤلفة من نحو 180 ألف عنصر، بمشاركة قوات “الدمج” التابعة لها داخل المؤسسة العسكرية، وعناصرها بالآلاف من الأفراد التابعين للأحزاب الموالية لإيران والذين تم دمجهم في مختلف فروع القوات المسلحة.
ولفتت إلى أن هذا الانقلاب لن يكون بشكله الكلاسيكي الذي يعني استلام السلطة بالقوة العسكرية، وإنما يتم عبْر خلق حالة من التعجيز الميداني تخنق العملية السياسية التي ابتدعتها الأحزاب الطائفية؛ وذلك من خلال عرض لا ينقطع للقوة مثلما يفعل حزب الله في لبنان، ويهدف إلى تعطيل عمل أي حكومة مستقبلية لا تكون قابلة بشروط الميليشيات وخادمة لأجندتها أمنيا وطائفيا وخاصة المحافظة على مصالح إيران ومنع خروج العراق عن دائرة نفوذها وسعيه لبناء علاقات إقليمية متوازنة.
ويمتلك الحشد بالفعل القوة العسكرية الكافية لفرض حالة التعجيز الكامل للدولة العراقية، ويمكنه اللجوء إلى هذا الخيار إذا تم استبعاده من المشاركة في السلطة.
وتدور صراعات الثنائي الشيعي بالعراق في اتجاهين ويريد الحشد الشعبي أن يضمن لنفسه حصة في أي منهما، خاصة في ظل تشكيل “الإطار التنسيقي الشيعي” للقوى الموالية لإيران الهادف إلى الالتفاف على نتائج الانتخابات، في سابقة عكسية لتشكيل التحالفات التي تتم عادة قبل الانتخابات للفوز بها، وليس لتغيير النتائج بالقوة.
في الاتجاه الأول يحاول “الإطار التنسيقي الشيعي” للقوى الموالية لإيران، والذي يقوده زعيم حزب الدعوة نوري المالكي، أن يحصل على دعم أكبر عدد ممكن من المقاعد البرلمانية لتشكيل “الكتلة الأكبر”، وبالتالي تشكيل الحكومة.
إلا أن هذا التوجه يصطدم بتهديدات الطرف الآخر في الثنائي الشيعي وهو التيار الصدري الذي يتمسك بأنه هو “الكتلة الأكبر” وأنه الأحق بأن يبدأ المشاورات لتشكيل الحكومة. ويقول مسؤولون في هذا التيار إن سرقة الحق منهم سوف تكون عواقبها وخيمة، وإن أي حكومة لا يشكلها مقتدى الصدر سوف تسقط مثلما سقطت حكومة عادل عبدالمهدي في ديسمبر 2019.
أما الاتجاه الثاني فيتمثّل في أن تتسع “الحكومة الصدرية” بشكل يضمن لأطراف “الإطار التنسيقي” حصتهم في الوزارات التي يرغبون في توليها، وهو ما اعتبره مسؤولون في الحشد الحد الأدنى الذي يمكن القبول به، وإلا فإن قلب الطاولة سيكون هو الخيار الوحيد المتبقي أمامهم، ومن بين ذلك فرض الأمر الواقع بالقوة العسكرية التي لا يستطيع مسلحو التيار الصدري مواجهتها.
ولا تزال مفوضية الانتخابات تجري إعادة الفرز لنحو 300 محطة انتخابية، ولكن من غير المتوقع أن تؤدي إلى تغيير كبير في واقع الهزيمة التي منيت بها ميليشيات الحشد الشعبي والأحزاب المرتبطة بها.
ويقول مسؤولون في التيار الصدري إن “الخصوم نسوا أن حكومتهم السابقة سقطت بسبب الاحتجاجات التي عمت البلاد، من بغداد إلى أقصى الجنوب، وأن المتظاهرين قاموا بحرق مقرات الأحزاب المشاركة في الحكم. وهم يزعمون الآن أنهم يجب أن يحصلوا على عدد من المقاعد أكثر مما كانوا يتمتعون به، وهذا غير معقول من الناحية المنطقية على الأقل”.
