(في ذكري اعدام المفكر محمود محمد طه)
مقـدمــــــــــــــة: يعد البحث ومناقشة مسألة الحريات الدينية في السودان إحدى أعقد المهام لكونها تحيل الباحث مباشرة إلى مناقشة أمور أخرى غاية في التعقيد كعلاقة الدين بالدولة في السودان وعلاقة القانون بالدين فيه. لأن أي محاولة للتقصي والتحقق من الوضع النظري (القانوني) أو العملي التطبيقي (القضائي أو الإداري) تصدم بتتبع التداخل الذي يحدث أو حدث في مراحل تاريخية سابقة بين الدين والدولة والدين والقانون.
لذا سعينا في هذا البحث إلى الحرص على عدم الانجراف وراء إغراء الدخول في هكذا جدل فلسفي أو سياسي أو ديني، والتشبث بأمانة البحث، والتقيد بأغراضه وهي تبيان المدى الذي نجحت فيه دولة السودان في تبني والالتزام بمعايير احترام الحريات الدينية نظرياً عبر النصوص الدستورية والقانونية والفقه المعتمد في شرح وتفسير تلك الحقوق، وتطبيقياً عبر تتبع الإجراءات والأحكام التي اتخذت أو صدرت بذلك الخصوص، والبعد الذي أخفقت فيه في هذا المضمار. مفهـــــوم الحريات الدينية الحرية في اللغة والاصطلاح: أورد معجم المعاني مفردة حرّ بمعنى غير مقيد، وحر (أسم) الخالص من الشوائب، وجواد حرّ أي أصيل، والحرّ الخالص من قيد الرق، والكريم، والحسن، وإرادة حرة أي مطلقة، وحري أي جدير وخليق.. حرية الإنسان لغة تعني وجوده في حالته الأصلية “المتأصلة فيه” وانتفاء أي قيود تفرض عليه من الخارج، أي من عامل آخر خلاف إرادته الذاتية، وعدم وجود أي موانع تحول دون نفاذ إرادته. وفي القانون، تعني انتفاء أي قيود على الإنسان في سلوكه عدا القيود التي يتبعها طائعاً مختاراً والمتمثلة في القوانين التي ارتضى التحاكم والاحتكام إليها، والتي تنطبق على الجميع على قدم المساواة دون أي تمييز على أي نوع من أنواع الاعتبارات، والتي تتصف بالمعقولية (قواعد القانون) من ناحية تحقيق قيمة العدل. بهذا المعنى اللغوي والقانوني جاءت ديباجة الميثاق العالمي لحقوق الإنسان 1948م مقرة بأن الحرية محققة لكرامة الإنسان: (لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية هو أساس الحرية)(1). وبذات المعنى جاءت المادة الأولى منه مؤكدة على أن الحرية صفة أصيلة: (يولد جميع الناس أحراراً متساويين في الكرامة…)(2).
الحرية الدينية: الحرية الدينية تعني انتفاء أي قيد أو مانع أو محدد يحول بين الإنسان واعتناق إيمان أو معتقد أو دين، وانتفاء أي قيد ينتقص من عقل أو ضمير الإنسان فيمارس عليه أي نوع من أنواع الوصاية بهذا الخصوص، فالحرية الدينية تشمل علاوة على حرية اعتناق المعتقد، حرية ممارسة الشعائر، وحرية تنظيم تلك الشعائر والدعوة لها … كما تشمل قبل ذلك حظر فرض أي نوع من أنواع التمييز على أساس الدين، وبهذا تنص المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان(3) والتي تنص على أنه: (لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو الدين). الحريات الدينية في المواثيق الدولية:
عديدة هي الإشارات للحريات الدينية في المعاهدات الدولية والمواثيق، أقوى تلك الإشارات هي نص المادة الثامنة عشر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تقرأ: (لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنها بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء كان ذلك سراً أو مع جماعة)(4). والمادة الثامنة عشر من العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتي تقرأ: (1) لكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان والدين. ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، أمام الملأ أو على حدة. (2) لا يجوز تعريض أحد لإكراه من شأنه أن يخل بحريته في أن يدين بدين ما، أو بحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره. (3) لا يجوز إخضاع حرية الإنسان في إظهار دينه أو معتقده، إلا للقيود التي يفرضها القانون والتي تكون ضرورية لحماية السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية. (4) تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد باحترام حرية الآباء، أو الأوصياء عند وجودهم في تأمين تربية أولادهم دينياً وخلقياً وفقاً لقناعاتهم الخاصة. عليه فإن الحريات الدينية وفقاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية تتمثل في الحقوق التالية:- (1) الحق في التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في العهد والمواثيق الدولية و القوانين الوطنية دون التمييز على أساس الدين، فبمثابة حصانة ضد الاضطهاد الذي يتعرض له أتباع ديانات أو مذاهب معينة سواء كانت أقليات أو خلافه، فإن عدم التمييز على أساس الدين يمثل خط الدفاع الأول للحريات الدينية كافة وصمام لعدم ممارسة أي إكراه بهدف التأثير على شخص وإجباره. (2) حرية اعتناق الأديان، والمذاهب، والأفكار، والآراء الدينية. (3) حرية تغيير المعتقد والديانة. (4) الحق في الإعلان والإفصاح عن الديانة أو المذهب. (5) حق التعليم الديني. (6) حرية إقامة الشعائر. (7) الحق في التجمع الديني، أي إنشاء منظمات دينية. (8) الحرية في إبقاء الديانة أو المعتقد كـ(سر). الحريات الدينية في النظام القانوني السوداني:
يقصد بالنظام القانوني: الدستور، القوانين وإضافة للتطبيقات العملية لها والمتمثلة في الأحكام والسوابق الشارحة أو المفسرة لتلك الحريات والصادرة عن السلطة القضائية وأجهزة تطبيق القانون ذات الصلاحية كالنائب العام.
الحريات الدينية في الدستور:
أفرد دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م عدة مواد تناولت الحريات الدينية. أول تلك المواد المادة السادسة منه التي نصت على احترام الدولة للحريات والحقوق الدينية للمواطنين والمتمثلة في حق ممارسة العبادات والشعائر وحق التجمع الديني وإقامة وصيانة دور العبادة. وحق إنشاء المؤسسات الخيرية الدينية وحق التعليم والإعلام والاتصال لأغراض دينية، وحق التمتع بالعطلات الدينية(5). وبالعلم بأن المادة المشار إليها هي من مواد القسم الأول والفصل الأول من الدستور، ما يشير إلى أن الدستور يولي الحقوق الدينية أهمية قصوى تليق بها وبمجتمع متمدن ومتعدد الأديان، فإنه علاوة على ذلك أسهب في تفاصيل تلك الحريات والحقوق الدينية، ما يجعله أكثر وضوحاً حتى من المواثيق الدولية. وإن كان يعاب عليه أنه تجنب الإشارة للحق في تغيير الديانة!!. أفرد الدستور أيضاً في مواد القسم الثاني الذي تضمن “وثيقة الحريات” أفرد نصوصاً تتصل بضمانة الحقوق الدينية. الفقرة الثالثة من المادة (27) نصت على اعتبار أن كل الحقوق والحريات التي تتضمنها المعاهدات والمواثيق التي وقع السودان وصادق عليها جزء أصيل من وثيقة الحريات ومن الدستور، ما يعني أن الحريات الدينية المضمنة والعهد الدولي والإعلان العالمي تعتبران جزء من الدستور السوداني ويحق لأي مواطن أن يتمسك بها بالكيفية التي وردت بها في تلك العهود والمواثيق(6). فيما نصت المادة (38) من الدستور ووثيقة الحقوق على أنه؛ تكفل لكل شخص حرية الاعتقاد والعبادة، وحقه في الإفصاح عن دينه ومعتقده بكافة الأشكال، عبادةً، وتعليماً، وإقامة المراسم والاحتفالات وفقاً للقانون والنظام، على ألا يجبر شخص على تبني معتقد لا يرتضيه طوعاً(7). كما أقرت المادة 156 معايير وموجهات تحكم أداء أجهزة القانون والقضاء في العاصمة القومية (الخرطوم) فيما يختص بالتهم والإجراءات التي تتخذ بحق غير المسلمين ومن تلك الموجهات عدم تطبيق عقوبات الشريعة الإسلامية عليهم، ومراعاة عدم تجريم السلوك الناتج عن الممارسات الثقافية والعادات واعتبارها حريات شخصية(8). ونصت المادة 157 على إنشاء مفوضية خاصة بحقوق غير المسلمين في العاصمة القومية، وذلك لضمان أن حقوق غير المسلمين فيها مصانة، وأنهم غير مضرورين من تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وقررت أن تتبع تلك المفوضية لرئاسة الجمهورية(9).
