23 ديسمبر، 2024 3:24 م

الجهاد الأكبر .. في الزمن الجميل

الجهاد الأكبر .. في الزمن الجميل

أحلتُ (أنا) كاتب هذه المقالة على التقاعد مبكراً في أوائل العام 1984.. وأنا في عنفوان نضجي الفكري والجسماني والصحي.. وإنتاجي العلمي والعملي.. وكان عمري 43 سنة.. ولم تكن ليً سوى 17 سنة خدمة.. فكان راتبي التقاعدي أقل راتبي تقاعدي وما زال لحد الآن.. وبعد أشهر عينتُ مديراً للبحوث والتدريب في مركز التوثيق الإعلامي لدول الخليج العربي (وهو منظمة إعلامية إقليمية.. مركزها بغداد).. سنتان من العمل الإبداعي في هذا المركز.. انتهت بإنهاء خدماتي تحت يافطة غير حزبي ..
كان لزاماً عليً أن أجد عملاً يلاءم وضعي العلمي والاجتماعي.. فتفرغتُ للكتابة والبحث.. التي تشكل سمة بارزة في حياتي (السابقة واللاحقة والحالية).. وصدرت ليً ستة كتب هي: (عبد الكريم قاسم .. الحقيقة) و(الملك فيصل الأول) و(الأحزاب السرية والعلنية في العراق 1908 ـ 1968) و(محاولات القضاء على عبد الكريم قاسم) و(سياسة الإعلام والاتصال العربي) و(الاتجاهات الفكرية في المشرق العربي 1918 ـ 1952).. إضافة الى استمراري في الكتابة في المجلات والصحف العربية (الكويتية والأردنية واللبنانية وغيرها) ..
في العام 1987 عقدت ندوة انخفاض الإنتاجية وخطب الرئيس صدام حسين فيها.. وتضمن خطابه المقولات الأربعة عشر الشهيرة.. ومنها (من لا عمل له .. لا شرف له).. وفي صبيحة اليوم التالي ذهب جمع من المتقاعدين الى استعلامات القصر الجمهوري واستفسروا : (هل هذه المقولة تنطبق علينا ؟).. فصدر قرار جمهوري بتعين من يرغب من المتقاعدين في العمل في دوائرهم السابقة أو غيرها.. لكن المضحك إنني الوحيد الذي لم يعاد تعيني لا في وزارتي (الإعلام ولا في غيرها).. ولا أعلم سبب عدم أعادتي حتى الآن !!
في العام 1991 فرضً الحصار الاقتصادي على العراق.. فأوقف النشر في الصحف والمجلات العربية والأجنبية.. وكان لزاماً أن أجد عملاً آخر.. فبدأتُ بإقامة معارض للكتاب في الهواء الطلق في كليات: (المنصور.. والمأمون.. والتراث.. وبغداد الاقتصادية.. واللغات.. والفنون الجميلة.. وابن الهيثم.. والرافدين.. والجامعة المستنصرية.. ومعهد التاريخ العربي) على التوالي.. وفي وضع مزري لا يليق بحامل شهادة دكتوراه.. وباحث وكاتب معروف.. فكانت أصعب مرحلة مرت في حياتي ..
وفي أيلول العام 1997 لم أجد سوى تطبيق الآية الكريمة (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).. فتوكلت على الله.. ومشيتُ إلى ليبيا وحدي.. وتركتُ العائلة في بغداد.. لإكمال أبنائي دراساتهم.. وباشرتُ العمل أستاذاً جامعياً في كلية الآداب والعلوم في مدينة المرج.. التابعة لجامعة قار يونس في بنغازي.. وفي العام الثاني انتقلتُ بمرتب أفضل إلى كلية الآداب والعلوم في مدينة الرنتان في الجبل الغربي ..
وفي تموز العام 2001 عدتُ إلى بغداد لقضاء العطلة الصيفية مع أسرتي.. كعادتي كل عطلة صيفية.. لكني منعتُ من العودة إلى ليبيا.. دون أن أعرف سبب المنع.. فبقيتُ في بغداد بلا
