23 ديسمبر، 2024 8:15 ص

الحشد الشعبي .. وماذا بعد

الحشد الشعبي .. وماذا بعد

هؤلاء السومريون الذين أضاءوا دروب النصر بدماء الشهادة – لاشكّ – أني اقدّس دمائهم ، ولستُ ارى الحمى مصاناً إِلَّا بسواعدهم السمراء . هم الآلاف من المتطوعين استجابة لنداء الدين او الوطن . ولستُ اشكّ انّ تلك القرى التي يحررون ترابها من دنس الصلف الوثني المعجون بالبداوة تحت مسمّى ( داعش ) قد وفَّرت ملاذاتٍ وحواضن للارهاب ، وستعيد الكرَّة ، حتى بعد ان ذاقت ما صنع بغي ساستها .

لكنّي اشكّ كثيراً في نوايا قادة فصائل الحشد الشعبي هذه ، ولستُ اشكّ في أفرادها ، اظنّ السوء في ساسة الأمور ومدبّريها ، لا في الأبطال الذين يظنون بأنفسهم الخير ، حين افتدوا قيمهم بالنفوس . رغم انّ ذلك لا يمنعني من رؤية مجاميع من الانتهازيين على حدود المعركة ، ينتظرون كل فرصة لجني ثمار سعي غيرهم ، كما في ( سرايا عاشوراء ) ، التي تقبع حول بيوت قادتها من متنفذي ( المجلس الأعلى ) ، بلا تحرّك او اثر عملي في ساحات الوغى المقدّسة .

نحو ستين الفاً من ( العصائب ) ، وأكثر منهم عدداً من ( بدر ) ، والآلاف المؤلّفة من فصائل اخرى . في حين يتحدّث مكتب رئيس الوزراء عن مجموع للحشد لا يتجاوز الستين او السبعين الفاً ، تسعون بالمئة منهم فقط من يستلم أجراً مادياً حكوميا ، فيما الكثير الكثير من هؤلاء المستلمين هم ( فضائيون ) .

لما هذه الاعداد كلها ؟ ، ولمّا هذا التعتيم الحكومي على الأرقام الواقعية لهم ؟ وماذا بعد ذلك ؟ في ظلّ اخبار مؤكّدة عن نيّة قادتها ابقاء المعركة حتى قدوم موعد الانتخابات ، دون حسم ، رغم الخسائر البشرية التي يتمّ ترك أكثرها في ساحة الحرب ، دون اخلاء ، فضلاً عن الخسائر المادية ، التي استنزفت وتستنزف الخزينة العراقية ، وتمتص كل ثروة الجنوب ، الجائع للبنى التحتية أصلا .

هناك من يسعى جادّاً لاستخدام الدم الجنوبي كقربان دنيا ، في ارادته لاطالة امد الحرب ، عبر معطيات كاذبة ، يتم تسويقها الى الجمهور ، عن حجم العدو وعن قدراته ، وهناك من يسمح للعدو بالعبور لاغتنام أراضٍ جديدة ، لتكون طريقاً نحو معركة اخرى ، في زمن أطول وأطول . نعم ، انّ غباء الطرف الاخر الذي يحتضن داعش سمح لكلّ الأطراف بابتلاع هذه الحضارة وإغراق اَهلها بالدم .

كيف تسمح مرجعية السيد السيستاني بهذا التضخّم لفصائل خارج الدولة ، دون ان تعمل على الإسراع في ضبط إيقاع اعادة التوازن للقوى الأمنية ، التي انهارت على يد كثيرين ممن هم اليوم قادة ، خصوصاً انّ هناك مرجعيات دينية اخرى ترفض بشدّة أيّ مظهر من مظاهر العسكرة خارج نطاق الدولة في المدن الامنة ، سوى السيد السيستاني ، الذي نراه صامتاً ها هنا حتى الساعة . لقد تفشّت ظاهرة الاستعراض وسلب وظائف القوى الأمنية في المحافظات الامنة من قبل جماعات وفصائل متعددة .

قد تجلب الحساسية الوطنية وعقلية الاجتماع الانية بعض النقد لما اكتبه هنا ، وتعتبره هجوماً وإساءة للصورة الجميلة التي عليها وحدتنا ، لكن أليس قادة هذه الفصائل هم أنفسهم من كانوا جزءاً من هذا الذي يحدث ؟ ، أليس أمين بدر كان شريكاً للمالكي ، وكان سبباً في وصوله للسلطة ، التي أوصلتنا لهذا المأزق ؟ .