الحريات الدينية في قوانين السودان القانون الجنائي لسنة 1991م:
احتوى القانون الجنائي السوداني على عدة مواد تتصل بمسائل الحريات الدينية، منها نص المادة الرابعة، الفقرة (3) والتي تنص على استثناء الولايات الجنوبية من تطبيق أحكام بعض المواد (شرب الخمر/ التعامل في الخمر/ بيع الميتة/ الردة/ القصاص في الجراح/ عقوبة الزنا/ القذف/ الحرابة/ السرقة الحدية)(10). وكما هو واضح فإن تلك المواد تتضمن عقاب ذي طابع ديني (حدود وقصاص)، وبطبيعة الحال لم يعد لهذا الاستثناء معنى منذ العام 2005م حيث تم سن قوانين خاصة بالجنوب الذي أصبح دولة مستقلة لاحقاً. أما نص المادة (78) في فقرتها الأولى فتنص على أن حكمها ينطبق على (المسلم) فقط، (من يشرب الخمر أو يحوزها أو يصنعها يعاقب بالجلد أربعين جلدة إذا كان مسلم)(11). يتضح من ذلك النص أن القانون يميز بين المواطنين على أساس الدين. ويفرض عقوبات أو أحكام بناءً على دين المتهم، وهذا ضرب من التمييز الذي يتنافي مع المواثيق الدولية الانسانية (حقوق الانسان) ومع معايير المواطنة، وإن كان الهدف منه مراعاة “تمييز إيجابي” حالة التعدد الديني. ونص ذات القانون في الباب الثالث عشر منه على (الجرائم المتعلقة بالأديان حيث تنصل المادة 125 على تجريم سب أو إهانة الأديان أو معتنقها أو شعائرها أو يثير شعور ازدراء أو احتقار أتباعها(12). فيما تنص المادة 126 على حرمة تغيير المسلم لمعتقده (الردة)(13)، وكما هو واضح فإن شرط تطبيق نصوص هذه المادة هو أن يكون المتهم مسلم الديانة. وتنص المادة 127 على حرمة تدنيس أماكن العبادة أو اعتراض أي اجتماع ديني(14). وتنص المادة 128 على حرمة التعدي على القبور، ما لم يكن ذلك بمسوغ ديني(15). وفي كلا النصين يتضح مجدداً أن المشروع يضع الدين كمبرر معتبر ومسوغ وأساس للتمييز بين أشخاص القانون.
الحريات الدينية وقوانين الأحوال الشخصية:
تعتبر قوانين الأحوال الشخصية في السودان إحدى المجالات التي تركت بالكامل في معظم الأحيان لتسودها وجهات النظر والقوانين المنبثقة عن مؤسسات دينية أو ديانات أو مذاهب أو طوائف دينية. فقد تركت الأحوال الشخصية (للمسلمين) مثلاً تحكمها منشورات يصدرها قاضي القضاة الذي يرأس المحاكم الشرعية {وهي المحاكم المختصة بنظر منازعات الأحوال الشخصية للمسلمين} إلى أن صدر قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م(16). وهو قانون ديني (من مسماه) بامتياز، إذ ينطبق على المسلمين فقط، وبطبيعة الحال ليس هناك قانون إسلامي موحد ومجمع عليه يحكم كل المسلمين إذ هناك مذاهب إسلامية مختلفة يتوزع إليها المسلمين، إلا أن الممارسة السودانية قد جمعت الناس وحملتهم على تطبيق قواعد محددة أخذت من المذهب الحنفي(17). أما غير المسلمين فقد توزعوا بين قوانين الأحوال الشخصية لغير المسلمين 1916م وقوانين الطوائف المستثناة، وقد درجت المحاكم على اعتبار الطوائف المسيحية الشرقية واليهود من الطوائف المستثناة من تطبيق أحكام قانون الأحوال الشخصية لغير المسلمين وتطبيق أعراف تلك الطوائف وقوانينها الكنسية على منازعات أفراد تلك الطوائف. ويلاحظ أن الرغبة في احترام التقاليد الدينية لكل أصحاب ديانة قد ذهبت بعيداً حتى أصبح قانون الأسرة في السودان أمر غاية في التعقيد وباب واسع يصعب الإلمام بكل تفاصيله وقواعده وأحكامه، إذ لا يوجد قانون موحد ولا يتصور ذلك في ظل سيادة وغلبة التشريعات الدينية. بل إن مجرد وجود قانون أحوال شخصية موحد ينطبق على كل المسلمين يعتبر في حد ذاته أمر إيجابي وإن كان ذلك يعني تنازل الأغلبية عن حقهم في تطبيق قواعد مذهبهم لصالح سيادة قواعد مذهب إسلامي واحد “المذهب الحنفي” الذي سن المشرع علي