ويعرف المكونون لـ”الإطار التنسيقي” هذه الحقيقة، إلا أنهم يمارسون الضغوط من أجل ألا يخسروا كل شيء. والخوف الأكبر هو أن حكومة ليست لهم فيها حصة قد تعني فتح ملفات الفساد والاغتيالات، بل قد تذهب إلى حد فرض حل ميليشيات الحشد كقوة عسكرية مستقلة، ودمجها في وحدات الجيش العراقي. وهو ما كان زعيم التيار الصدري قد هدد به عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات.
وتقول مفوضية الانتخابات إن النتائج حظيت بتزكية المراقبين الدوليين واعتراف مجلس الأمن الدولي بنزاهتها مما لا يبقي للمعترضين على النتائج أي مبرر لضرب العملية الديمقراطية أو إلغائها أو القفز من فوقها.
وكان مجلس الأمن الدولي أصدر بيانا أشاد فيه بشفافية الأجواء التي سادت العملية الانتخابية، مبديا أسفه على التهديدات التي تطلقها القوى الولائية الخاسرة باستهداف البعثة الأممية في العراق. كما أصدر الاتحاد الأوروبي موقفا مشابها تضمن تأييدا لنتائج الانتخابات واستنكارا لوسائل الاعتراض “غير الديمقراطية”.
إلا أن ذلك لم يمنع الفصائل الخاسرة من تحريك أنصارها لكي يحتشدوا على أطراف المنطقة الخضراء ويهددوا باقتحامها. وأمهلت هذه الأطراف مفوضية الانتخابات 24 ساعة في حال عدم الموافقة على إعادة فرز جميع أصوات الاقتراع يدويّا.
وتتحرك مجاميع مسلحة تابعة للحشد في عدة مناطق من البلاد، في استعراض للعضلات قامت فيه بقطع الشوارع الرئيسية وإشعال النيران والتلويح باستخدام السلاح.
وأصدر قادة “الإطار التنسيقي” الذين اجتمعوا في منزل المالكي بيانا طالبوا فيه رئيس الجمهورية برهم صالح بالتدخل -باعتباره حاميا للدستور- لحفظ البلاد من “تداعيات خطيرة” إذا تم التسليم بنتائج الانتخابات.
ولا يملك الرئيس صالح الصلاحيات الدستورية التي تسمح له بتعديل النتائج أو الانقلاب عليها، فضلا عن أنه لا يرغب في ذلك أصلا. ولكن الدعوة التي وجهت له كانت تعبيرا عن حالة اليأس التي تعانيها القوى الولائية.
وتنظر هذه القوى إلى خيار الانقلاب على أنه “حل واقعي” يمنع الصدر من الانفراد بالسلطة على حسابها، ويمنع الاحتجاجات الشعبية من الخروج مجددا للمطالبة بإسقاط النظام، تحت وطأة التهديد باستخدام القوة أو فرض أحكام الطوارئ.
ويرى مراقبون للشأن العراقي، أن التصعيد الحالي من قبل المجموعات المسلحة وتحريك عناصرها عبر الاحتجاجات والاعتصامات، المقامة حالياً في محافظات: بغداد، والبصرة، وذي قار، وغيرها، يأتي بهدف الحصول على حصص جيدة خلال تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، أو عدم تجاوزها بشكل كامل.
إن “تلك الجماعات لجأت إلى الاعتصامات، والتلويح بالسلاح، بسبب الهزائم التي لحقت بها في الانتخابات”، مشيراً إلى أن “ما فعلته يمثل انقلاباً على الدولة والحكومة، لأنها ابتعدت عن الطرق القانونية والشرعية في الاعتراض”.
وأن “هذا التحرك يهدف في المقام الأول، لضمان وجود تلك القوى وممثليها السياسيين، ضمن الأحزاب التي ستشكل الحكومة، بسبب إحساسها بخطر الإبعاد”.
ولفت إلى “ضرورة عدم الالتفات لتلك المجاميع، فهي لا تمثل إلا نفسها، وليس لها جمهور حقيقي على أرض الواقع”.
وتعكس تلك الاحتجاجات، قلق “تحالف الفتح” من انفراد التيار الصدري بالسلطة، حيث حاز على المرتبة الأولى، بأكثر من 70 مقعداً انتخابياً، وهو ما يدفعه إلى إثبات وجوده عبر الاحتجاجات الشعبية.
