23 ديسمبر، 2024 1:33 ص

الحاكميةُ في العراق .. أزمة إنتخابات أم مكوّنات ؟

الحاكميةُ في العراق .. أزمة إنتخابات أم مكوّنات ؟

من يبحث في العمق السايكولوجي للشخصية العراقية سيدرك تماما انها لا تحتوي اي معطيات موضوعية ولا تمتلك اي مقومات في التأثير التفاعلي لتكوين ارتدادات مجتمعية وهي مقيدة في احادية وذاتية مفرطة في التعامل مع الحدث بسعة قصيرة النظر وبسرعة تبرز جوانب اللاوعي الذي ارتبط إرثيا بازدواجية الدين والحكم بماضوية الصراع السياسي الذي التبس بالشرعية وأحكم القبضة على البيئة الاجتماعية وأفرز منهجية عقيدة التمذهب والتي اجترّت موروث الخديعة الكبرى من المدونات العقدية التي سطرها الاولون لتصبح اليوم مرجعية فكرية تأسيسية بنيوية تضادية تعمل على ربط الاسلام كمعتقد ديني بالحاكمية السياسية “الولاية والخلافة” وهي نتاج تأريخي للخلاف على الحكم داخل القبيلة الواحدة في القرن الاول وما حصل بعد يوم الرزية والسقيفة ثم حقبة الخلافة الى ان قامت الفتنة الكبرى بتصارع واضح على الارث فعملت الاجندات السياسية على استحداث عقائد التدين السياسي وظهرت المذاهب وكأنها اديان فئوية أخذت شكلانيات ومسميات مختلفة لتتميز عن بعضها وخلقت لها مرجعيات خلافية منها ما يعتقد انها منصوص عليها ولها العصمة المطلقة ومنها ما يعتبر مرجعيته هي الحاكمية السياسية ووفق هذا المنظور امتدت اكبر ازمة عقائدية في التاريخ الانساني أسمهت في اكبر انحطاط فكري وتخلف معرفي على مستوى العقل النظري والعلمي والفلسفي وأوصلت المجتمعات الشرقية الى افراط في القدسية الشعائرية والطقوسية الرمزية ليكون المجتمع الناتج غارقا في التدين المؤدلج سياسياً وهذه بحد ذاتها قضية اشكالية موضوعية خطيرة لانها تعمل على أنتاج مجتمعات منافقة متمردة ومغلقة غير قادرة على ابداع فكر معاصر ليكون الفرد ضمن هوية فكرية سياسية تعطي الشرعية لكيان الدولة باعتباره تمثيل سياسي اجتماعي عام وفق المفاهيم النسبية الحديثة، وبالتأكيد لا يمكن تحقيق هذا المفهوم مالم ينسخ الفرد العراقي صفة التدين المنافق الذي يظاهر به على اضداده ويفكك ارتباطه السياسي باي مرجعية على مستوى الارث العقائدي الذي أبلس عقله فأقعده .