هداه مواد قانون الأحوال الشخصية وفي ضوء تفسير القضاة له. الحريات الدينية والممارسات القضائية: تعتبر السلطة القضائية المستقلة هي من أهم ضمانات الحريات والحقوق ومن ضمنها الحريات الدينية. تتشكل السلطة القضائية في الوقت الراهن من المحكمة الدستورية ومحاكم السلطة القضائية. نظرياً وبحسب الدستور فإن المحكمة الدستورية مستقلة عن جهاز الدولة التشريعي والتنفيذي(18). وهي حارسة وضامنة الدستور وحامية حقوق الإنسان والحريات الإسلامية(19). كما إن السلطة القضائية وفقاً للدستور مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، ولديها استقلالية مالية وإدارية(20). كما يتمتع القضاة باستقلالية في أداء وظيفتهم(21). ومحميين من أي تدخل أو ضغوط أو ممارسة نفوذ عليهم. وبرغم هذه الضمانات والتي تتطابق على ما هو منصوص عليه في دساتير السودان السابقة التي سادت في ظل مختلف أنظمة الحكم المدني أو العسكري(22)، إلا أن القضاء السوداني تردد في المساحة بين حماية الحريات الدينية بوصفها من حقوق المواطنة وحقوق الإنسان، وتهديد تلك الحريات. وإن كان من العسير حصر السوابق والحالات التي شكل فيها القضاء حامياً وحارساً وضامناً للحريات الدينية، إلا أن هناك سوابق نهضت كعلامة على ارتداد القضاء ليصبح هو رأس الرمح في تهديد الحريات الدينية. أول تلك الحالات تمثلت في حكم محكمة الاستئناف الشرعية بالخرطوم في العام 1968م، والتي أصدر قضاتها حكماً باعتبار المدعى عليه محمود محمد طه مرتداً عن دينه(23). ورغم أن ذلك الحكم لم يكن له أثر عدا عن إخراجه للمذكور من ولايتها كمحكمة خاصة بالمسلمين، إلا أنه كان أساس لحكم آخر نافذ أصدرته بعد عدة سنوات 1985م محكمة الطوارئ رقم (4) بالخرطوم ضد ذات (المتهم) ورغم أنها نظرت القضية بصفة إستئنافية إلا أنها عدلت صحيفة الاتهام ووجهت تهمة الردة وأدانت المتهم وقامت برفع الأوراق مباشرة لرئيس الجمهورية ليصادق عليه دون المرور بالمحكمة العليا حسب النظام المتبع في السودان وقد تم تنفيذ حكم إعدام بحق المذكور وأخفى جثمانه تطبيقاً لأمر تلك المحكمة(24). ورغم أن المحكمة العليا [الدائرة الدستورية] قد عادت ونظرت طعناً دستورياً يتعلق بإجراءات تلك المحاكمة واعتبرت ذلك الحكم مخالف للدستور لانتهاكه حق المتهم في محاكمة عادلة إلا أنها بطبيعة الحال لم تنظر في أمر الحريات الدينية التي انتهكت وبالتالي لم تعد الاعتبار للمذكور {محمود محمد طه} من حيث اهدار حريته في التفكير والاعتقاد (25). ومؤخراً أصدر القضاء في السودان حكماً بإدانة {مريم يحي إبراهيم} بتهمة الردة حدد عقوبة الإعدام شنقاً في مواجهتها(26). وذلك بعد أن نظر في دعوى تتهمها بأنها قد تحولت عن دينها الإسلامي واعتنقت المسيحية وتزوجت بمسيحي، إلا أن محكمة الاستئناف بحري وشرق النيل قد أصدرت حكما بإلغاء الإدانة والعقوبة وإطلاق سراح السيدة المذكورة(27). يبقى أن الانتقال بين الإدانة وإلغائها لم يكن أمر قضائي اعتيادي يمكن أن يصنف في خانة حماية الحريات الدينية طالما بقيت المادة 126 من القانون الجنائي السوداني شاخصة تجرم انتقال المسلم من عقيدته وتحوله لاعتناق دين آخر. وإذا عقدنا مقارنة سريعة بين الحكم الصادر في 1985م والصادر في 2014م نجد أن الأخير جوبه بمقاومة قانونية وبرأي عام داخلي مناهض استنفرت فيه المنظمات الحقوقية، كما لفت نظر واهتمام المنظمات الدولية العاملة في الحقل القانوني والإنساني، وسفارات الدولية الأجنبية وحكوماتها، ولا شك أن لمثل هذه الحملات تأثير على الأحكام. لذا أيضاً لا يصح اعتبار حكم الاستئناف انتصاراً كاملاً للحريات الدينية في السودان. مهددات وأشكال التعدي على الحريات الدينية: تعتبر