22 ديسمبر، 2024 2:14 م

الجندي الخارق بطل المستقبل القريب

الجندي الخارق بطل المستقبل القريب

يستمتع الكبار والصغار بمشاهدة أفلام سوبرمان والأبطال الخارقة لما تبعثه من شعور بالقوة والإنتشاء لوجود إنسان يقهر قواعد الطبيعة وحدود القدرات البشرية؛ بسبب تحوُّله لمخلوق ذو قدرات خارقة بفضل تعرضه لعوامل خارجية لم يختارها، مثل سبايدر مان، أو بفعل دمجه بتكنولوجيا متطورة، مثل الرجل الحديدي وباتمان، وكل هؤلاء يحاولون أن يصلوا لنموذج الرجل الخارق سوبرمان الذي أتى من كوكب بعيد. وعلى العكس، في أفلام أخرى تنتمي لفئة الخيال العلمي عند زرع أجزاء ميكانيكية وتكنولوجيا متطورة في أي بشري يتحول إلى شبه آلة، أو ما يسمى بالسايبورج Cyborg. وفي جميع الأحوال، فيما خلا حالات نادرة، يتحول السايبورج لشرير قاسي مهمته القتل والدمار. وحينها يتحول الشعور بالشغف والفخر الذي يتولد لدى المشاهد، إلى شعور بالمقت والرفض؛ لأن تلك النماذج في الأفلام الهوليودية تقدَّم بصورة سلبية، فغالبًا، يظهرن كائنات تسعى للدمار وإلحاق الضرر بالبشر المسالمين.
وكل ما قيل سالفًا من المسلَّم كونه نسج خيال المؤلف وهدفه انتاج فيلم خيال علمي يفعمه التشويق والإثارة. لكن المفاجأة الغير متوقعة أن كل ما نراه على شاشات هوليووود هو مجرد إنعكاس أو بالأحرى تسريبات عن تجارب علمية لمشروعات حقيقية تسعى لابتكار تكنولوجيا لتعزيز قدرات البشر من أجل تحويلهم لآدميين ذوي قدرات خارقة. وتنتمي تلك المشروعات لمؤسسات عسكريىة تهدف إلى توظيف الخوارق من الآدميين في ميدان الحرب من أجل الفتك بالأعداء. ومن الجدير بالذكر، أن الحروب والاستعداد لها بمعدات وأسلحة كانت دومًا أسرع الوسائل لتحديث التكنولوجيات التي ينعم بها الفرد العادي بالرغم من أن هدفها الأساسي كان الاستخدام لأغراض عسكرية. مما يعني أن أي تطوُّر يلحق بالمؤسسات العسكرية مصيره النزول للعامة. وفي الوقت الحالي، يعكف علماء تطوير التكنولوجيات العسكرية لاستحداث جندي أسرع وأقوى وأذكى من نظراءه في ساحة الحرب، وقادر على المواجهة والفتك بأعداءه بكل شراسة.
التقرير العسكري الذي صرحت به المملكة المتحدة عام 2013 عن شكل الجندي البريطاني بحلول عام 2045 كان بمثابة ضربًا من ضروب الخيال أو أحلام اليقظة؛ حيث صرح لمسئول أن الجندي البريطاني في المستقبل لسوف يكون أذكى ويتمتع بقدرة بدنية فائقة تمكِّنه أن يحمل أوزان ثقيلة جدًا ويتمتع برؤية واضحة سواء في الضوء أو آناء الليل؛ بفعل تعزيز قدرة الإبصار لديه بالأشعة الفوق حمراء، أما التواصل مع زملاءه فلسوف يكون دون أن ينبس ببنت شفة؛ لأن التخاطر Telepathy لسوف يكون طريقة الاتصال.
