قبل عرض موضوع الحجية المؤقتة للأمر الولائي، لابد من مقدمة عن القلق الذي انتاب الجمهور الحقوقي والمواطنين بشكل عام من جراء ظهور الخلاف بين جناحي السلطة القضائية، وارى ان هذا القلق مشروع لأسباب عدة منها الاتي:
1. ان وجود القضاء المستقل والعادل هو حق من حقوق الانسان وقد اصبح مبدأً دستورياً في العراق وعلى وفق احكام المادة (19) من الدستور العراقي النافذ، واي مساس بهذا الحق لابد وان يثير المخاوف لدى اصحاب الحق وهم المواطنون بشكل عام، لان أي حق من الحقوق وفر القانون والدستور الغطاء القانوني لحمايته من أي خرق سواء من الافراد او من المؤسسات الرسمية، وبما ان الحماية المنشودة لتلك الحقوق هو القضاء الذي يعد صمام الأمان لكل مواطن يشعر بالاعتداء على حقوقه الدستورية، فكيف الحال اذا ما تعرض حقه في وجود القضاء العادل والمستقل الى الخرق او الاعتداء او اهتزاز الصورة بما يؤثر على الثقة العامة لدى الكافة تجاه وجود المؤسسات القضائية الدستورية لأنها الملاذ الأخير للجميع، وهذا يثير قلقه المشروع على سلامة مؤسساته القضائية الدستورية.
2. هذا الشعور بالقلق ضروري من اجل حماية المؤسسة القضائية من أي اعتداء يطالها او أي تصرف يؤثر في حيادها واستقلالها، لذلك تجد الجميع يتفاعل مع أي حدث يمس تلك المؤسسات القضائية الدستورية، لان العمل فيها لا يقف عند من يتولى ادارتها او يعمل في مجال الاجتهاد القضائي، وانما يمس كل مواطن لان مخرجات هذا العمل ستكون على المواطن وهو محل التنفيذ، فأي قرار قضائي سواء من القضاء الاعتيادي او الإداري او الدستوري، فانه بلا ادنى شك سيؤثر على الافراد، لان فيه حكم ملزم لأطراف الخصومة او للجميع في الاحكام ذات الصفة العمومية مثل احكام القضاء الدستوري والقضاء الإداري المتعلقة بالأوامروالقرارات الإدارية ذات الصفة العامة،
3. عندما يحدث امر ويظهر الى العلن مثلما حصل الان بموضوع قانون العفو العام وقبله في حالات أخرى، فان المواطن يعبر عن قلقه، ليس لأنه معترض على التصرف او اصل النزاع، وانما لأنه حريص على حماية حقه في وجود قضاء عادل ومستقل، وعامة الناس من غير المختصين في القانون والقضاء يعبرون عن مخاوفهم وقلقهم، وعند ذاك يظهر دور المختص في توضيح النقاط الملتبسة على المواطن من خلال التحليل العلمي والفقهي للنصوص القانونية المختلف في تفسيرها، او التعليق على الاحكام القضائية، او طرح وجهات نظر التي تتعلق باليات الإدارة القضائية، وفي جميع مفاصل السلطة القضائية المتمثلة بالقضاء الاعتيادي والدستوري والإداري، ولا يمكن ان نتصور ان ما يطرحه المختص هو اعتداء على المؤسسة القضائية، وانما تعبير عن القلق واعلانه امام القائمين على امر تلك المؤسسات القضائية لمراعاة هذا القلق ومعالجة اسبابه من خلال توفير عناصر الاطمئنان لدى العامة،
4. ومن خلال هذه المقدمة فان دورنا في التوضيح والتحليل سواء عبر التعليق على الاحكام او قراءة النصوص القانونية او حتى البيانات والاوامر ذات الصلة بالعمل القضائي، وبحكم العمل السابق في القضاء والمحاماة وفي الدوائر الرسمية بعنوان الوظيفة الحقوقية التي تمتد لأكثر من أربعة عقود، ومن خلال الأسئلة التي أثيرت في الفترة الأخيرة من طلاب الحقوق في الكليات خلال الدرس الذي اقدمه، لابد من توضيح بعض المفاهيم التي وردت في مقومات الخلاف بين جناحي السلطة القضائية (المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء الأعلى)،فضلاً عن اصل الخلاف الذي يتعلق بقوانين تمس كل مواطن عراقي، ومنها قانون العفو العام،