المادة 126 من القانون الجنائي لسنة 1991م بمثابة أكبر مهدد للحريات الدينية في السودان لأن تطبيقها لا يقود فقط لمصادرة الحق في تغيير المعتقد وإنما يصادر أيضاً الحق في الحياة إذا أصر {المتهم} على موقفه ورفض تدابير الاستتابة التي يفرضها القانون كما حدث في حالة محمود محمد طه. بالإضافة لمادة الردة هناك مهددات وأشكال أخرى للتعدي على الحريات الدينية، فمثلاً تمتنع أجهزة الدولة عن التصديق على طلبات بناءً أو صيانة دور العبادة لأتباع الديانات أو المذاهب غير المسيطرة كأتباع الديانة المسيحية، بل وحتى المذاهب والطرق الصوفية التي لا يدعم شيوخها النظام السياسي صراحة تتعرض لتمييز وإن لم يكن مباشراً، إذ أن الدولة تحابي شيوخ المذاهب الذين يوالونها وتسهل لهم إجراءات الحصول على الأراضي وتشييد المساجد والدور الدينية {خلاوي/ مسايد}. كما إن هناك تمييز ضد أتباع المذهب الشيعي في السودان، وهو مذهب لم يبلغ أتباعه بعد الحد والمستوى الذي يؤبه لهم فيه، إلا أنهم برغم ذلك يتعرضون لحملات دينية معادية من قبل هيئات دينية مقربة من قادة التيار الديني المسيطر في السودان(28).
التوصـــــــيـــــات
– معالجة القصور الدستوري بإدخال بند منع التمييز على أساس الدين والنص صراحة علي حرية تغيير المعتقد.
– معالجة القصور القانوني في القانون الجنائي السوداني (المادة 126) وقانون الأحوال الشخصية.
– وضع موجهات لأجهزة الدولة للمساواة الإدارية بين مختلف المؤسسات والهيئات الدينية.
المراجــــــــــــــــــــع
(1) ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948م.
(2) الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة الأولى.
(3) الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة الثانية.
(4) الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المادة الثامنة عشر.
(5) دستور السودان الانتقالي، 2005م، المادة (6).
(6) دستور السودان ، وثيقة الحقوق، المادة (27/3).
(7) دستور السودان ، وثيقة الحقوق، المادة (38).
(8) دستور السودان ، وثيقة الحقوق، المادة (156).
(9) دستور السودان ، وثيقة الحقوق، المادة (157).
(10) القانون الجنائي لسنة 1991م، المادة (4/3).
(11) القانون الجنائي لسنة 1991م، المادة (78/1).
(12) القانون الجنائي لسنة 1991م، المادة (125).
(13) القانون الجنائي لسنة 1991م، المادة (126).
(14) القانون الجنائي لسنة 1991م، المادة (127).
(15) القانون الجنائي لسنة 1991م، المادة (128).
(16) قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م.
(17) قانون الأحوال الشخصية للمسلمين والمسيحيين والوثنيين، تأليف د. س. دوليفرفون، دار الجيل، بيروت، 1991م. (18) دستور السودان الانتقالي 2005م، المادة 119.
(19) دستور السودان الانتقالي 2005م، المادة 122 فقرات (1) و (1/د).
(20) دستور السودان الانتقالي 2005م، المادة 123.
(21) دستور السودان الانتقالي 2005م، المادة 128 (11).
(22) نصت كل الدساتير السابقة (1998م/ المراسيم الدستورية/ 1986م/ 1973م/ ودستور 1956م) على استقلالية القضاء.
(23) حكم غير منشور صدر في العام 1968م. ويمكن اعتباره كذلك غير ملزم لأن سلطات المحاكم الشرعية لا تخولها إصدار مثل ذلك الحكم. فهي محكمة أحوال شخصية وليست محكمة جنائية.
(24) حكم غير منشور.
(25) أسماء محمود محمد طه وآخر ضد حكومة السودان، طعن دستوري، مجلة الأحكام القضائية لسنة 1986م.
(26) محكمة جنايات الحاج يوسف، حكم غير منشور صدر في 15/مايو/ 2014م. (27) محكمة استئناف بحري وشرق النيل، حكم غير منشور صدر في 23/6/2014م. (28) لقاء خاص مع أحد أتباع المذهب الشيعي الإمامي في السودان.