نظرا” للتقدم المادي والتكنولوجي المتسارع في عالمنا اليوم فقد أصبح العمل الإستخباري أفتك أسلحة العصر ، ومن أهم أولويات العمل والتكوينات السياسية للدولة ، ولقد حلت أهمية المعلومة الإستخبارية في العصر الحديث محل حرب الجيوش التقليدية وأصبح التنافس العالمي صراعا” في عالم العقول والذكاء والإستباقية أهم من عالم القوة العسكرية وقتال السلاح والأفراد.
العمل الإستخباري هو عملية جمع المعلومات وتقييمها وتصنيفها وتحليلها عن العدو أو أي تهديد أمني أو سياسي أو إقتصادي أو عسكري أو إجتماعي داخلي أو خارجي ومن ثم توزيعها على الجهات ذات العلاقة لغرض المباشرة بعملية التخطيط لمواجهة التهديد أو الخطر المحتمل الذي تؤشره تلك المعلومة، وعليه فالجهد الإستخباري هو عمل وجهد متنوع يشمل مساحة واسعة من الإختصاصات والمجالات ويتطلب الآف الخبراء والمتخصصين بمختلف العلوم الطبيعية والإنسانية والسياسية والعسكرية والتكنولوجية والإقتصادية والنفسية والعلمية ويعد عنصرا” من عناصر رسم السياسة الداخلية والخارجية للدولة يعمل على تجميع و إمداد المعلومات للمختصين القائمين على رسم سياسة الدولة وتوظيف هذه المعلومات والمؤشرات في خدمة العمل السياسي والأمني عموما” وتقويمه بالإتجاه الصحيح بدلا” من أن تكون معوقاً لها ، و يجب أن تتجنب إتخاذ موقف مؤيد أو معارض لوجهة سياسة معينة، وأن تتفحص الأجهزة الأمنية والإستخبارية التأثيرات المحتملة للسياسات المترادفة التي قد تتخذها الدولة.
إن الجهد الإستخباري الإيجابي يشتمل الإجراءات التي تتبعها الأجهزة الإستخبارية لتحصل على المعلومات سواء بالملاحظة والمتابعة أو بالقيام بعمل إيجابي أو التقصي بالحصول على المعلومة التي يجب أن يتم الإلمام بها قبل البدء بإتخاذ طرق معينة لتدارك الأحداث ويكون المسؤولون على علم مقدماً بما سيواجههم وإتخاذ إجراءات تسبق وقوعها ويشمل هذا الجهد كل ما يتطلب القيام به من خطط إيجابية إستراتيجية للتغلب على العدو في أي ميدان من ميادين المواجهة المختلفة ،عليه فهو عمل إستباقي يسبق العمل التتفيذي للعدو بخطوة أو خطوات .
وعليه فإن توظيف المعلومات الإستراتيجية من قبل المسؤولين عن رسم السياسة الداخلية والخارجية للدولة يجب أن يتم في الوقت والمكان المناسبين لمصلحة الدولة وتوجهاتها وقت السلم والحرب، ولكي تكون هذه السياسة ذات أثر فعال يجب على واضعي خطوطها الرئيسية وتفاصيلها ومنفذيها أن يكونوا قادرين على إختيار الوسائل الأكثر إقناعا من قائمة الإحتمالات المطلوبة ، إذ قد تكون هذه الوسيلة تحركا” دبلوماسيا”، ترغيبا”، تهديدا” سياسيا” أو عسكريا” وهذا هو أخر العلاج الكي .
إن الجهد الإستخباري الناجح والفعال لايقتصر على كونه علما” أو مجموعة من العلوم بل هو حصيلة تراكم خبرات وقاعدة بيانات وإتصالات يكون الإنسان وعقله النير هو محورها وأساسها ونقطة إنطلاقها لايهمل أصغر حدث يتم تاشيره في مختلف الإختصاصات التي ذكرناها في مجال تحليل وتصنيف المعلومات ويستند إلى قاعدة معلومات واسعة متشعبة النطاق ومتداخله في نفس الوقت لكنها منظمه وفقا لصميم عملهم يتم تحديثها بصورة مستمرة من قبل مختلف مصادر جمع المعلومات والتي تشمل المخبرين أو عناصر الاستطلاع والجواسيس ، كذلك مختلف وسائل الرصد والتحسس البصرية والألكترونية والرادارية المتحركة والثابتة وكذلك مصادر المعلومات الإعلامية كالمحطات الفضائية السمعية والمرئية والصحف المقروءة والألكترونية والكتب والبحوث والمؤتمرات إذ هي شبكة عمليات مترامية الأطراف متوحدة بقيادتها المركزية .
