ثمة ارتباط وثيق بين الإمام الحسين عليه السلام، وبين العراق. وهذا الارتباط القوي الذي يصل أحياناً حد التشابك بين أغصان وجذور وأفياء وأثمار هاتين الشجرتين العظيمتين، وأقصد بهما شجرة الإمام الحسين العالية، وشجرة العراق الوارفة، هو ارتباط سريالي، يحتاج فيه المرء الى ثقافة خاصة، ودراية متقدمة، ومشاعر صافية، وإيمان وطني وعقائدي كبير، كي يعرف سر الوصول لمفتاح هذه العلاقة الحميمية، بين سيدنا العظيم الحسين، وسيدنا العظيم العراق..!!
ولكي أكون دقيقاً فإني أحتاج الى أكثر من رأي، وأكثر من جواب على سؤال يراودني كثيراً، وهو كيف نسجت هذه العلاقة بين هذين الحبيبين في دمي، وهل أن غيري من الناس قد تنبه لهذه العلاقة المتينة مثلي، ولهذا الحب الفريد أيضاً؟
لماذا العراق والحسين دون غيرهما يمشيان معاً في دمنا، ويسريان سوية في عروق حياتنا دون أن يفارق أحدهما الآخر كل هذه السنين التي لاتعد ولا تحصى. فأية صحبة، ورفقة مباركة جمعت بين هذين المقدسين، وهما يقيمان الى الأبد في أرواحنا الطاهرة؟
صحيح أن هناك كثيرا من المعشوقين، والعظماء في حياتي، فأمي مثلاً التي هي عندي أغلى من روحي، وأبي الذي يحبه الناس أكثر منا، والحزب الشيوعي الذي أعطيته زهرة شبابي، وعلي بن أبي طالب، الذي لا يقاس حبه عندي، وعند أفراد عائلتي بمقياس قط.. حتى أن ابنتي (زهراء) التي تسكن مع أخوتها في الولايات المتحدة، قد تعرضت قبل فترة لسؤال مفاجئ من أحدى زميلاتها الأمريكيات، التي زارتنا في البيت، عن صاحب الصورة الكبيرة جداً، المعلقة في الصالة – والصورة للإمام علي عليه السلام – فأجابتها ابنتي زهراء (بالإنجليزية طبعاً) دون تأخير أوتفكير: (هذه صورة ربنا الثاني)!
فقلت لها بغضب: كيف تقولين هذا يا بنتي.. إنه حرام؟
فضحكت، وقالت رغم صغر سنها: أي حرام هذا يا بابا؟!
ثم أكملت: صحيح أنا أعرف أن ربنا هو الله وحده لا شريك له، لكني لم أجد في الإنجليزية كلمة مناسبة ومقاربة لعظمة علي بن أبي طالب غير هذه الكلمة.. وأعتقد يا أبتي أن كل كلام فخم عن علي بن أبي طالب، حتى وإن كان مبالغاً فيه، فهو لن يغضب الله أبداً، لأن الله سبحانه وتعالى يعرف قيمة وعظمة، ومكانة علي!.
فصمتُ، ولم أجبها بكلمة واحدة، فقد كان كلامها صحيحاً..
أذن..! فمكانة علي العظيمة عندي، ومحبة أمي التي لا تضاهيها محبة وحجم والدي في نظري، ونظر الناس، (وغلاوة) الحزب الشيوعي عندي، فضلاً عن مساحة الحب الواسعة في قلبي لزوجتي وأولادي، وأصدقائي فهي كلها كبيرة ومهمة، لكني صدقاً لا أعرف لماذا يرتبط عندي الحسين بالعراق؟
ولماذا يحضر الحسين في وجداني حين أبكي على العراق.. ويحضر العراق في عيني عندما أبكي على الحسين.. ولماذا أشتاق لرؤية قبة الحسين، ومرقد الحسين، وشباك ضريح الحسين بمجرد أن يهزني الشوق الى العراق لما أكون بعيداً عنه..؟ ولماذا أيضاً أشتاق لرؤية العراق عندما أشتاق الى كربلاء.. ما سرِّ هذا التداخل العجيب بين هذين الرمزين الحبيبين. وما سرِّ هذا التلاقي بين حب هذين الشيئين؟ فاليوم مثلاً، وأنا خارج العراق في زيارة للأولاد بأمريكا، تذكرت أربعينية الحسين، فتمنيت أن أكون هناك في هذه الأيام الحزينة، وأمشي مع الماشين على الأقدام الى كربلاء مثلما مشيت معهم في العام الماضي، ولكن سرعان ما حضر العراق في هذا التذكر، وأشتبك الأسى في عيني، فبكيت دمعتين، واحدة على العراق وواحدة على الحسين!!
أيها العراق المقدس، سيُلعَن قتلتك الى يوم القيامة، كما يلعن اليوم وغداً قتلة الحسين، ولا فرق في أن يكون قتلة العراق من أهل الشام، أو من أهل الكوفة، فالناس تلعن يزيد كل ساعة، وتلعن معه الشمر دون تمييز بينهما. فشكرا لمصيبة العراق التي تذكرني بالحسين كل حين، وشكراً لفاجعة الحسين التي تذكرني بفاجعة العراق كل يوم.