لذلك وردت عبارة في القرار الذي اتخذه مجلس القضاء الأعلى في جلسة الرابعة لعام 2025 المنعقدة بتاريخ 5/2/2025، والمتضمن عدم الاعداد بالأمر الولائي الصادر عن المحكمة الاتحادية العليا العدد 3 وموحداتها/اتحادية/امر ولائي/2025 في 4/2/2025، وجاء في حيثيات هذا القرار الإداري بان هذه الأوامر الولائية حجتها وقتية ولا تتمتع بالحجة الباتة والملزمة التي هي صفة تلازم الاحكام القضائية فقط، وللوقوف على هذا المفهوم المتعلق بالحجة الوقتية للأمر الولائي (الأوامر على العرائض) اعرض الاتي:
أولا: طبيعة الامر الولائي:
01. ان قرار المحكمة الاتحادية العليا لم يكن حكماً فاصلاً في النزاع المعروض عليها، وانما كان قراراً ولائياً على عريضة قدمها المدعي، والمحكمة الاتحادية العليا أصدرته بالاستناد الى نص المادة (151) من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل، وعند امعان النظر في هذا الاختصاص نجد ان المادة (141/2) من قانون المرافعات المدنية قد اجازت لمحكمة الموضوع ان تصدر قراراً بصفة مستعجلة تبعاً للدعوى المقامة امامها ، وليس بصفة اصلية وعلى وفق الاتي (تختص محكمة الموضوع بنظر هذه المسائل اذا رفعت اليها بطريق التبعية اثناء السير في دعوى الموضوع) ، بمعنى ان أي محكمة مختصة مشكلة تشكيل صحيح لها حق اصدار القرارات ذات الصفة المستعجلة لكن بشرط ان يكون ضمن دعوى تنظرها،
وحيث ان المحكمة الاتحادية تنظر في الدعوى العدد 3 وموحداتها/اتحادية/2025 فإنها أصدرت ذلك القرار الولائي تبعاً لتلك الدعوى، وبذلك تكون مختصة بإصدار هذا القرار، لأنها لم تصدره بشكل مستقل وانما تبعاً لدعوى تنظرها، ويشير شراح قانون المرافعات المدنية الى ان الشرط الجوهري لاختصاص محكمة الموضوع في الأمور المستعجلة وفي اصدار القرار الولائي هو قيام دعوى موضوعية تنظرها تلك المحكمة، ويكون الاختصاص منعقد للمحكمة الاتحادية العليا في اصدار القرار الولائي، ويكون القرار صحيح من جهة الاختصاص
02. لكن تلك القرارات الولائية ليس بحكم قضائي فاصل في الدعوى، وإنما هي من الأعمال القضائية التي تباشرها المحكمة عرضاً عند النظر في اصل الدعوى من جهة الموضوع وتكون هذه الأوامر القضائية اقرب إلى أعمال الإدارة القضائية للدعوى وأطلق عليها اسم الأعمال الولائية، ويرى فقه قانون المرافعات بانالقرارات المتخذة في الاوامر الولائية تعد مؤقتة تصدر بدون خصومة في الحالات التي يصح فيها اصدار الامر بدون دعوة الخصم وسماعه
ثانياً: حجية الامر الولائي:
ان القرار المتخذ بموجب امر ولائي هو قرار قضائي وليس من القرارات الإدارية، ويجمع الفقه على ان طبيعة هذه الأوامر طبيعة قضائية، لان المحكمة او القاضي لا يبادر من تلقاء نفسه وانما بناء على طلب في دعوى، ويكون للقاضي او المحكمة سلطة تقديرية وتسمى عند بعض الفقهاء (اعمال القضاء التقديري)، وبذلك فان لتلك الأوامر حجية مؤقتة تمتد ضمن نطاق زمني وموضوعي، وسأعرض لها على وفق الاتي:
1. النطاق الموضوعي: الأمر الولائي لا يكون بمواجهة الخصوم ويكون اقل حجية حتى من القضاء المستعجل الذي لا يصدر إلا بمواجهة الخصوم، وبذلك فان الأمر الولائي حجيته مؤقتة قابلة للنقض على خلاف الحكم القضائي او قرار القضاء المستعجل حيث أتاح القانون للقاضي أن يرجع عن الأمر الولائي الذي أصدره بعد التظلم منه على وفق حكم المادة (153) مرافعات بينما في الحكم او في قرار القضاء المستعجل فان يد المحكمة ترفع ولا يجوز الرجوع عن القرار وإنما يتم الطعن فيه أمام محكمة ذات درجة أعلى وهذا يؤشر أن الأمر الولائي حجته مؤقتة في حدود الدعوى التي صدر بموجبها ذلك القرار.