أليس قادة العصائب كانوا شركاء مؤسسين في مشروع صناعة السيد ( مقتدى الصدر ) ، الذي ينازعونه اليوم النفوذ المناطقي والديني ؟ ، وهم كذلك من صاروا لبرهة من الزمن حلفاء للمالكي ، ومن خلاله انطلقوا ؟ .

أليس قادة المجلس الأعلى هم من ساعدوا خصوم المالكي – الذين صادف انّ بعضهم كان خصماً للوطن ولنا – نكاية به ؟ ، أليس هم من أبرموا تحالفاً استراتيجياً مع الانتهازيين الأكراد ، لم يكن لمصالح الجنوب فيه من نصيب ؟ .

أليست قيادة سرايا السلام هي من كانت شريكة لقادة العصائب في المسيرة ؟ ، وأليست هي من جائت بالمالكي وحزبه لثلاث مرّات ؟ ، وهي ذاتها أيضاً التي انفردت باستخدام السلاح ضدّه ؟ ، وأليست هي من تحالفت – ولا زالت – مع كوادر الاٍرهاب في بغداد وديالى ؟ .

ماذا بعد ان تنتهي هذه المعارك ، كيف سيلتقي هؤلاء وغيرهم في مشروع موّحد ، ومن الضامن ؟ ، هل هو السيد السيستاني ؟ ، كيف ذلك وقد عوّدنا أنْ يكون خارج العراق في كلّ أزمة ( شيعية – شيعية ) ، بل انّ ممثله – الداعي الى الجهاد – ( عبد المهدي الكربلائي ) ذاته قد دخل سابقاً في معركة دموية مع اتباع السيد مقتدى الصدر ! .

انني ارى انّ هذه الفوضى العارمة – إدارياً وأمنياً وخدمياً – في مدن وسط وجنوب العراق – ومنها بغداد – ليست سوى حالة متعمّدة ، كمقدّمة لبسط نفوذ هذه الفصائل وتصارعها ، تحت دعاوى عديدة ، ستنطلي جميعها على المواطن البسيط والمسكين ، الذي تقلّبه أيدي اللاعبين الاعلاميين ، في ظلّ ظلموت الصمت الذي تفيضه مرجعيته العليا المتمثّلة بالسيد علي السيستاني .

ولستُ اعلم الغاية من الدعوة الاخيرة من ممثل المرجعية ( العليا ) لعسْكرة المجتمع الآمن ، التي اعقبت دعوته السابقة للجهاد ، تحت شعار ( ارهاصات الظهور المقدس ) ! ، وكأنما الامام سيكون ( جنرالاً ) كربلائياً يقود الجموع نحو مواقع داعش ، في خدعة لا تُغتفر لهذا الرجل . وقد اعادت هذه الدعوة صورة تلك الدعوة المماثلة لعسْكرة المجتمع العراقي ، التي أطلقها المقبور ( صدام ) ، تحت شعار ( تحرير القدس ) . وكأنما هناك من يريد خلع قلب هذا الشعب باستمرار ، وجعله في دوَّامة من العنف لن تهدأ .

ولست ادري أين كانت هذه الحماسة التحشيدية امام فساد الحكومات المتعاقبة ، فَلَو انهم دربوا الناس وقادوهم للخروج للمطالبة بالحقوق المسلوبة من قبل الظلمة والفاسدين لما كنّا وصلنا الى هذا المآل ، الذي نُخرج فيه زهرة شبابنا في قوافل الموت ، في حين يحترق البلد ، وتفتقر كلّ يوم عوائل هؤلاء الشهداء .

باعتقادي انّ هذه الدعوة العسكرية – لتجنيد الطلبة والموظفين والكسبة في معسكرات وهمية – مقدمة اخرى لصراع ( شيعي – شيعي ) قادم ، يتم التخطيط له بعناية ، بالاستفادة من المقدمات أعلاه أيضاً ، من حيث تضخّم القوى الفصائلية خارج الدولة ، واضعاف الدولة ذاتها ، وخلق الفوضى وتنمية وجودها ، ورفع مستوى العنف داخل العقل الشيعي .

