18 ديسمبر، 2024 6:05 م

الحرية والإنسان بين دستوفسكي وايريك فروم

الحرية والإنسان بين دستوفسكي وايريك فروم

قيل أن روايات دستوفسكي هي حشدٌ من الأفكار على هيئة شخصيات، فهو يحمل كل شخصية رؤيتها الفكرية وفلسفتها الخاصة بالحياة ، ويتركها تتناظر وتتصارع على مستوى الحوار والحدث، بينما يقف هو على مسافة واحدة من كل منها ، وكأنه ينضم إلى قرائه منتظراً نتائج تلك الصراعات. حياديته تجاه شخصياته تجعل الصراع الفكري داخل الرواية أكثر ثراءً وعمقاً، وربما هذا ما رمى إليه تولستوي بقوله أن دستوفسكي يخلق شخصياته دون أن يعيش معها .

المفتش الكبير -ألفصل الخامس من روايه الأخوة كرامازوف – يتضمن أفكاراً ترتقي إلى مستوى النظرية في سايكولوجية الفرد و نزوعه إلى الخضوع والتضحية بحريته مقابل إلقاء أوزار المسؤولية عن كاهله والشعور بالأمان تحت ظل قوةٍ تحميه وترعاه ( الرؤية التي سيطورها اريك فروم في كتابه الرائع “الهروب من الحرية ” بعد أكثر من نصف قرن ). يرى فرويد أن روايه الأخوة كرامازوف قد بلغت ذروتها الإبداعية في هذا ألفصل، وقد صنف الرواية مع أوديب سفوكليس وهاملت شكسبير على أنها أرقى ماكتب في تأريخ الأدب العالمي.

يبدأ ألفصل بقصيدة ايفان الملحد وهو يتلوها على اسماع أخيه اليوشا المؤمن ، والقصيدة مستوحاة من قصة غوايات المسيح الواردة في إنجيل يوحنا ، وتبدأ بعودة المسيح إلى اشبيلية أثناء محاكم التفتيش ، فيلتف حوله الناس تغمرهم البهجة والسرور، حتى يظهر الكاردينال كبير محاكم التفتيش، وكان قد فرغ لتوه من حرق مئة من الزنادقة ، فينفض الجمهور عن المسيح وفي حركة واحدة يسجدون للكاردينال الذي يشير بدوره على حراسه فيعتقلونه في سجن إنفرادي . ويبدأ المفتش الكبير بتأنيب المسيح على أن أفكاره المثالية عن الحرية قد سببت ضياع الإنسان وتعاسته، لأن الحرية لا تتسق مع طبيعة الإنسان بل ستكون عبئاً عليه لايطيق إحتماله :
(من الذي خرب القطيع في طرقٍ مجهولة؟)….(ألم تكن تردد على مسامعهم بغير كلال ولا ملال “لقد جئتكم بالحرية “).. (تريد أن تمضي إلى الناس خالي اليدين ألا من وعدٍ بالحرية….لايفهمونها عدا أنهم يخشونها ويخافون منها )..( سوف يعجبون بنا ويعدوننا الهة، لأننا رضينا أن نكون قادتهم ، أن نحمل عنهم عبء حريتهم وان نسيطر عليهم …فلا رغبةً أقوى ولا هم أبقى لدى الإنسان الذي أصبح حراً من هم العثور على سيد يحكمه).

الأسئلة الثلاثة وطبيعة السلطة :
بعد ذلك يلوم المسيح على رفضه العروض الثلاثة التي عرضها عليه الشيطان، زاعماً أن كل المفكرين والفلاسفة مجتمعين لايمكن أن يدركوا الحكمة الكامنة في اسئلة الروح الجبار (الشيطان )، تلك الأسئلة التي أدركت طبيعة الإنسان وعجزه، وقدمت علاجاً لتعاسته وآلامه، بينما رفضها المسيح على أنها غوايات: (فهل تظن أن كل حكمة الأرض مجتمعةً في هؤلاء الرجال يمكن أن تتصور شيئاً يشبه بقوته وعمقه تلك الأسئلة الثلاثة التي القاها عليك في الصحراء ذلك الروح القوي العميق )…(فالأسئلة الثلاثة تشتمل في ذاتها كل التأريخ المقبل للإنسانية ، وتقدم رموزاً ثلاثة تنحل فيها جميع تناقضات الطبيعة الإنسانية، التي لاسبيل إلى حلها )..فما هي تلك الأسئلة وماهي دلالاتها الرمزية .