وينادي المعتصمون بإعادة العد والفرز اليدوي لكل العملية الانتخابية، وهو ما رفضته مفوضية الانتخابات، خاصة وأن جميع نتائج المطابقة التي أجرتها المفوضية يدوياً، كان موافقاً للعد الإلكتروني.
وأثارت تلك الاحتجاجات غضباً شعبياً واسعاً، بسبب زج عناصر الحشد الشعبي فيها، وتوجيههم إلى المشاركة فيها، على الرغم من أن الحشد قوة أمنية، خاضعة لسلطة مجلس الوزراء.
مفوضية الانتخابات في العراق تقرر إعادة العد لهذه الدوائر
ووجهت تلك المجاميع تهديدات إلى بعثة الأمم المتحدة، حيث اتهمتها بالتدخل في الشأن الانتخابي، وهو ما رفضه مجلس الأمن الدولي، عبر بيان صدر عنه بشأن الانتخابات العراقية.
ولم تقتصر التظاهرات على أنصار الميليشيات المسلحة من الجماهير العامة، بل شارك فيها منتسبون في تلك الفصائل، إذ أظهر مقطع مرئي، شجارا بين أحد الضباط ومتظاهر، بشأن إغلاق الطرق، ليرد المتظاهر على الضابط بـ”نحن فصائل المقاومة”.
وأربكت الانتخابات حسابات بعض الكتل الصغيرة والكبيرة بسبب المفاجآت التي تضمنتها، إذ حل التيار الصدري في المرتبة الأولى بأكثر من 70 مقعدا، فيما حل “تحالف تقدم” برئاسة رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، في المرتبة الثانية بـ 38 مقعداً.
بدوره، أعرب زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، السبت، عن أمله بأن يسهم موقف مجلس الأمن من الانتخابات العراقية في تراجع الأطراف السياسية المعترضة على النتائج بحجة التزوير.
وقال الصدر في بيان: إنّ “جر البلاد إلى الفوضى وزعزعة السلم الأهلي بسبب عدم قناعة مدعي التزوير بالنتائج، هو أمر معيب يزيد من تعقيد المشهد السياسي والوضع الأمني، بل يعطي تصورًا سلبيًا عنهم، وهذا ما لا ينبغي تزايده وتكراره”.
وحذر الصدر من “الضغط على مفوضية الانتخابات أو التدخل بعمل القضاء والمحكمة الاتحادية”، مؤكدًا أنّ “القناعة بالنتائج الإلكترونية سيفيء على العراق وشعبه بالأمن والاستقرار”.
وفي وقت سابق، حذر الصدر، من “الاقتتال والصدام” على خلفية إعلان النتائج الكاملة للانتخابات من قبل المفوضية العليا.
الحشد الشعبي تنظيم شيعي عقائدي يحمل مشروعا سياسيا واضحا ويخدم مصالح إيرانيّة في العراق خاصة، وثمة سعي حثيث لتوسيع هذه التجربة لتشمل دولا عربية أخرى في نطاق برامج إيران التوسعية في مناطق السنة، ويحظى هذا التنظيم بتسليح كبير يضاهي الجيش العراقي من ناحية العدة والعتاد، باستثناء امتلاكه للطائرات الحربية والمروحيات، إذ تؤكد الأحداث التي مرَّت على العراق منذ مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في يناير/ كانون الثاني 2020، أن الفصائل المسلحة المنخرِطة في الحشد الشعبي باتت لديها قدرة صاروخية كبيرة. وقد زوّدت الحكومة العراقية الحشد الشعبي بمختلف أنواع الأسلحة منذ تشكيله. وجاء قصف السفارة الأميركية وقواعد التحالف الدولي في العراق، ليؤكد أن لهذه الفصائل قدرات تسليحية وصاروخية كبيرة، وهو ما أكده ضابط بارز في مديرية الاستخبارات العسكرية التابعة لوزارة الدفاع العراقية، في أن بعض الفصائل حصلت على صواريخ يصلُ مداها إلى نحو 40 كيلومترًا، ومنها كتائب حزب الله والعصائب وبدر.
