18 ديسمبر، 2024 7:52 م

من وحي شهريار وشهرزاد (49)
الحاجز الرقيق
شهرزاد : أريد أن أسالك عن ذلك الحاجز الرقيق بين منح أولادنا الثقة وتركهم يخوضون التجربة بحق من غير أن نتدخل فيها .

شهريار : حقا إنه حاجز رقيق كما وصفته ،فمابين تقدير ذوات أبنائنا وبناتنا ومنحهم حرية الاختيار ، وبين تصوراتنا الذهنية المتعلقة بالمقارنة الإجتماعية مع بنين وبنات آخرين يكمن ذلك الحاجز .

لقد أنطبعت في آذهاننا معتقدات – سائدة في مجتمعاتنا حصرا – تجعل الفخر لشهادات معينة ، ومهن بحد ذاتها ، وكل ما دون ذلك لا يُنظر إليه بعين الاعتبار ، والحق في ذلك على الحكومات التي لم تعطِ التقدير المطلوب لشهادات أكاديمية وكفاءات وخبرات حياتية ، وتخيّلي ياشهرزاد لو كان معدل قبول الطالب في الكليات والمعاهد التي تُخرج معلمين ومدرسين كمعدلات القبول في كليات الطب او الهندسة والصيدلة ، فكيف سيكون تقديرنا للمعلم ؟ ، وربما يكون السر في عدم توقير المعلمين والمدرسين – لاسيما في العقود الخمسة الأخيرة – مرتبطا من قريب او بعيد بهذا المقياس ، ولا أريد ان أبخس الطبيب الذي ينقذ أرواح الناس حقه ، أو أبخس حق المهندس الذي يعمّر الأوطان ، لكن علينا أن ندرك تماما أن المعلم يعمّر النفوس ،ويضع أسس النجاح المتينة والمعارف الرصينة في قلوب وعقول طلبته ليتخرج منهم الطبيب والمهندس والمحامي والطيّار ، وعددي ما شئتِ بعد ، كأننا نقدس الثمار وننسى الشجرة التي منحتنا هذا الإبداع .

أمّا على مستوى التقدير العام فالفخر للغني وأن كان لصا ، ذلك انَ عامة الناس لا ينظرون الى الثروة من أين جاءت ، بل تمتلئ عيونهم بدنانيرها التي لا تحصى ولا تعد ، أو يكون الفخر لصاحب المنصب من غير أن يتفكروا بالطريقة التي وصل بها إليه ، وتصيبهم غشاوة الفخامة المحيطة بالسيد المسؤول ،وهذه قاعدة عامة لمن اعتنق الأخلاق الشخصية ( مهارات التعامل المصطنعة ) كمقياس لتقدير الناس من حوله ، أمّا الذين يعتنقون المبادئ الأخلاقية الرفيعة ، فهم الذين يمنحون أولادهم حق الأختيار ، وخوض التجربة من غير أن يقتربوا من غمارها ، وهم مطمئنون الى أن نفوس الجيل الجديد ممتلئة بالخير والمبادئ السليمة التي ستعينهم على حسن الإختيار والتعامل مع صدمات ونجاحات تجاربهم الخاصة على حد سواء .

وعلينا أن لا ننكر أن المقارنات الإجتماعية قد تأخذ طريقها الى تقدير الوالدين – من أصحاب السمات الأخلاقية – لإختيارات أبنائهم وبناتهم ، لا سيما ما يتعلق بالتخصص الأكاديمي ، فهم بالنتيجة يرون تلك التخصصات في غاية الرفعة والأهمية لبناء مجتمعات سليمة وصحية ، وحينها تختلط أمام عيون الوالدين صورة التقدير لذوات أولادهم واختياراتهم بالصورة الرفيعة لبعض التخصصات عبر المقارنة الاجتماعية ، وهذا هو الخيط الرفيع الذي نتحدث عنه .

شهرزاد : حقا ياشهريار إنها مشكلة كبيرة ، لكن كيف لنا أن نتخلص من هذا الخلط وندرك تماما أن السعادة والنجاحات مرتبطة بحرية الإختيار ، لاسيما ما يتعلق بالمصير والتخصص ؟.

شهريار : سنعود هنا بلا تردد الى المحبة غير المشروطة ، فقد نعتنق الأخلاق الحميدة والمبادئ القويمة ونربي أولادنا عليها ، وننزع قبعة الخبير ، ونمنحهم حرية الإختيار ، لكننا بصعوبة بالغة نستطيع أن نتخلى عن المحبة المشروطة لهم .

نحن نحب أولادنا إبتداءً قبل أن نقدر ذواتهم ، ونحترم أختياراتهم ،وكما أسلفنا في بداية هذا المقام ، فان تطابق الأراء والطموحات بين الوالدين والأولاد شبه محال ، وإن كان المنطلق واحد ( السمات الاخلاقية ) ، فإن للحقيقة أوجه عدة ،وكل طرف يراها من جهة مختلفة وفي زمان مختلف، ومن هنا ينشأ الإختلاف ، وتظهر بوادر المحبة المشروطة .

وقد شهدت في منزل صديقي البغدادي الأصيل – مر ذكره سابقا ( صاحب القلب الحنون ) – حوارا ساخنا من أبنته الكبرى ، وقد طلب حضوري في تلك الجلسة العائلية ، كان يجادلها بعنف فقد تمكنت من الحصول على معدلٍ عالٍ جدا يؤهلها للدخول الى الكليات ( المرموقة ) في مجتمعنا ، لكنها اختارت كلية الفنون لأنها تعشق الرسم .

