19 ديسمبر، 2024 3:30 ص

مكانٌ فسيحٌ مفتوحٌ على معالمه من مبان ٍ واطئة وأحواض مياه توشوشُ عالية وسافلة. أناسٌ يلجون ويُغادرون خللَ البوابة الوحيدة للمبنى. وأبوابٌ ونوافذ يكتظُ أمامها خلقٌ كثير يرومون انجازَمعاملاتهم. المبنى شامخ أشبه بالقشلة البغدادية. وربّما هي نفسها جيء بها الى ساحة حلمي. فثمة َ أطواقٌ فوق أعمدة ، يليها ممرٌّ عرضه متران تُحاذيه وتشرفُ عليه أبوابٌ ونوافذ مُغلقة أو مفتوحة. وبرغم الزحام والحركة الدائبين فلا يُسمع صوتٌ أو كلام. وأنا لا شأن لي بما يجري ، بل جئتُ أبحثُ عن شخص أثير الى روعي. في نهاية الممرّ المحيط بالأعمدة فضاءٌ ينطوي في الميمنة والميسرة على بيوت واطئة بُنيت من الطوب أو الخشب. اتجهتُ يساراً أروم زيارتها في احدى تلك الغرف. قيل انّها مريضة جيء بها لتستجمّ ، استغرقتني ضحكة . أهنا يستجمُّ الناسُ؟ لم اُردْ سؤال أحد عنها ، فهي مشهورةٌ ، فنصفُ سكان المدينة يتشوّفون الى رؤيتها ولقائها. لعلّها اختارت عمداً ذا المكان بعيداً عن الأعين. لكنْ مَنْ دلّني عليها؟ ثمّ ما علاقتي بها؟ يبدو لي أنّي أعرفها خيرَ المعرفة، والّا لمَ أجشّم نفسي عناء البحث عنها وزيارتها؟ هي في احدى هذه الغرف على يساري ، وبوسعي أن أعرف الغرفة التي تثوي فيها. اعترفُ أنّ ذا المكان حنية منسية لا تخطر ببال أحد ، خال ٍ من السابلة في أغلب الأحيان. ولم اخطيء الظنّ حين

اعتمدتُ حدسي في تحديد غرفتها. لكن لمَ جاءت الى هنا وتركت بيوت المدينة وفنادقها الفارهة وهي علمٌ غنائي مشهور .

وقبل أن أجيء الى ذي الحنية المهملة كنتُ خللَ عالم فوّار موّار بالحركة والضوضاء يضجّ بأناس كثيرين قدموا لأنجاز معاملاتهم هنا وهناك . والنهرُ، اراه جارياً سلساً تنكسرُ على صفحته شظايا ضوئية تموسقها المويجاتُ المتحرّكة. وخللَ مروري أمام الأبواب دلّني حدسي على بابها. ارتقيت الدرجات الثلاث ونقرتُ طرقتين على الباب فانفرج عن وجه امرأة ، وهمست : تفضلْ انها تنتظرك…الغرفة واسعة كما لوكانت شقة ، تنطوي على جميع مستلزمات المعيشة. لكنْ، تغشاها عتمةٌ خفيفة… كانت تجلس على حافة السرير، والى جوارها طفل لم يبلغ السنة يرفس برجليه الفراغ ، امتلأ وجهُها بالفرح ، وقبل أن تنهض وصلتُ اليها وقبلتُ يدها اليمنى، ثمّ وقفتُ لأطبع قبلة أخرى على رأسها، كان شعرُها شعثاً غير ممشّط . بيد أنها رمت عليّ ذراعها محتضنة اياي وطبعت قبلة على خدي. التفتت نحو الطفل وهمست: انه فرح بسماع صوتك، ملتُ عليه وقبلتُ أصابع قدمه اليمنى. اعتذرتُ لها لأني جئتُ بلا موعد،ٍ ردّت بهمس: ليس بيننا ما يوجبُ تكريس الرسميات. أنت بمثابة أخي، وبيننا عشرة ٌ طويلة. فخذْ راحتك من دون حرج . لحظتني بمحبة ثم أردفت: قد تسألني : لمَ اخترتُ ذا المكان، فانا بسيطة فلا تناسبني حياةُ الفنادق الفخمة، كما أكره الضجّة الإعلامية. سأبقى أياماً ثم أغادر ذا المكان.

لكنْ، نبئني كيف تعيش وأين؟ / جئتُ من بلد اوربي بعيد، القيتُ رحلى فيه، هناك أمانٌ ، حرية ٌ مفتوحة، عيشٌ كريم ، أيامٌ هادئة تسعفني على الكتابة… / قراتُ كتابك الأخير، ما أنبلَكَ؛؛ أنتَ لا تجرحُ أحداً، وأجواءُ قصصك رهيفة ٌ غريبة وأحياناً فانتازية. ولغتُك.. ما أجملَها؛؛ / ذا اطراء كبير يُشرّفني سماعه. أهو طفلك ؟ أشرتُ اليه / هزّت رأسها : أجل، وقد استغرب الناس أن أنجبَ في هذا العمر. / وزوجُك؟ / اختلفنا، ثمّ انفصلنا، تركني بهدوء، لم يجرحْ أحدُنا الآخر، ويجيء بين حين وآخر ليتفقدَنا، انّه كائن لطيفٌ، بينما أفكارنا لا تلتفي / حتامَ ستبقين هنا؟ / بضعة أيام وحسب، وسنعود الى هناك … بودّي لو نلتقي دوماً، فأنت طيّبٌ أثيرصادقُ الطوية، سأتفقدك دوماً ، وربّما سنتحدّثُ عبر الهاتف/ من أشهر بعيدة لم نلتق، وحين أنبأني هاجسي أني سأراك ِهنا قطعتُ تذكرة السفر وجئتُ / كيف وجدتَ بغدادك ؟/ عراها انهيار في القيم والعمران، تغيّرتْ نفوسُ الناس وسلوكهم، والمدينة التي أعرفها أشبه بخرابة، … حين ولجتُ أزقة الحيدرخانة والعاقولية اجهشتُ بالبكاءً، بكيتُ حتى تورّمَ حلقي. أذي هي بغدادي التي أعرفها؟ / كلُّ شيء يتغيّرُ، كان الأجدرُ أن يكون التغييرُ نحو الأجدى / ثم عرتنا لحظات صمت ، وربّما استغرق قلبانا في البكاء، نهضتُ ، احسستُ أنّ الطفل يحتاج الى الرضاعة، ، ينبغي عليّ أن أغادر/ لا تنسَ أن تُحدّثني بين وقت ووقت. ، انت تعرف رقم هاتفي/ ورأيتُ في عينيها قطرتي دمع. دمعة في كلّ عين، مدتْ اصبعها الأوسط

فمسحتهما. انحنيتُ وأنا واقفٌ لصقها قبلّتُ يدها ورأسها، وقبل أن اغادرها سمعتها تقول: اتدرّبُ الآن على اغنية جديدة من شعر محمّد الماغوط، ستسمعها خلال شهرين. لا تندهش فقد وجدتُ في ديوانه قصيدة ً راقتني كثيراً / اذاً سأتصل بك غبّ وصولي الى بلدي / .. وتركتُ أم كلثوم ورائي كمَنْ يتركُ ذكرى تمرأتْ له.

………………

لكنْ نسيتُ أنّ حكايتي ذي أبعاضُ حلم راودتني في قيلولة الظهيرة ….

أحدث المقالات

أحدث المقالات