وفي عام 2014، أزيح النقاب عن الشروع في أخذ خطوات عملية لتنفيذ مشروع الجندي الخارق عندما صرح الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما عن مبادرة جديدة للتفوق الحربي، وذكر مؤكدًا أن الهدف الرئيسي من خطابه الإعلامي هو الإعلان أن الولايات المتحدة بصدد بناء “الرجل الحديدي”، مشيرًا بذلك للبطل بفيلم “الرجل الحديدي”. ثم أدلى أن الجيش الأمريكي بالفعل شرع في التنفيذ باستحداثه بدلة واقية أطلق عليها اسم “البدلة الخفيفة لتشغيل الهجوم التكتيكي Tactical Assault Light Operator Suit والتي يشار لها بالاسم المختصر “تالوس” TALOS. وللتدليل على صدق المشروع قام بعرض فيلم ترويجي قصير يظهر فيه جندي مرتديًا البدلة فيقتحم زنزانة معادية، غير آبه بما يُطلَق عليه من طلقات الرصاص. وكما يظهر في ألعاب الفيديو، يبدو أن هذا الجندي لا يُقْهَر؛ فالرصاص يرتد عن البدلة وهو يكمل مسيرته دون توقُّف.
وأما العلماء المهتمين بتكنولوجيات المجال العسكري لا ينصب اهتمامهم على صنع بدلة واقية للرصاص فقط، بل تعزز من حركة الجندي وقدراته الجسدية في ساحة القتال؛ بحيث يصبح قادرًا على القيام بحركات خارقة؛ فالبدلة التي هي عبارة عن هيكل خارجي مزودة بقدرات تجعل الجندي يقوم بأفعال تشابه ما يقوم به “الرجل الحديدي” في الفيلم من قفز وجري وحمل أثقال. والبدلة التي تم تصنيعها تزن نحو 23 كيلو جرامًا، مما يضع عبءًا على الجندي الذي يحمل بالفعل معدات وأسلحة يصل وزنها إلى 50 كيلو جرامًا، لكن الوزن حتى الآن ليس بالمشكلة الضخمة التي من شأنها تقويض المشروع؛ لأن العلماء بالفعل عاكفون على استحداث تكنولوجيات لتخطي تلك العقبة.
بيد أن استحداث رجل حديدي لا يقتصر فقط على تصنيع هيكل خارجي، بل أن الجندي ذاته سوف يتم زراعة قطع ألكترونية به، مما أثار آراء تؤكد على وجوب مراعاة الاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية والقانونية لهذا المشروع الذي يسعى لاستحداث ما يسميه ب”الجندي المعزز” Enhanced Soldier . فهناك بعض الدول لا تحترم الاعتبارات الأخلاقية وتسعى لتعديل الجندي جينيًا بالإضافة إلى الجانب التكنولوجي حتى يصير خارقًا للطبيعة حتى مع عدم ارتداءه للبدلة الواقية “تالوس”. والتعديلات التي سوف يتمتع بها “الجندي المُعَزَز” تضمن تحسين قدراته البصرية؛ ليصل لأبعاد تليسكوبية، مع تزويده بقدرة تصوير المواقع، وتحديد الاحداثيات. ولسوف تساعده البدلة برمجة وضبط عضلاته، وكذلك استعادتها لنشاطها وحيويتها؛ أي أن القدرات العضلية له لسوف تشابه وقدرات جنود ألعاب الفيديو من ركض وقفز دون الإصابة بالإجهاد أبدًا. ولاستكمال القدرات الخارقة، لسوف يتم تعزيز سمع الجندي لتحسين قدراته على الاتصال بالزملاء والقادة، وكذلك ضمان حمايته من أي عدو في محيطة؛ بسماع همسه وتحرُّكاته. ومع كل هذا، سوف يتم تعديل الجينات العصبية بالتعديل المباشر للجهاز العصبي، حتى ينقل الجندي ما يتوافر لديه من بيانات للقيادات، أو لتلقى بيانات أو تعليمات جديدة. وباختصار شديد، سوف يصبح الجندي المعزز بمثابة وحدة متكاملة تنطوي على قدرات عضلية واستخباراتية ومعلوماتية خارقة. ومن ثمَّ، يتحول الجندي ليس فقط لنموذج “كابتن أمريكا” Captain America، بل سايبورج Cyborg معزز القدرات.
وفي الثالث من سبتمبر 2020 حذر رئيس المخابرات الأمريكي السابق “جون رادكليف” John Radcliff في مقال كتبه في صحيفة الوول ستريت Wall Street Journal أن الصين في الوقت الحالي تسعى لاستحداث جيش من الجنود المعززين، مما يشكل خطرًا على الولايات المتحدة. لكن الصين ردت عليه متهمة إياه بترويج مجموعة من الأكاذيب لتشويه صورة الصين وتوكيد شيطنتها، بالرغم من أن في 2019 عام قامت المخابرات الأمريكية بتجميع تصريحات وأنشطة علماء الصين والتي أكدت أن الصين دؤوبة في تطوير جبش من الخوارق على مستويات عدة.