السؤال الأول: سأل الشيطان المسيح أن كان قادراً على تحويل الحجارة إلى خبز حتى يؤمن به الناس ، فكان الجواب “ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان “. الخبز هنا كناية عن إنتاج وتوزيع الثروة والهيمنة على الإقتصاد وهو المرتكز الأول للسلطة ..(هذه الحجارة في الصحراء الوعرة حولها إلى خبز تهرع إليك ألانسانية كقطيع جائع )….(حين سيلقون الخبز من أيدينا ، سيرون حق الرؤية أنهم هم الذين انتجوه بعملهم ، وإننا أخذناه منهم لنوزعه بدون أي معجزة فلم نقلب الحجارة الى خبز ، ولكنهم سيغتبطون لأنهم أطعموا على أيدينا ).

السؤال الثاني :وضع الشيطان المسيح على سقف المعبد، وسأله أن كان قادراً أن يرمي بنفسه، فتتلقفه الملائكة وترفعه الى السماء وهكذا سيصدقه الناس ، فما كان من المسيح إلا أن رفض ذلك أيضاً، فالإيمان يجب أن يكون خالصاً وليس مشروطاً بالمعجزات. المعجزة تخطف لب الإنسان وتفتن عقله،ولذا فهي المرتكز الثاني للسلطة في تعاملها مع العالم الغرائزي للإنسان ، ولا حاجة بنا للقول أن الغيبيات والإعجاز وأسطرة الفكر ليس حكراً على السلطة الدينية فقط ، بل هي من أهم أدوات أي سلطة لتعبئة الحشود … ..(سوف تتخدر عقولهم وتدمع أعينهم كالنساء.)…..(لن ينسوا قط أن الخبز الذي صنعوه هم أنفسهم ،كان بدوننا سيتحول إلى حجارة ) .

السؤال الثالث: من على قمة جبلٍ شاهق أشار الشيطان إلى ممالك وإمبراطوريات العالم، وسأل المسيح لم لا يوحدها في مملكة واحدة ويكون حاكمها، وعندها تتبعه البشرية جمعاء، فرفض المسيح على أنه لم يأت ليكون حاكماً بل مبشراً بالحرية. من الواضح أن عرض الشيطان الأخير يشير إلى المرتكز الثالث للسلطة، ألا وهو جبروت السلطان والقوه والأجهزة اللازمة لإخضاع الجماهير وتأمين هيمنة الطبقة الحاكمة .
يقول المفتش الكبير أن كنيسته بحكمتها أخذت بعرض الشيطان لأنه الأكثر واقعية من يوتوبيا المسيح المثالية، مع أنها حكمت بإسم المسيح ( لقد قبلنا أن نأخذ من يديه روما وأن نأخذ السيف من قيصر ).

ربما يعترض البعض على أني قد شطحت بعيداً بتأويل النص، إلا أن المفتش كان واضحاً في قوله ( ليس على الأرض إلا قوى ثلاث تستطيع وحدها أن تتغلب على ضمير هؤلاء المتمردين الضعاف قروناً، وأن تخضعهم في سبيل سعادتهم نفسها، ألا وهي :المعجزة والسر والسلطة ).

اريك فروم والحرية:
لقد وضع دستوفسكي يده على ظاهرة سيكولوجية هامة، ستكون موضوع بحث لعلماء النفس والسوسيولوجيين من بعده ، وخاصةً بعد إنتشار الأنظمة الفاشية والشمولية في القرن العشرين، فقد أصبح تخلي الجماهير عن حرياتها والإلتفاف حول أنظمة تعدها بالأمان والإزدهار لغزاً سبب صداعاً للمفكرين، وكان اريك فروم من أهم من بحث في هذا الموضوع في محاولته دراسة دور الجماهير في النظام النازي في كتابه الشهير ” الخوف من الحرية fear of freedom “. يبدأ فروم بوضع الأساس البايو- سيكولوجي للظاهرة، والمتمثل بإنفصال الطفل عن أمه، ثم فطامه، وأخيراً شعوره بالإستقلال عند البلوغ وفقده لرعاية الكبار ، عندها يشعر بالوحدة والقلق والتوتر. قصة آدم تحمل دلالةً رمزية لهذه الظاهرة ، فعندما طرد الإنسان من الجنة، إمتلك لأول مرة حرية ألإختيار بعيداً عن رعاية الرب، و صار عليه أن يتخذقراراته لوحده ولأول مرة في جميع شؤون حياته. وتخبرنا القصة أنه صار يشعر بالوحدة والتوتر والإرتباك،وكان أيضاً خائفاً من الحيوانات -التي كان يعيش معها من قبل- ومن صوت الريح، وكان خجلاً يحاول تغطية عريه في الغابة، ثم ينقلنا فروم إلى عمق التأريخ ليضع الظاهرة في اطارها التأريخي، فيدرس نموها ضمن مناخاتها الإقتصادية والإجتماعية، على إعتبار أن التأريخ يصنع الإنسان بالقدر الذي يصنع فيه الإنسان التأريخ. ظاهرة خوف الإنسان من حريته وميله للتخلي عنها للأقوى مقابل حمايته،نشأت -حسب اريك فروم – مع نشوء ونمو ألفردانية individuation أو نمو شعور الإنسان بذاته والإحساس باستقلاله عن الجماعة.