وقبيل المعراج على الصخب الاعلامي والتشتيت والتضليل الممنهج بحصر قراءات الاصلاح والتغيير والوطنية والمدنية والاغلبية والعابرة بمعركة انتخابية رابعة لابد من الاسراء الى القواعد الارتكازية التي صنعت العملية السياسية باصطلاحها الدارج حين سطّرَ اشتات القوم عقدا ربطوا فيه تقسيم السلطة وتوزيع الادوار عبر توليف التقسيم المجتمعي ليسبغوا على اهل العراق ارث تركيبة المكونات .. ثم اخذوا يشكلون الاحزاب والكتل والتحالفات وفق تلك المعادلة فغنموا الرئاسات الثلاث وتحاصصوا فيها وحولوا الديمقراطية الى حاكمية المكونات .. لكن السؤال الذي يثير الاهتمام، ماهو التعريف الاصطلاحي لمفهوم المكون وفق الواقعية العراقية، هل المقصود بالمكونات هي المذاهب او الاعراق او التجمعات الحضرية او المناطقية ؟ هل هناك دراسة استراتيجية لعدد المكونات وحجمها ونسبها وتوزيعها الديموغرافي ؟ وهل هناك اي قانون يمنع من ظهور مكونات اخرى باتجاهات عقائدية او قومية او عشائرية ؟ هل يمكن تحديد ماهية المكون وفق السياقات القانونية وما مدى التاثير الاجتماعي من وضعها كمفردة تعريفية للشعب العراقي ضمن فقرات الدستور؟ .. هل يتمكن القوم الذين سطروا “مكونات” او السلطة المخولة بتفسير الدستور قانونيا من اطلاق تفسيراً جامعاً مانعاً لمعنى ؛مكون؛ والاستحقاقات الدستورية والقانونية التي تترتب على هذا التفسير؟ .. من هنا فقط تبدأ المراجعات الشمولية بان كل ما تم تشريعه واقراره وتفعيله كان يحقق المصلحة الخاصة الضيقة لمن يمثل المكونات سواء كان ذلك ضمن التوافق او الشراكة .. اي ان العراق يدار بالقاعدة الثلاثية للمكونات الرئيسية .. ؛الشيعة ؛السنة ؛الاكراد .. واهل العراق يرتبطون بهذه المكونات من منظور سياسي وليس من جانب عقائدي او قومي وكل منهم يخاف ان ينفرط عقده فيستقوي الاخر عليه ويستأثر بالحكم من دونه ولذلك اخذت الامور تنساق في اتجاه المحاصصة المكوناتية وبالتاكيد سيتبع الفرد العراقي هذه المنظومة من حيث يدري او لايدري وما أظنه الا في غفلة عظيمة عن أمره .. على العقل العراقي النخبوي ان يفتح قنوات التساؤل ويبحث عن البوصلة التي تتحكم في حيثيات التمثيل السياسي وبالتالي هي تتحرك خارج المنظومة الحكومية باستقلاليتها المنصوص عليها دستوريا وتوسعاتها واستثماراتها وقد بلغت ارقاما غير منظورة .. وقد بح الصوت عن منظومة الفساد ومافياتها وهي اقرب من حبل الوريد اليها بعد ان تم احتواء الاحتجاجات وتفرقت احادا .. من يراقب الصراعات المكوناتية على السلطة يدرك ان الشيعة قد اختلفوا حين قام الحكم فيهم وفشلوا .. وان السنة قد اختلفوا حين سقط الحكم عنهم وفشلوا .. وان الكرد قد اختلفوا حين طلبوا دولة اليهم وفشلوا .. فبأي سفينة بعد ذلك تبحرون ؟
اغلبية اهل العراق في تضليل وما حديث المنابر والاعلام والتواصل الا دليل على ذلك حيث يدار على العامة من الناس انقسام خطير في الراي العام بشان الانتخابات بين من يبايع وبين من يقاطع وكلاهما يرهن مصيره بالتغيير والاصلاح بمعنى ان الهدف واحد والاختلاف في الالية فمن يحث على البيعة يعتقد ان التغيير يبدأ من الوعي الانتخابي ومن يقاطعها يرى انما هي تعبير عن السخط والتذمر من الاداء الحكومي والسياسي وعلى كافة المستويات ..