وإن ترسانة الصواريخ لدى الفصائل التابعة للحشد، تعدّ من ضمن الصواريخ التي زوّدتها بها إيران أو التي طوّرتها الفصائل محليًّا، ومنها صواريخ “زلزال 1″ و”زلزال 2″ و”فجر 1” و”فجر 5″، إضافة إلى الطائرات المسيّرة ثابتة الجناح إيرانية الصنع، والتي بدأت هذه الفصائل استخدامها قبل نحو 4 أشهر في عملياتها ضد مطارَي بغداد وأربيل وقاعدة عين الأسد الجوية في محافظة الأنبار، التي تتمركز بها قوات التحالف الدولي. كما بات الحشد يمتلك عشرات الناقلات المدرَّعة من طراز بي إم بي-1، والدبابات السوفييتة من طراز تي-72، فضلًا عن كتائب من الدبابات المطوَّرة إيرانيًّا في العراق من قِبل كتائب حزب الله، في منطقة جرف الصخر جنوب بغداد.
انتهى القلق الانقلابي بمجيء نظام 2003 الذي نزع عن القوى العسكرية الرسمية قدرتها على القيام بانقلابات، وجاء بآليات تداول سلمي للسلطة تزيل الدواعي السياسية للانقلابات العسكرية، لكن هذا النظام “الديمقراطي” فشل في بناء سلطة تحتكر الخطاب والقرار والسلاح الرسمي للدولة، وعمد، عن قصد أو من دونه، إلى توزيع هذه السلطة على مراكز قوى متعددة، متحالفة أحيانا ومتنازعة أحيانا أكثر، لينتهي العراق دولة هشة ومضطربة تعجز حكومتها المنتخبة وصاحبة القرار الملزم قانونيا، عن إنفاذ قراراتها على مراكز القوى الكثيرة فيها.
كان مشهد هذا العجز واضحا على امتداد الأشهر الماضية عبر ملفين اثنين، الأول هو المواجهة الأميركية الإيرانية واصطفاف فصائل تابعة للحشد الشعبي مع إيران إلى حد استعدادها خوض حروب النيابة عن طهران في العراق وخارجه.، رغم سعي الحكومة وقوى سياسية نافذة، هي أيضا من مراكز القرار، توحيد خطاب الدولة خلف موقف عام عليه إجماع سياسي وشعبي بالنأي عن الدخول في هذه المواجهة، كسرت فصائل حشدية هذا الإجماع الهش، أولا خطابيا بإعلانها انحيازها الصريح إلى جانب إيران، وثانيا، عمليا بخزنها أسلحة إيرانية محرم على العراق حيازة بعضها كصواريخ بعيدة المدى في معسكرات تابعة لها، من دون علم الحكومة العراقية، إلى أن أحرج قصف إسرائيلي لهذه المعسكرات بموافقة أميركية كامل الطبقة السياسية العراقية، وكشف هشاشة الدولة وحكومتها في أشد اللحظات حساسيية، إقليميا ومحليا.
الملف الثاني كان التعاطي مع الاحتجاجات التي اندلعت في بداية أكتوبر وتواصلت منذ نهايته لحد الآن. مرة أخرى كان سلوك الدولة وخطابها متناقضين، من جهة كانت الحكومة تؤكد حق الناس الدستوري بالاحتجاج السلمي وأهمية هذا الاحتجاج في دعم إصلاحات طال انتظارها، لكن أطرافا عسكرية وحشدية كانت تمارس قمعا غير مسبوق ضد نفس المحتجين الذين تمدحهم الحكومة!
وإذا كان المجتمع الدولي تفهم نسبيا مأزق الدولة العراقية بخصوص صعوبة تشكيلها موقفا رسميا موحدا ومتماسكا قولا وفعلا بخصوص المواجهة الأميركية الإيرانية، فإن هذا التفهم تبخر سريعا إزاء التعامل الرسمي العراقي غير الديمقرطي مع الاحتجاجات، ليصبح العراق سريعا محط إدانة وغضب دوليين بسبب الخروق المنهجية والفظيعة في حقوق الإنسان التي كشف عنها تعامل الدولة مع المحتجين.
