لم يكن قرار رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان حجب شبكات التواصل الاجتماعي في بلاده، آخر قرار من نوعه يعكس قصر النظر، ولا يحصد سوى الفشل شأن اي محاولة لحجب اشعة الشمس. فقد اصدرت حكومتنا قرارا مماثلا. لكن الفرق هو انه في تركيا سارعت المحكمة الدستورية الى نقض القرار وعدته “غير شرعي وينتهك حرية التعبير” . وحدث ذلك بعد شكوى تقدم بها استاذان جامعيان ضد رئيس الوزراء اردوغان اضافة الى وظيفته.
اما عندنا في العراق فقد اعادت الحكومة حجب المواقع بعد ان رفعته لأيام. حيث صرح الوكيل الفني لوزارة الاتصالات السيد سمير البياتي (لإذاعة العراق الحر (ان الغاية من حجب مواقع التواصل الاجتماعي هي التقليل من النشاط الاعلامي للجماعات المسلحة، التي تستخدم هذه المواقع للتأثير على نفسية المواطن. واتضح في ما بعد ان قرار فرض الحجب مجددا جاء على اثر استثمار “داعش” لتلك المواقع وما توفر من فرص لـ” الجهاد الاكتروني”، بصورة افضل من استفادة الحكومة منها لفضح “داعش” وادانة جرائمها في هذا الميدان. وهذه مفارقة غريبة بقدر ما هي مؤلمة.
طبيعي ان لا يوفر اي طرف يخوض الحرب امكانية إلا واستخدمها من اجل تحقيق النصر. ويعد الاعلام احد اهم اركان الحرب، لذا لا يمكن التقليل من دوره. وتبرز أهميته الاستثنائية في الحروب غير التقليدية، ومنها الحرب ضد الارهاب. فمع التقدم العملي والتكنولوجي تقدم في الواجهة ما اتفق على تسميته “الحرب الالكترونية”.
واليوم، حيث استباحت داعش وحلفاؤها مناطق واسعة من العراق، وفرضت سيطرتها على عدد من المدن، كان للمعارك الالكترونية ميدانها في هـذه الحرب. ومن بين اهم الساحات التي ركزت عليها صفحات التواصل الاجتماعي. وكان جديرا بالحكومة ان تستعد الى ذلك، سيما وهي تمتلك إمكانيات كبيرة جدا لا تقتصر على اموال الدولة الطائلة التي وضعتها تحت تصرف المؤسسات الاعلامية الرسمية، بل كذلك الامكانيات المالية والبشرية لاحزابها، التي اكتسبت في الحملات الانتخابية خبرات جيدة في هذا المجال. حيث أدار كوادرها المختصون في تقنيات الانترنيت صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، بمهنية عالية وبنشاط وهمة، على مدار الساعة. كما شهدنا سعة استخدام الإعلانات مدفوعة الثمن، التي روجت للزعماء المتنفذين وقوائمهم الانتخابية. لكن بدا واضحا ان هذه الامكانيات جميعا تم تكريسها لهدف واحد وحيد، هو ايصال المتنفذين الى السلطة، وليس لأي غاية اخرى تتعلق بامن وسلامة العراق. والدليل انها وقفت عاجزة ، كما نرى، بل وغابت كليا امام ” الجهاد الالكتروني” الداعشي.
لم تستطع الحكومة منع قوى الارهاب من بث سمومها والترويج لأفكارها الظلامية عبر الفضاء الالكتروني. ففي الوقت الذي تواصل فيه حجب مواقع التواصل الاجتماعي، اعادت شركات الإنترنيت في الموصل بث خدماتها. نعم، وكأن هذا الميدان تم التنازل عنه طوعا لقوى الإرهاب.
ولم يقف النشطاء المدنيون والمدونون العراقيون مكتوفي الأيدي. فقد تمكنوا من كسر الحصار، وبرعوا في اختراق الحجب، وها هم يمارسون حقهم في الحصول على المعلومة وإتاحتها، وحقهم في التعبير عن مواقفهم دفاعا عن الوطن، مشاركين في المعركة الوطنية لدحر “داعش”. وما اكثر شبابنا الناشطين في صفحات التواصل الاجتماعي، الذين استنفروا قدراتهم العالية وتعاطيهم الايجابي مع التقنيات العصرية، متسلحين برؤية واضحة حول الحرب الالكترونية ضد الارهاب.
نعم، ليس بالحجب يمكن دحر الإرهاب الكترونيا، بل بالاستثمار في هذا المجال وتفعيله. فالإنترنت اليوم وسيلة مهمة للتأثير على الرأي العام، تتيح امكانية مخاطبة الملايين، ويمكن استخدامها خير استخدام في معركة شعبنا العراقي ضد قوى الارهاب، شرط تقديرها تقديرا خاصا، وتوفير بقية مستلزماتها.
ولكي يمكن تحقيق انتصار ساحق ونهائي على قوى الإرهاب، لا بد لاصحاب القرار من العمل على تحشيد كل القوى، والافادة من كل المجالات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية والاعلامية، الى جانب المجال العسكري. فالمعركة معركة وطنية متعددة الاصعدة، ولا تجري على صعيد واحد.