أصبح الجهد الإستخباري في الوقت الحالي من الركائز الأساسية ليس فقط للدول وإنما كذلك للتنظيمات العالمية التي ظهرت مؤخرا” أبرزها القاعدة وداعش وغيرها من الجماعات المسلحة لتكون الحروب إستخبارية ومعلوماتية إستباقية بالإضافة إلى الحرب الميدانية ، إن الجماعات المسلحة لم تعد اليوم مجرد مجموعات دعوية أو مسلحة، بقدر ما تقوم على بناء نفسها من الداخل، تبدأ بحلقات مغلقة، لتتوسع وتتحول إلى شبكة، فهي أكثر من تنظيم كونها قد عرفت أهمية العمل الإستخباري وعملت على تطوير إمكانيتها وتوسعها وتمركزها .
وفي المقابل نجد أن العراق اليوم بعد أن كان من أقوى الدول بما كان يملكه من المكونات واللبنات الأساسية للأجهزة الإستخبارية والمخابراتية والأمنية والتي أثبتت فعاليتها وخبرتها يشعر داخله المواطن بوجود دولة قوية ويهنأ بالأمن والأمان والإستقرار طول عقود ماقبل الإحتلال الأمريكي عام 2003 أصبح اليوم خاليا” وخاويا” من أي جهد أمني وإستخباري حقيقي وهدم كل قواعد المعلوماتية والجهد الإستخباري الذي بني بعقود طويله وبجهود مضنيه على أرض الواقع وذلك لاستهداف هذا الشريان الجوهري الذي يصب في قلب العراق واستهداف محوره وقاعدته ونقطة إنطلاقه الآ وهو عقل الإنسان العراقي وخبرته في هذا المجال يوم أن تكالبت الأحزاب المتناحرة والمخابرات الدولية بالتخطيط والتنفيذ يقودهم هولاكو بغداد برايمر على حل جميع الأجهزة الأمنية والعسكرية وإغراق العراق في فوضى التخريب والدمار والإرهاب الأعمى الذي أحرق الأخضر واليابس، أضف إلى ذلك التصريحات الهزلية التي يتناوب عليها سياسيوا العراق الذين إمتهنوا جهد الكلام لاجهد الأفعال والتصريحات الخاوية من أي معنى أو هدف أمني بل لمجرد الثرثرة واللغو الغير مهني المفتقد للخبرة والحرفية الذي لاقيمة له بل على العكس تحولوا إلى وسيلة من وسائل تسريب المعلومات عن خطط وسياسة الدولة في حال أن كانت هناك خطط أصلا” أو سياسة معينة واضحة للدولة ،وقد بدى هذا الضعف والوهن الإستخباري الميداني العراقي واضحا” للعيان يوم أن سيطرت داعش على الموصل وبيجي وتكريت وأحكمت سيطرت بعد ذلك على الرمادي ومن الأسئلة التي تبادر للذهن كيف احتلت داعش مدن عراقية بهذه السرعة وهذا الإحكام ؟؟ هناك أسباب معروفة وأعلنت وعرفها الجميع لكن هناك سبب غير منظور هو أن القوة العسكرية لداعش لم تكن لوحدها مفتاح إختراق هذه المدن العراقية وإنما كان الجهد الإستخباري والتنظيم المخابراتي لداعش العامل المهم والواضح في التحرك على أرض المعركة مسندا” بتوجيه الجهد العسكري والتكتيكي والتعبوي للقطعات المهاجمة وإنفتاحها على محاور القتال في الموصل من عدة جبهات ومقابلها إنعدام أي جهد إستخباري للدولة العراقية وتخلخل الدفاعات والتحصينات العسكرية العراقية في الموصل نتيجة إفتقارها إلى أي معلومات عسكرية وأمنية وإستخباراتية عن القوات والقطعات المهاجمه لداعش وحجمها