عمل.. وكانت فرصة لإعادة النظر في مشاريعي العلمية.. وفعلاَ بدأت بالكتابة في مؤلفين ضخمين.. الأول: (شخصيات العراق الملكي 1920 ـ 1958).. والثاني : (رجالات ثورة 14 تموز 1958) ..
المهم بعد عشرة أشهر.. وفي أوائل أيار العام 2002 اتصلت بيً الهيئة العلمية للمعهد العربي العالي للدراسات التربوية والنفسية في بغداد.. وعرضت عليً منصب عميد المعهد.. فوافقتُ وباشرتُ العمل فيه.. وبعد شهرين.. ومع بداية العطلة الصيفية اتصلً بيً هاتفياً شخص قال انه : هاشم حسن المجيد (شقيق علي كيمياوي).. وكان يشغل منصب مسؤول الكليات الأهلية في مكتب بغداد لحزب البعث.. وأنذرني بترك المعهد خلال 48 ساعة من دون أن يعطي سبباً.. من جانبي اتصلتُ بالرئيس صدام حسين على هاتفه المخصص للمواطنين.. بناءً على نصيحة الهيئة العلمية للمعهد.. فردً عليً صدام شخصياً (سوف نتصل بكً).. وفي اليوم التالي كلمني مكتبه هاتفياً.. وبأسلوب هادئ (دكتور أنت كنتً في ليبيا.. وأمورك المادية جيدة.. فلا داعي تنافس ألآخرين على المناصب !!).. فقلتُ له : (أنا لم أنافس أحداً.. ولم أقدم طلباً للتعين.. بل إن اللجنة العلمية في المعهد.. التي لا أعرف أحداً منها.. هي التي عرضت عليً المنصب.. لأنه لا يوجد أكفأ مني متفرغاً).. لم يرد الطرف الآخر عليً.. وأغلق الهاتف ..
المهم : مع انتهاء أل 48 ساعة حضرت إلى المعهد حماية هاشم حسن المجيد.. وأخرجتني بالقوة من المعهد.. ليفرض العميد الجديد.. الذي تبين انه (خلف الدليمي عضو جمعية التربويين النفسيين العراقيين).. وهو لا يحمل أية شهادة عليا ..
هكذا كانت تدار الأمور : معهد عالي يقتصر على منح شهادتي (الماجستير والدكتوراه).. عميده الجديد غير حاصل لا على الماجستير.. ولا على الدكتوراه.. وليس لديه أية خبرة تربوية أو تدريسية ..
في حزيران العام 2002 انتقلنا إلى بيتنا الجديد.. ولم يمضي أسبوع حتى التقاني الصحفي إبراهيم محمد علي المسؤول عن صفحة قضايا الناس في جريدة بابل التي يصدرها (عدي صدام حسين).. ترافقه زوجته.. وتبين انه جيراننا.. فدعاني للكتابة في جريدة بابل.. فاعتذرتُ.. لكنه ظلً يلحُ للكتابة.. فلم أتحمل.. وبدون أن ادري انطلقت الكلمات من فمي وبصوت مسموع وحازم (لن أكتب لنظام ظلم شعبه وجوًعهُ).. فارتعدا من كلامي.. واصفرً وجهيهما.. وهربا بسرعة من أمامي!!.. ولم ألتقيه أو أشاهدهُ حتى سقوط نظام صدام.. على الرغم من إن بيته في نفس شارعنا.. ولا يبعد عن بيتي سوى 50 متراً ..
بعد سقوط نظام صدام.. أستبدل الكثير جلودهم.. وتحولوا من رفاق الى سادة.. وغيروا ألقابهم وأسماء عشائرهم.. وبعضهم غير حتى اسمه.. وساروا في الطريق الجديد أبطالاً في التحرير..
ملاحظة : المضحك : بعد العام 2003 .. وحتى اليوم لم أعاد أنا الى وظيفتي.. على الرغم من إنني كنتُ متضرراً وفق قانون السجناء السياسيين النافذ حالياً.. كما لم تحسب ليً مدة سجني السياسي (ثلاث سنوات وسبعة أشهر 1962 ـ 1965) لأغراض التقاعد.. فيما عينً من لم يكن معارضاً للنظام.. واحتسبت لآخرين سنين فصل وسجن وهمية.. (هكذا هي الدنيا في
العراق .. سواء في عهد صدام.. أم في عهد الاحتلال .. أم في عهد السيادة.. والعملية السياسية) .. وتريدون يبنى العراق ونتقدم !!