في الجانب الاخر فان الاقلية الخاصة من اصحاب الراي والبصيرة والذين ينأون عن الاخذ بالمزاج الشعبي ولا يتأثرون بالخطاب الاعلامي والخطب من يوم الجمعات ويربطون الاحداث ولا ينجرون اليها وينظرون وبدقة استفهامية كيف تتحرك الرؤوس .. هؤلاء يعلمون علم اليقين بان المبايعة والمقاطعة ماهي الا أجندة تكتيكية لادامة شرعية العملية السياسية وفق معادلة المكونات واجترار احترابها على المؤسسات الحكومية والعقارات والمنافذ والثروات وما ملكت ايمانهم من الصفقات لكي لا تنهض في العراق دولة قوية وتكون ارضه ساحة للتدخلات الاقليمية والعالمية ولكي تخضع المنظومة الحاكمة في الخضراء الى رقابة الحاكمية الدينية السرية وهي تعمل ما وسعت على ابقاء عظائم الامور والاحداث المهمة تحت عمامتها وان القرار الاول والاخير يمرر من تحت عباءتها .. تلك هي حدود المرجعية العليا فلا تقربوها .. ولعل الذاكرة الارشيفية تظهر وبشكل واضح كيف ان الخطاب الاعلامي حذر من تداعيات تاجيل الانتخابات وامكانية الرجوع الى احتكار السلطة وكانت هذه رسائل اعلامية تبث لكي يتم الرد عليها من لدن الفقيه العليم .. على المتلقي ان يربط الاحداث بدءاً من تغيير بوصلة ممثلية الامم المتحدة حين كانت تدعم التاجيل ثم ارتدت على اعقابها بمؤتمر صحفي من ازقة النجف ثم ترحيل التاجيل الى مجلس النواب ثم المفاجأة الاستغرابية من السفارة الامريكية بتاييدها اجراء الانتخابات في موعدها ثم ترحيل المشكلة الى الاتحادية ليرجع الصدى وباسرع من الصوت ان لا تاجيل في الانتخابات حتى ولو ليوم واحد .. من هنا يبدأ الاستنتاج والتحليل ان البيعة المقدسة الرابعة لن تؤدي الى تغيير جذري راديكالي في كسر التركيبة التي صُنعت من لدن الخبير العليم الذي بارك حولها ودعم احزاب الاسلام السياسي فيها فاخضعها لسلطته وجعل شخوصها ادوات كمسبحة يحركها متى يشاء وكيفما يشاء .. ينزع الولاية ممن يشاء ويؤتي الولاية ممن يشاء .. فلينظر العراقيون ويتفكروا ان ما حصل لهم كان نتيجة حتمية من ارث غابر جعل الحكم عليهم انماطا تقليدية ومرجعية وان عليهم ان ياخذوا بالاسباب من دون النتائج .. فأن عرف السبب بطل العجب .
سيأتي يوم الفصل في هذا المقال وسيعلم الذين بايعوا والذين قاطعوا انهم على ما فعلوا نادمون .. فالحجة قائمة عليهم الى يوم يعقلون .. فمن اعطى البيعة احتجوا عليه بانه بايع الفاسدين ولم يطع النظرية الانتخابية الكونية التي ارساها حديث السذاجة .. حدثنا الوكيل عن العليم انه قال “المجرب لا يجرب” .. ومن أبى البيعة احتجوا عليه بانه قعد عنها فظهر الفساد والفاسدون ولا حجة لك علينا ولا هم يحزنون .. الازمة في ارض السواد ليست انتخابية ولا ديمقراطية انما هي ازمة بنيوية مكوناتية تاسيسية منذ قرن خلا عندما رسمت الخرائط والحدود ولكنهم عجزوا ان يرسموا فكر الدولة وصار الصراع على السلطة قدراً متراكباً .. والبيئة العراقية باجتماع الدين والسياسة باتت بيئة جاهلية ومتمردة ومنافقة ولا تصلح تماما لتأسيس دولة حديثة فانتجت ديمقراطية زائفة وانتخابات باطلة .. فالحكم في العراق حكمان .. حكم التدوير المكوناتي السياسي وحكم التوريث المرجعي الديني .. لا يفترقان الا بصدمة تهز العروش هزا ولن يكون ذلك على اهل السواد بيسير الا بالتطهير والتنوير وفتح العقل وابواب العلم ليس الا وغلق ما كُتب من الخرافة والسذاجة ووهم الدولة الغائبة القائمة الى يوم الدين .. فلن يستجيب القدر لكم بالدعاء والتقليد والاتباع والانغلاق على احاديث وروايات لا حصر لها ولا عديد .. ولا بما تعاظم اليوم من الخطوط المقدسة والرايات وتيجان الراس من الفقهاء والعلماء والخطباء .. وهم في ترفٍ من العيش مديد وانتم في قرفٍ من العيش زهيد .. فمن اراد الحيوات الدنيا فما عليه الا ان يخلع البيعة من المرجعيات العليا .. إن هذا الا خياركم فهل انتم قائمون؟ .