وتجحفلها ودخولها وتحركها بإتجاه الموصل ،ولا ننسى إستخدام داعش واحدة من أهم وسائل الحرب الإستخبارية ذات التاثير المهم والفعال الآ وهو الإشاعة حيث إستخدمت هذا الإسلوب الإستخباري لبث الرعب والخوف في قلوب الجنود والضباط وكافة القطعات العسكرية المتمركزة في الموصل بالإضافة إلى الزخم العسكري والتعوبي في المعركة مما إستطاعت من خلاله زعزعة الروح المعنوية للمقاتلين ومن ثم فتحت لهم داعش أبواب الهروب من الموصل عمدا” ولم تغلقها عليهم حتى لايضطر الجنود لمقاتلتها بل سهلت لهم طرق الهروب والنجاة بأنفسهم ليتركوا لهم الموصل بإكملها بما فيها من سلاح ومعدات وعتاد التي خلفوها ورائهم وإستثمرت داعش الروح الإنهزامية لدى الجيش الذي إنسحب من أرض المعركة في الموصل وإستثمرت الوقت وحشدت الجهد مستغلة روح النصر لدى مقاتليها بالتوغل عمقا” بإتجاه بيجي وصلاح الدين التي لم تستغرق عملية السيطرة عليها بضع ساعات لأن روح الإشاعة المضادة التي إستخدمتها داعش في الموصل وصلت قبل قطعاتها إلى بيجي وتكريت وهكذا أحكمت سيطرتها ، وبنفس الطريقة أعادت داعش الكرة بعد عام من إحتلال الموصل وهذه المرة في الرمادي حيث سبقت قطعاتها المهاجمة الإشاعة والإعلام المضاد، فهنا التوجيه المعنوي هو سلاح إستخباري وهو روح العمل والجهد الإستخباري استثمرته بالشكل الأمثل ونجحت بالمقابل في زعزعة الروح المعنوية لدى القطعات العسكرية المرابطة في الرمادي ودفعتها إلى الهروب والإنسحاب مخلفة ورائها خزين لايستهان به من السلاح الحديث لتستولي عليه داعش.
في الطرف المقابل وعلى رأس السلطة نجد أن الحكومة العراقية مغيبة تماما عن مثل هكذا جهد حقيقي تعتمد عليه كل الحكومات والدول إذ ليس هناك أجهزة أمنية أو إستخبارية أو مخابراتية حقيقة في العراق ، وإني على يقين أن أغلب سياسيي العراق حاليا” لايميزون بين هذه المصطلحات ولايعلمون الفرق بينها على مستوى التصنيف الأمني ولايفقهون شيئا من مدارس العمل الإستخباري ولاأعرف إن كان هذا الشئ مقصود ومتعمد أم جهل وعدم معرفة وكلاهما كارثة في علم الدولة الحديثة لاسيما وأن العراق دولة تحيطها الفتن والأطماع من كل إتجاه وجانب .
لقد إبتعدت السياسة العراقية عن المهنية والحرفية الإستخبارية بعد عام 2003 بعد حل الأجهزة الأمنية مما ألغى عقودا” من تراكم الخبرات والمعلومات لدى أشخاص وأجهزة كانت تعمل لمصلحة العراق وليس لمصلحة شخصية أو فئوية أو حزبية أو طائفية ، بل واﻷكثر من ذلك حاربوها وطاردوها وأغتالوها وتركوها في مهب الريح بحجج واهية لغايات في نفس الأحزاب والكتل السياسية أو لمصالح دول كانت بالأمس عدوا” وطامعا” بالوطن بجهل وغباء من حكموا العراق بعد الإحتﻻل وبذلك خسر العراق مكونات هائلة وطاقات من العلوم والخبرات والعقول المخابراتية والإستخبارية والأمنية التي كانت تفرض نفسها بخبراتها وإمكاناتها في خارطة التصنيف الأمني العالمي .