مثلا لم يكن سهلا تفهم العجز الحكومي العراقي عن إنتاج تقرير متماسك ومقنع للمجتمع الدولي ومنظماته الحقوقية بخصوص الجهات المسلحة التي كانت وراء قنص المحتجين وقتلهم، خصوصا مع المعرفة الواسعة أن هذه الجهات هي جزء من البنية العسكرية والأمنية للدولة.
عبر هذين الملفين برزت الفصائل التابعة للحشد الشعبي المتحالفة مع إيران كعامل تقويض لسلطة الدولة ووحدة قرارها وخطابها، ليتحول هذا التقويض إلى نقطة خلاف عراقي عراقي كبرى. منذ تأسيس الحشد في عام 2014، كان ثمة خلاف سياسي وشعبي يتعلق بالممارسات الإشكالية لبعض فصائله الأقوى المرتبطة بإيران، التي بخلاف فصائل أخرى فيه كان توجهها وطنيا واضحا، رفضت التماهي في بنية الدولة العراقية والقبول بالعلاقة التراتبية التي تحكمها، وأصرت على علاقة انتقائية مع الدولة، تقوم على الاستفادة من غطائها وفوائدها المؤسساتية أحيانا، وتحديها سياسيا وأمنيا في أحيان أخرى.
لكن الالتفاف الشعبي لأغلبية الجمهور الشيعي حول الحشد، بشقيه المختلفين الإيراني والعراقي، في سنوات مقاتلته “داعش” وتقديمه تضحيات بشرية كبيرة نسبيا في هذا السياق، وفر له شرعية سياسية وشعبية واضحة.
نهاية الحرب مع “داعش” عنت تسريح الكثير من مقاتلي الحشد، وعلى الأخص ممن يطلق عليهم حشد الدولة ممن لم يتحدوا هذه الأخيرة بل اندمجوا فيها، لترجح كفة الحشد الآخر المتحالف مع إيران في إدارة وتوجيه الحشد وترسيخ هوية أيديولوجية فيه عابرة للدولة تتمحور حول ولاية الفقيه الإيرانية، تناقض الهدف الأساسي من تشكيله في 2014.
وسرعان ما بدأت الشرعية الشعبية للحشد بالتآكل التدريجي في الصيف الماضي بسبب اصطفافه مع إيران في مواجهة الأخيرة مع أميركا، بالضد من الرغبتين الشعبية والرسمية العراقية، ثم جاءت احتجاجات أكتوبر في محافظات الوسط والجنوب لتضع الحشد سياسيا وأمنيا بمواجهة مباشرة مع ذات الجمهور الذي شكل إلى تاريخ قريب قاعدة دعمه الأساسية ومصدر شرعيته الشعبية وثقله الانتخابي، وبسبب موقفه وسلوكه السلبيين من الاحتجاجات خسر الحشد معظم الجمهور الشيعي الذي كان يدعمه.
من هنا يبدو غريبا أن يمضي الحشد بعيدا في تقويض الدولة الذي شُكل لحمايتها، كما ظهر مؤخرا في الاحتجاج الحشدي أمام السفارة الأميركية في بغداد. بدا هذا الاحتجاج اصطفافا حشديا سياسيا مع إيران بمشاركة مسؤولين عراقيين عبر الشعارات المناصرة لطهران التي رددها المحتجون أكثر منه مسيرة سلمية الغرض المعلن لها هو تشييع المقاتلين الحشديين الذين لقوا حتفهم من جراء الغارة الأميركية ضد مقرات لكتائب حزب الله في القائم غرب العراق.
وإذا صحت الرواية القائلة إن رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي فتح المنطقة الخضراء أمام هذه المسيرة على أساس تفاهم له مع منظميها بألا تستمر أكثر من نصف ساعة كافية لتشييع الضحايا في الشارع المقابل للسفارة، فإن تحول هذا التشييع إلى محاولة عنيفة لاقتحام السفارة والنصف ساعة إلى اعتصام دام يوما كاملا، وضع الحكومة ورئيسها وكامل الدولة العراقية في إحراج دبلوماسي كبير أمام شركائها الدوليين، إلى حد اعتبار الولايات المتحدة لمحاولة الاقتحام اعتداء إرهابيا إيراني التدبير. لكن الأمر الأكثر مدعاة للقلق في كل هذا المشهد، هو ما يبدو إصرارا حشديا على تقديم المصالح الإيرانية على المصالح العراقية، وإظهار الدولة العراقية هشة وعاجزة عن تأدية التزاماتها الأساسية بحماية البعثة الدبلوماسية لأهم وأقوى حليف دولي لها.