ولعلّ اخطر الفصائل التي ستكون جزءاً من مشروع المواجهة الذاتية هذا هي ( سرايا السلام ) ، التي تتميز بظواهر ملفتة ، من حيث سهولة استفزازها ، وعدم انضباط أفرادها ، وتقلّب مواقف قيادتها ، ووجود سارقين كبار ضمن كوادرها السياسية والتنفيذية مثل ( بهاء الأعرجي ) ، الذي جعل من وزارة الصناعة منفذاً لتسويق بضاعته المستوردة ، مما ساهم في سرعة انهيارها ، فكيف لمثله ان يؤتمن على وطن ! . كما انّ هذه الفصائل تعتمد اليات إعلامية تثير الانتباه ، اقرب ما تكون الى الانتاج السينمائي ، ولها منشورات – احتفظ بصورة عن بعضها – ملفَّقة لدواعي التسويق والاستعراض ، فيما ليس لها من أصل في الواقع ، كدعوى مشاركتها في عمليات الحشد الشعبي الاخيرة مثلا . لكنّ الحقيقة انّ هذه ( السرايا ) يقوم تاريخها عموماً او غالباً على مجموعة من المواجهات مع الشرطة الحكومية ، والجيش العراقي ، وفصائل شيعية اخرى ، مما يدفعنا للتساؤل عن حقيقة الدور الذي سيناط بها في مشروع المواجهة الداخلية القادم ، الناشئ عن حقيقة استعراضاتها وتدريباتها المتواصلة في المدن الجنوبية الامنة ، رغم عدم مشاركتها الفعلية في عمليات الحشد الشعبي القتالية ؟! . فيما تتواصل الانشقاقات في صفوف هذه الجماعة ، حتى وصل الامر الى كبير مقاتليها ( سعد سوار ) ، لينشقّ ، ويؤسس ( قوّات المؤمل ) ، التي ليس لها من مرجعية دينية ، بعد ان عمل السيد مقتدى الصدر على تهوينها في عين اتباعه لسنين ، وبالتالي أعلنت انها ستقاتل في كل البلاد التي تطولها أيديها خارج العراق ، في غباء معتاد من هؤلاء ، يطرب له منظرو المشروع الامريكي . وهذا الانشقاق منح اتباع السيد مقتدى الصدر الفرصة لممارسة اخطر سلوكياتهم بتفسيق وادانة هذا الشخص وكلّ كوادره ، كمقدّمة للمواجهة العنفية معهم .

وقد يطيب للبعض ان يجعل من وجود الجمهورية الاسلامية الإيرانية – كأخ شيعي قريب – ضامناً ممكناً للقادم ، لا سيما مع علاقاتها الجيدة والداعمة للكثير من الفصائل . لكنّ هذه الضمانة ليست واقعية ، او جالبة للاطمئنان ، لأنّ الجمهورية الاسلامية كانت تملك علاقات استراتيجية مع فصيلين كانا يتنازعان ويتصارعان بالسلاح في ذات الوقت ، هما ( أنصار مقتدى الصدر ) و ( أنصار عائلة الحكيم ) .

ليست المرحلة الداعشية – بظنّي – هي الاخطر ، بل المرحلة الشيعية الخالصة هي ما يتمّ الإعداد لحقنه بالسمّ الامريكي ، بعد تذويب مفهوم القيادة ، وانهيار القيم والمعاني الرسالية ، وستكون الفتوى والفتوى المقابلة سلاحاً فتّاكاً في الصراع . انّ ارتهان الشعب العراقي لمرجعية دينية لا تجيد قراءة الأوراق – عند حسن الظن – ، ولا تملك القدرة والخبرة الكافية لإدارة دفّة المرحلة ، وتحتكر مفاتيح الحلّ الذي لا تمنحه ، وترتكز الى مجموعة اقطاب عنصرية وغامضة الرؤى ، سوف يقودنا – بسهولة ويسر – الى جرفٍ هار . ويبدو انّ قادة مشروع المواجهة ( الشيعية – الشيعية ) يعملون جاهدين على ابقاء مرجعية السيد السيستاني تقاوم النقد ( الواقعي ) ، من خلال حملة كبيرة جداً لإعطائه بريقاً صورياً ، بدعاوى واهمة وغير صادقة ، مثل لقاء ابيه بإمام الزمان ، او تعديله لمسار قمر صناعي كوري ، عجز علماء الفلك عن معالجته ، او في رسائل مزعومة منه للمقاتلين في الحشد الشعبي المسكين ، وهي لم ولن تصدر ، او إشاعة انه – في معجزة كبرى – سيلبي حاجة المجتمع لوجوده ، فيصلي بالناس صلاة العيد بخطبتيها ، للوعظ والإرشاد ، والكثير مما يتمّ زقّه في مواقع التواصل الاجتماعي التي تجذب الملايين .

انّ مقالي هذا لمن ألقى السمع وهو شهيد ، ولن ينتفع به الغائبون في ظلموت النفس الانانية ، او غياهب الصمت المطبق .

[email protected]