– هل ربيتكِ على المبادئ والأخلاق من أجل أن تختاري كلية كهذه ؟ ، كيف لكِ أن تكوني عنصرا فاعلا في المجتمع؟ .. أنا متأكد أنك ستكونين طبيبة ماهرة وتنقذين أرواح الناس ، وربما تكونين من أعظم الطبيبات وأنت تعالجين الفقراء والمساكين .

– أبي ألا ترى إنني حينما أرسم لوحة جميلة أدخل الفرحة الى قلوب الناس ؟ ، وما أدراك أنني لن أساعد الفقراء إلا اذا كنتُ طبيبة كما تريد !، أنت تعرف تماما مدى تعلقي بالرسم ، ولا أعتقد أنني ساكون طبيبة ناجحة .

فجأة ساد الصمت وألتفت الجميع إلي وكأنهم يطلبون مني الحكم ، كنت مرتبكا جدا وأنا آرى وجهين مختلفين على حقيقة واحدة ، وإن عليّ أن اقول شيئا ما : حسنا .. أعتقد إنكما على حق ،ومادامت الغاية نبيلة فأن خدمة الناس وإسعاد الآخرين ستتحقق بكلا الطريقين .

هتفت إبنة صاحبي (متوقدة الذكاء) فرحا بما قلتْ ، لكنها إنصرفت بسرعة بعد أن رأت ملامح الغضب والإمتعاض باديةً على وجه أبيها.

– عجبا .. كيف قلتَ هذا ؟ .. لقد جئتُ بك لتعينني وتُقنعَها فهي تثق بك !.

– ولماذا لا تثق انتَ بإختيارها ياصاحبي ؟

أطرق طويلا قبل أن يقول : لقد حلمتُ طويلا بهذا اليوم ، وتركتُ لها حرية إختيار التخصص في المرحلة الإعدادية ، ولم أضغط عليها يوما لتزيد من ساعات دراستها ، وكنت دائما أشجعها وأخبرها بثقتي الكبيرة بقدرتها على التفوق ، لكنها صدمتني بإختيارها الأخير .

– ها أنت تعترف بأنك وضعت شروطا لمحبتك وثقتك بها!

– ياإلهي !.. هل تسمي خوفي على مستقبلها محبة مشروطة ؟ .. رسامة بدلا من طبيبة !!

– عليك أن تثق بها الى آخر المشوار .. هل تستطيع أن تتخلى عن شرط الطبيبة ؟ .. ربما ستشعر أبنتك بثقة أكبر وقد تغيّرُ اختيارها ، فإنْ أصرتْ فعليك أن تظهر لها محبتك الدائمة ، وفي حينها تعجّب كما تشاء وأنا أحدثك عن محبتك المشروطة لها .

ثلاثة أيام من التفكير العميق مرتْ على صاحبي وهو يشارك زوجته همومه ووجهة نظره ،لكنه كان مقتنعا في قرارة نفسه بأن حبه المشروط قد منعه من منح ابنته حرية الإختيار، كان عليه أن يصرح بموقفه النهائي سريعا ،فأيام معدودات تفصلهم عن آخر موعد للتقديم.

في صباح اليوم الرابع وقبل أن يخرج الى عمله قال لابنته : حبي لك أعظم من أي شهادة أو تخصص ، إختاري ما شئتِ .. أنا مازلت أثق بحسن إختيارك .

بعد سنوات من الدعم المتواصل والمحبة غير المشروطة تخرجت البنت الذكية من كلية طب الأسنان ، وهي اليوم تشق طريقها بقوة وتكاد تنافس اسماءً لامعة في عالم هذه المهنة الإنسانية .

لقد كسر (صاحب القلب الحنون) آخر قيود المحبة المشروطة ، ومنح الشابة الذكية أجنحة كبيرة أعادت إليها الإحساس بالإستقلال ، وقدرتها على حسن الإختيار ، وربما استطاع بتلك الكلمات الساحرة ، أن يمنحها القدرة على (التقمص الشخصي) ، حينما رأت الحقيقة من منظاره هو ، فأيقنت عظيم حبه لها ، واختارت بملء إرادتها ما يملأ حياتها سعادة ونجاحا وتألقا .

شهرزاد : بالله عليك .. ألا تعتقد إنه كان سيحزن كثيرا لو أنها اختارت في النهاية أن تكون رسامة ؟

شهريار : ربما كان سيحزن قليلا ، لكنه بالنتيجة تَخلصَ من عقدة الحب المشروط وسيفرحه نجاحها بكل تأكيد لأنها اختارت بملئ إرادتها ، إنها المحبة المطلقة ياشهرزاد ، فكما أنها استطاعت أن ترى الحقيقة من منظور أبيها ، فهو قادر بكل تأكيد على أن يراها في أعماقها وتطلعاتها ، وبإمكاننا القول : بالمحبة الصادقة فقط نستطيع أن نرى الحقيقة من كل جوانبها ، فحينما تنساب أنوارها في القلوب وتلامس الأرواح فإننا لن نجد صعوبة تذكر بالإنصات لمن نحب ، وتقمص شخصياتهم ، ومن ثم النظر الى الحقيقة بعيونهم لا بعيوننا نحن .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]