إذا كان قتال “داعش” في ساعة الضيق العراقية بعد سقوط الموصل في 2014 ساهم في صناعة سمعة وطنية للحشد الشعبي على امتداد السنوات الأربع الشاقة والطويلة لتلك الحرب، وساعد الدولة على استعادة جزء مهم من هيبتها المهدورة حينها، فإن انحياز الحشد الواضح منذ 2018 إلى جانب إيران في صراعها مع أميركا، في تحد مقلق للإرادتين الرسمية والشعبية العراقية، ينزع عنه لباسه الوطني العراقي ويحوله إلى تهديد للدولة العراقية. لا يستفيد لا الحشد ولا الدولة من وضع شاذ وغريب يضع الاثنين على درب مواجهة مستقبلية بينهما لن يخرج الحشد منها منتصرا، خاصة بعد أن خسر غطاءه الشعبي
لا يبدو مقياس القلق في بعض الأوساط العراقية من احتمال تطبيق “السيناريو الأفغاني” على يد الميليشيات الموالية لإيران في طريقه إلى التضاؤل، إذ تدور نقاشات بشأن إمكانية أن يحفز أي انسحاب أميركي شامل الفصائل المسلحة في العراق للسيطرة على السلطة في البلاد.
وتتباين آراء المراقبين بين مرجح لاحتمال تكرار المشهد الأفغاني على الساحة العراقية، ومستبعد له نظراً إلى الفروقات الكبيرة من النواحي الاجتماعية والسياسية والجغرافية بين البلدين.
وكان الرئيس الأميركي جو بايدن، أعلن في 26 يوليو (تموز) الماضي، إنهاء المهمات القتالية للقوات الأميركية في العراق بحلول نهاية عام 2021، ما يمكن أن يعزز احتمال حدوث انسحاب شامل في وقت لاحق؟.
وتعطي محاولات الفصائل المسلحة الموالية لإيران اقتحام المنطقة الخضراء الحكومة، في أكثر من مناسبة، انطباعاً بأنها تمثل تمهيداً لإحكام السيطرة على البلاد.
ولعل ما يثير المخاوف من احتمال تكرار السيناريو الحاصل في أفغانستان هو حديث أوساط قريبة من الحشد الشعبي، في مايو (أيار) الماضي، عن تفعيل ما أسموه “السيناريو اليمني”، من خلال حسابات على صلة بالميليشيات المسلحة، بعد اعتقال القيادي في الحشد قاسم مصلح على إثر اتهامات بالضلوع بقتل ناشطين عراقيين قبل أن تفرج عنه السلطات.
وكانت فصائل مسلحة تابعة للحشد الشعبي في العراق، حاصرت المنطقة الخضراء حينها للضغط على حكومة مصطفى الكاظمي لإطلاق سراح مصلح، فيما تداولت أوساط قريبة من الحشد تسجيلاً صوتياً طالب فيه مقرب منه بأنه “كان على الحشد الدخول إلى المنطقة الخضراء وأخذ الدولة”، لافتاً إلى أن “المجتمع الدولي سيتعامل مع هذا الواقع المفروض”.
وعلى الرغم من تكرار مشهد محاصرة المنطقة الحكومية من قبل الفصائل الموالية لإيران، إلا أن مراقبين يستبعدون احتمال تنفيذ سيناريو أفغانستان في العراق، خصوصاً مع الاستعداد غير المتوقع للقوات الأمنية الرسمية في صد المحاولة الأخيرة للميليشيات اقتحام المنطقة الخضراء.
“السيناريو الأفغاني لطالما تكرر في العراق، عن طريق محاولات عدة للميليشيات الولائية اقتحام المنطقة الخضراء، تحديداً ما جرى في مايو الماضي الذي مثّل المحاولة الأكثر جرأة من قبل تلك الميليشيات”.