2. النطاق الزمني : ان تلك القرارات تبدأ حجيتها منذ لحظة إصدارها من المحكمة المختصة المشكلة تشكيل صحيح، وتنتهي بعدة صور، اما برجوع القاضي الذي أصدره، وتنتهي تلك الحجية في لحظة صدور القرار بالرجوع عن الامر الولائي، او بقرار من القاضي او المحكمة المختصة بعد التظلم منه وبموجب مرافعة بين الخصوم وعلى وفق احكام المادة (153) من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل ويقرر فيها الغاء الامر الولائي، ومن ثم يفقد حجيته من تاريخ صدور قرار التظلم، او بعد صدور قرار فاصل في الدعوى التي صدر بموجبها وبمقتضاها الامر الولائي، فاذا قضت برد الدعوى يكون الامر الولائي حكماً منتهياً ولا حجية له، اما اذا قبلت الدعوى فان الامر الولائي ليس له الحجية وانما تنتقل الحجية للحكم القضائي
3. تعتبر القرارات الصادرة بموجب الأوامر الولائية من القرارات القابلة للتنفيذ وعلى وفق احكام المادة (14/أولا/ز) من قانون التنفيذ رقم 45 لسنة 1980 المعدل، وهذا منحها القوة الإلزامية ووجوب تنفيذها، والا تعرض الممتنع الى المسائلة القانونية،
4. كما اضفى المشرع الحماية الجزائية لتلك القرارات ومنها الأوامر على العرائض من خلال اعتبار الامتناع عن تنفيذها فعل جرمه القانون وفرض عقوبة الحبس على مرتكب الفعل وعلى وفق احكام المادة (329) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل.
5. ان تلك القرارات الصادرة بموجب الأوامر الولائية لا يجوز الامتناع عن تنفيذها كما لا يجوز نقضها الا من قبل القضاء حصراً وبموجب الطرق القانونية التي رسمها قانون المرافعات، ولا يجوز ان تنقض او تهمل بقرار اداري، ومثال ذلك قرار مجلس القضاء الأعلى المشار اليه انفاً، فانه قرار اداري صادر عن المجلس الذي يتولى الإدارة القضائية للمحاكم التي تتبع الى اليه، ويذكر ان محكمة التمييز سبق لها وان اهدرت القيمة القانونية لقرار ولائي صادر عن المحكمة الاتحادية العليا واعتبرته معدوم لأنه صادر خارج الاختصاص النوعي والوظيفي للقضاء الدستوري وعلى وفق ما ورد في قرارها العدد 354/الهيئة القضائية للانتخابات/2024 في 16/5/2024 ، وهذا وان كان محل اعتراضنا في حينه الا انه صادر بموجب اجتهاد قضائي من محكمة لها الولاية القضائية، وليس من المجلس الذي له الصفة الإدارية ولا يمارس أي اختصاص قضائي وعلى وفق احكام المادة (3) من قانون مجلس القضاء الأعلى رقم 45 في 2017،
الخلاصة ان القرار الصادر بموجب الامر الولائي له حجة الامر المقضي فيه طالما كان نافذاً ولم يلغى او ينتهي باي صورة من صور انهائه، وهذه الحجية المؤقتة تمنحه القوة الملزمة والوجوب بالتنفيذ والتقيد بأحكامه.