إلا أن ذاك الخطر الداهم لا يتسابق في تطويره الولايات المتحدة والصين فقط، بل هناك أيضًا أيضًا روسيا، وأخيرًا انضمت فرنسا لذاك المعسكر بعد إعطاءها الضوء الأخضر. وإلا أن الأمر لم يقتصر على فرنسا فقط؛ لأن هناك دول أخرى تفكِّر مليًا في الاستثمار في تلك التكنولوجيا المدمرة. ورصدت لتطويرها مليارات الدولارات. ولقد أعرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن قلقه من هذه التكنولوجيا ووصفها بأنها “أخطر على البشر من القنبلة النووية.” لكن، لا يمنعه القلق من المضي قدمًا في هذا المشروع، بل وقيل أنه قام بتجريب نموذجًا منه في سوريا. ومن أعتى الجوانب السلبية في هذا المشروع أن الدول التي لا تراعي الاعتبارات الأخلاقية – على غرار الصين وروسيا- وتقوم بتعديل أو زرع جينات في كتائب جنودها، لا تتحسب الآثار المناوئة لذلك على المدى البعيد أو الطفرات الجينية التي قد تنجم من تهجين جينات معدَّلة وراثيًا في جسد الجنود. وبهذا، الاحتمال القائم هو تحوَّل الجندي الخارق إلى سايبورج شرير متعطش للدمار، تمامًا كما في أفلام الخيال العلمي.
وفي هذا السياق، في حديث ألقته وزيرة الدفاع الفرنسية فلونس بارلي Florence Parly في مستهل ديسمبر 2020 ونقلته لها شبكة البيبي سي شددت على أهمية التطلع للمستقبل والتماشي مع متغيراته، لكن دون المساس بالجينات أو خرق الضوابط الأخلاقية. وفي كلمتها أكدت أنه ليس لفرنسا خطط فورية لتطوير تكنولوجيا الجنود الكاسحة. لكنها ألحت على وجوب مجابهة التغييرات الناشئة بالاستعداد لما يخبئه المستقبل من مفاجآت. وأطر الاستعداد تكون من خلال إثبات التفوق الفرنسي في هذا المجال، دون المساس بالتركيب البيولوجي المتعارف عليه.
يَعِد الخبراء العسكريين أن تطبيق نظام الجندي الخارق عمليًا سوف يرى النور بحلول عام 2050، مما يُنبِيء بحدوث تغيير جذري في ساحة القتال. فلسوف يتلاشى الخوف من الحروب بسبب ما قد يلحق بالدول من خسائر مادية وبشرية، ويحل محله إقبال متزايد على القتال وحل أتفه المشكلات بشن حروب طاحنة. وأما الخوف الأعظم فيتمثل في اختلال موازيين القوى بامتلاك بعض الدول للجيوش الخارقة، في حين أن أخرى لا تمتلك حتى تكنولوجيات عسكرية متطورة.
مستقبل البشرية بات يهدده التسارع في التطور التكنولوجي. الحكمة والاعتبارات الأخلاقية والاستخدام الرشيد للقوى المريعة التي سوف يمتلكها البشر يجب أن تصير من أولى الأولويات التي يجب التشديد عليها ووضعها نصب الأعين، وإلا لسوف تنشب حروب في كل دقيقة، وتنمحي دول بأكملها من على الخارطة بكل سهولة. والخطر الأكبر يكمن في إمكانية تسرُّب تلك التكنولوجيات بكل سهولة من أروقة المعامل العسكرية لتصل للبشر العادي. وحينئذِ، قد يحدث ما لا يحمد عقباه عند وقوعها في أيدي رجال العصابات، الذين لن يتورعوا في استحداث تشكيلات عصابية من السايبورج، فيقتلون الأبرياء ويدمرون الأحياء والمدن بكل ضراوة. ودون شك، لسوف يكون هناك ردود أفعال مناوئة لدرء تلك الهجمات. وعلى هذا الحال، سوف تطوي القوانين والضوابط الأخلاقية غياهب النسيان. وبدلًا من توظيف التكنولوجيا لخدمة البشرية ودرء العدوان، لسوف تعمل التكنولوجيا على تدمير البشرية.