ولعل ما يعرقل إمكانية إحكام سلطة الميليشيات على الدولة في الفترة الحالية،يتمثل في “كون الجيش العراقي بات أكثر استعداداً لصدّ تلك المحاولات، وهو ما شهدناه في محاولة الحشد اقتحام المنطقة الرئاسية بعد اعتقال مصلح”.
ووجود جهات اجتماعية مؤثرة مناهضة للنفوذ الإيراني، على رأسها قوى الانتفاضة العراقية، تمثل “مصدات قوية أمام تحقيق حلم الميليشيات بالسيطرة على الدولة”.
أن القطاعات العسكرية بما فيها الطيران العسكري تلقت أوامر بالاستعداد للمواجهة، وهو ما وصل إلى قادة الحشد الشعبي وأجبرهم على اتخاذ خيار الانسحاب.
وعلى الرغم من الحديث عن إمكانية إدارة الميليشيات الموالية لإيران انقلاباً على السلطة في بغداد، إلا أن عدداً من العوامل ربما يعرقل إجراءً كهذا، وعلى رأسها الفوارق بين الجيشين العراقي والأفغاني، خصوصاً بعد محاولة الميليشيات اقتحام المنطقة الخضراء وتصدي الجيش العراقي لها وإرغامها على الانسحاب.
إضافة إلى الفوارق في القوات الأمنية بين البلدين، يبدو أن توزيع موازين القوى في المشهد السياسي العراقي يمثل أحد أبرز المعوقات أمام هذا السيناريو.
حقيقة ان هناك”ثلاثة أسباب قد تعرقل إمكانية تكرار التجربة الأفغانية في العراق، وعلى رأسها عدم تقبّل الشارع العراقي عودة سيطرة التيارات الإسلامية على السلطة، خصوصاً بعد انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 2019″،و “من المستحيل أن يشكّل المجتمع العراقي حاضنة جديدة للحركات الإسلامية”.
حالة القطيعة بين المجتمع العراقي والحركات الإسلامية، تمثل “حجر الزاوية في عدم إمكانية تطبيق النموذج الافغاني في البلاد”.
ولعل السبب الآخر الذي يعرقل إمكانية سيطرة الميليشيات الموالية لإيران على السلطة، يتمثل في “عدم إظهار المجتمع الدولي، لا سيما واشنطن أي إشارات طمأنة للمجموعات المسلحة على عكس ما جرى مع طالبان”.
أما السبب الثالث، فيرتبط بـ”استبعاد حدوث انسحاب كامل للقوات الأميركية من العراق”، إذ أن “ما يجري في العراق لا يمثل انسحاباً تاماً، بل استراتيجية جديدة للقوات الأميركية لترشيق الوجود وترشيد الإنفاق”، و”هذا الأمر جرى في العراق من خلال اختزال الوجود العسكري للقوات الأميركية في قاعدتين هما الحرير وعين الأسد”.
و ما قد يجري في العراق خلال المرحلة المقبلة هو “الاتجاه إلى الأحلاف الإقليمية، وهذا ما حصل من خلال توافق بغداد مع كل من مصر والأردن”، أن هذا التحالف الجديد سيمثل “بديلاً من الحضور الواسع للقوات الأميركية وسيحظى بدعم واشنطن”.
ووجود المرجعية الدينية الشيعية في النجف، “أحد أبرز المعرقلات أمام أي محاولة من قبل الميليشيات للسيطرة على السلطة في العراق، الأمر الذي بدا واضحاً في الفترة الماضية من خلال التصعيد بين المرجعية والمجموعات الولائية”.
و “سيناريو تغيير شكل السلطة في العراق وارد في حال فشل النظام السياسي في تنظيم الانتخابات، لكنه لن يكون على الطريقة الأفغانية، بل من خلال التوجه نحو حكومة طوارئ أو إنقاذ وطني، من المرجح أن تكون عسكرية أو شبه عسكرية”.
“كثيرين من المراقبين شككوا في إمكانية انسحاب واشنطن من أفغانستان، لكن تحليل الفائدة مقابل الثمن هو ما دفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ هذا الخيار”، مضيفاً أن هذا السيناريو “يمكن أن يتحقق في العراق أيضاً مع رغبة الرأي العام الأميركي بالانسحاب”.