لقد كان العراق في مصاف الدول التي يعتد بها أمنيا” ويحسب لها ألف حساب وحسبنا في هذا المقام أن يشهد لهم العدو قبل الصديق وأن يشهد له سياسيي المرحلة يوم أن كانوا لايقدرون على مجارات ومواجهة الجهد الإستخباري العراقي لقوته وحنكته وهم يعلمون ذلك علم اليقين والدليل يوم أن دخلوا العراق توجهوا إلى مقرات الأجهزة الأمنية بحثا” عن ملفاتهم لمعرفة كيف كان يتم إختراقهم هم وعناصرهم وماهية نقاط الضعف لديهم ، إن سرقة أرشيف الأجهزة الأمنية وخاصة أرشيف جهاز المخابرات العراقي لم يكن عمل عشوائي أبدا” بل كان من ورائها عدة دوافع منها :
· كشف مصادر المعلومات للمخابرات العراقية في جميع الدول ، لأن جهاز المخابرات العراقي السابق كان يمتلك نشاطا” واسعا” لشبكات عملاء تغطي دولا” كثيرة كساحة عمليات .
. الخشية من كشف تورط بعض أسماء الساسة العراقيين في المعارضة آنذاك والموجودين الأن بساحة الحكم بتعاملهم وتعاونهم مع المخابرات العراقية قبل 2003 والتستر على الحقائق فحاولوا طمس الوثائق التي تثبت تلك الحقائق خوفا” من إفتضاح أمرهم ومنهم من تثبت الوثائق بأنه جاسوس وعميل وحتى إرهابي لحساب جهات خارجية كانت الأجهزة الأمنية العراقية على علم ومتابعة لهم لارتباطهم بأجهزة مخابرات أجنبية أو حتى يعملون على تنفيذ خططها وتعليماتها أصبحوا الأن من سياسي الصدفة يديرون دفة الحكم في العراق .
إن العمل المخابراتي والإستخباري والأمني في العراق يشهد ضياعا” في تحديد هويته العراقية الحقيقية نتيجة عدم الإنسجام وغياب الرؤية الواضحة في التنسيق بالإضافة إلى تأثر واضح باتجاهات التفكير لدى القوى السياسية المسيطرة على القرار السياسي بشكل مقصود والتي إبتعدت عن المهنية والحرفية وأتجهت إلى تسخير جهدها ومعلوماتها لتصب في المصالح الحزبية والفئوية أو الأقليمية الأمر الذي يحتاج إلى إعادة النظر في الهيكل التنظيمي والإداري لتلك الأجهزة ابتداء” من هيكليتها وإختصاصاتها وإدارتها والإنتساب إليها على إعتبارات وطنية بحته بعيدا” عن المحاصصة الطائفية المقيتة التي عصفت بالبلاد وتأسيس أجهزة مستقلة ترتقي بمستوى العمل الإستخباري الذي يستحقه العراق للدفاع عنه وضمان أمنه وقت السلم والحرب بوجه التحديات والخروقات الأمنية داخليا” وخارجيا” لدرجة تأمن المواطن في نفسه وماله وكذلك الشارع العراقي من أي تهديد ليعود السلام إلى أرض السلام وكذلك إعادة النظر بنوعية الوسائل المستخدمة في جمع المعلومات وأساليب تحليل المعلومات وطرق توزيعها بما يوازي التطور الذي يشهده العالم، بغية الإرتقاء بقدراتها على مواجهة التهديدات المختلفة التي يواجهها العراق داخليا” وخارجيا” ، بما يعزز سيادته بعيدا” عن تداعيات الأزمات السياسية التي تعصف في البلاد ويكون بمعزل عن تناحر وتقاتل القوى السياسية.
فلا يتسأل البعض عن سبب تمدد داعش في العراق!!ولايتسأل البعض الاخر عن سبب انهزامية القطعات العسكرية امام داعش!! فالغلبة لمن يستثمر الجهد والمعلومة في الوقت والمكان المناسبين.
حفظ الله العراق وشعبه