في العصر الوسيط كان مصير الإنسان يتحدد بالمولد، ولم يعرف ألشعور بالفردانية بالمعنى المعاصر، لأن المواطن يتحدد دوره ضمن الجماعة ووفق علاقات النظام الإقطاعي. فالفلاح يولد على أرض عمل فيها أبوه وأجداده وعليه إلتزامات مالية وأجتماعية محددة للملك والمالك والكنيسة ولا قبل له أن يغير شيئاً من نمط حياته، أما المهني فهو مرتبط بنقابة لديها قوانين صارمة لحفظ أسرار المهنة وتحديد كمية ونوعية الإنتاج لحماية أصحاب المهن ، لامعنى للحديث إذاً عن ذات الفرد وهي منصهرة في ذات المجموع ومحكومة بقوانين صارمة وثابتة . خلاصة القول أن شعور الفرد بالعصور الوسطى لم يرق إلى ألشعور بذاته ككيان مستقل عن الجماعة. بدأ ألشعور بالأنا لدى الاوروبي في عصر النهضة، ولم يكن ذلك بسبب النهوض الثقافي فقط ، بل لإنتعاش التجارة التي فتحت آفاقاً واسعةً للتنافس على إستثمار الفرص وكسب الأرباح،وتنامى ألشعور بالفردانية أكثر مع نمو وإزدهار النظام الرأسمالي القائم على مسؤولية الفرد لا الجماعة، والذي إفتتح عالماً جديداً يحكمه التنافس المحموم والتسابق لتحقيق المنافع الفردية ،وبدأ العالم القديم يتزعزع والعلاقات الإقطاعية تنهار أمام الإنجازات الحضارية للرأسمالية الصاعدة. الفلاحون وجدوا أنفسهم خارج الأرض التي عملوا فيها أجيالاً ،وصار عليهم أن يبحثوا عن أي عمل في أي مكان، وأن يديروا شؤون حياتهم بأنفسهم ويالخيارات والفرص الجديدة المتاحة لهم ، أما أصحاب المهن فإن نقاباتهم قد إنهارت لعدم قدرتها على إحتكار السلع اليدوية والتحكم بالإنتاج لحماية أعضائها، لأنها لاتستطيع التنافس باي شكل من الأشكال مع المصانع الحديثة آنذاك، لذا فعلى أصحاب المهن أيضاً أن يبحثوا عن عمل في المصانع وأن يتخذوا قراراتهم بأنفسهم . إذن فقدإكتسب الفرد شيئاً من حرية ألإختيار ونمت تطلعاته لمستقبله الشخصي من جانب، إلا أنه أصبح مسؤولاً عن أي قرار يتخذه يرافقه القلق، خشية الفشل والخسارة في عالم يسوده التنافس المحموم، وكأن الجميع في حرب مع الجميع بتعبير هوبز . أما من الناحية الدينية فإن الإصلاح الديني قد ألغى الكنيسة كوسيط بين الإنسان والرب، وأعطى الحرية للإنسان ليتوجه مباشرةً بالدعاء والإستغفار له ، بعبارة أخرى بمنح الإنسان حرية الإتصال بالرب وضعت البروتستانتية المؤمن وجهاً لوجه مع السماء، ليتحمل هو وحده مسؤولية هذا التواصل، بينما كانت الكنيسة تطمئنه وتهدئ من روعه على الدوام، تؤكد مثلاً أن الجميع أطفال الرب وأحبته ، وأن الإعتراف يمحو الذنوب بعد دفع حصتها من المدخول طبعاً . خلاصة القول أن الحرية بالعالم الجديد يرافقها وزر المسؤولية الفردية، بما تسببه من خوف وتوتر في عالم لايرحم من يخطئ أو يسهو أو يتقاعس . الخوف من الحرية هذا هو مصدر نزوع الإنسان للتخلي عن حريته للأقوى مقابل أن يعيش تحت ظلال رعايته وحمايته. لتعميم المفهوم فأن إنعدام التوازن بين تضخم الإحساس بالفردانية وأرتفاع سقف الطموح الفردي من جهة، وعجز النظام الإقتصادي والإجتماعي من توفير فرص حقيقية لإشباع تلك الطموحات من جهة أخرى، يعمل على شيوع هذه الظاهرة الخطيرة التي استغلتها الأنظمة الفاشية والشمولية في حشد الحشود الخائفة من حريتها تحت جناحها لتنفيذ برامجها التدميرية. لقد لخص المفتش الكبير في روايه دستوفسكي هذه الظاهرة بقوله ( ..سينتهون إلى أن يرموا حريتهم على أقدامنا قائلين ” إستعبدونا ولكن أطعمونا “………سوف يتراصون حولنا خائفين كما تتراص أفراخ الدجاجة حول أمها ).