ولعل ما يحفز إمكانية أن تدير الأجنحة المسلحة الموالية لإيران انقلاباً للسيطرة على السلطة، و”امتلاك تلك الجماعات القوة الأكبر في البلاد”، مشيراً إلى أنها “ربما تستغل فرصة انتشارها الواسع في محافظات شيعية وسنية، والنفوذ الأمني الكبير الذي تحظى به لتفعيل سيناريو مشابه لما فعلته طالبان”.
و”على الرغم من احتمال تحقق هذا السيناريو في العراق إلا أنه لن يكون بسهولة ما جرى في أفغانستان”، مؤكداً أن أي توجه من الميليشيات الموالية لإيران للسيطرة على السلطة “ستقابله ممانعة داخلية كبيرة من القوى غير الخاضعة لإيران، فضلاً عن الحراك الشعبي المناهض للنفوذ الإيراني والمتمثل في قوى انتفاضة أكتوبر التي باتت تحظى بتأييد شعبي واسع”.
الانسحاب الأميركي من العراق “ربما تعتبره الجبهات الولائية ضوءاً أخضر لتفعيل سيناريو إحكام السيطرة على السلطة في البلاد”.
وان “ملف انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان لا يمكن إسقاطه على الوضع العراقي، خصوصاً مع قرب الجغرافيا العراقية من المصالح الأميركية الحيوية في المنطقة”، مضيفاً أن “واشنطن ترى في منطقة غرب العراق جزءًا من أمنها القومي، وتعمل على إعادة تموضع قواتها في المنطقة بما يحافظ على الأمن المحلي لحلفائها”.
ويضيف أن “الميليشيات تعقد الأمل على استنساخ التجربة الأفغانية في السيطرة على البلاد، إلا أن ذلك لن يتحقق من دون صدام كبير، وربما سيضعف دور تلك المجموعات”، مردفاً أن “رغبة بعض القوى السياسية المؤثرة ببقاء القوات الأميركية والتزام واشنطن التعاون مع قوات الأمن العراقية في مواجهة الإرهاب يعرقلان تفعيل السيناريو الأفغاني”.
ولا تسمح واشنطن بتكرار السيناريو الأفغاني في العراق إلا في حالة واحدة تتمثل في أن “يحقق انسحابها تصادماً وحرباً داخلية تضعف دور الميليشيات وتنقل البلاد إلى مرحلة فوضى تقضي بالنهاية على قوى اللادولة أو تضعفها”.
ولعل ما يدفع إلى الاعتقاد بأن الميليشيات ربما تفكر في حراك مشابه لما جرى في أفغانستان، هو أن عدداً من المنصات المقربة منها أبدت ارتياحاً غير مسبوق للأحداث في كابول، فضلاً عن ترحيبها الواضح بما جرى، بحسب مراقبين.
و ما جرى من “تسويق لطالبان من خلال مؤسسات إعلامية تابعة لإيران، والترحيب الذي أبداه حلفاؤها في العراق ينذر باحتمال حصول سيناريو مشابه”، و”الفصائل المسلحة ما زالت قلقة من الوجود الأميركي في البلاد”.
أن الإقدام على خطوة كهذه سيكون بمثابة “نهاية للنظام السياسي في العراق وإدخاله في عزلة دولية، فضلاً عن كونه شهادة وفاة مبكرة للميليشيات، خصوصاً مع عدم تقبّل الداخل العراقي والمحيط الإقليمي لهذا السيناريو”.
ولعل ما يقوّض فكرة انسحاب شامل للقوات الأميركية من العراق ، يرتبط بـ”عدم رغبة واشنطن بتكرار مشهد انهيار مشروعها في أفغانستان”.
ولا يتوقف القلق عراقياً من احتمال تكرار المشهد الأفغاني على يد الميليشيات الموالية لإيران، إذ يعتقد مراقبون أن هذا الأمر ربما يسهم أيضاً في عودة نشاط تنظيم “داعش”. وما زالت تجربة عام 2014 وانهيار القوات العراقية أمام التنظيم على بعد ثلاثة أعوام من الانسحاب الأميركي من البلاد حاضرة في أذهان العراقيين.