18 ديسمبر، 2024 6:05 م

الجزائر.. تناقض دولة الزعيم الأوحد مع الديمقراطية

الجزائر.. تناقض دولة الزعيم الأوحد مع الديمقراطية

إدراك الأسباب التي تكمن وراء استحواذ رئيس الجمهورية في الجزائر في مرحلة الاستقلال على جميع مفاصل الحياة السياسية والتنفيذية والقضائية، يتطلب إبراز وتحليل المضمون الكلي للذهنية الجزائرية.

في ظرف شهر واحد أصيبت الدبلوماسية الجزائرية بانتكاسة أخرى رغم محاولات السلطات في الهرم الأعلى للدولة التستر عليها وتغطيتها بمبررات واهية. تتمثل هذه الانتكاسة في إلغاء زيارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للجزائر منذ أقل من شهر بدعوى أن الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة فاجأته وعكة صحية لم تكن في الحسبان. وبالفعل فقد تمكن النظام الجزائري من تسويق هذا المبرر للرأي الجزائري، علما أن عددا من الأحزاب المعارضة قد دعت بهذه المناسبة، ومرة أخرى، إلى تفعيل المادة 88 من الدستور التي تنص بوضوح على أنه “إذا استحال على رئيس الجمهورية أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن يجتمع المجلس الدستوري وجوبا، وبعد أن يثبت من حقيقة هذا المانع بكل الوسائل الملائمة، يقترح بالإجماع على البرلمان التصريح بثبوت المانع”، وبعد انقضاء خمسة وأربعين يوما، يعلن عن الشغور بالاستقالة وجوبا”. ولكن نداءات المعارضة وضعت في الثلاجة مما أدى إلى عدم تفعيل البند المذكور أعلاه.

بعد أيام قليلة من إلغاء زيارة المستشارة أنجيلا ميركل، ألغيت أو أجلت زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني للجزائر، وقدم النظام الجزائري نفس مبرراته القديمة – الجديدة، ولكنها لم تثر أي غبار في الساحة السياسية الجزائرية، والسبب في ذلك هو أن هذه الجهات على تنوعها تدرك تماما أنها لا تملك القدرة التي تمكنها من حمل النظام الجزائري، الذي لا تهمه النداءات ولا يقيم وزنا لبنود الدستور الذي ولد وشاخ على يديه، على أن يغير سلوكه.

ولذلك يبقى النظام الرئاسي الجزائري وحيد زمانه بين الأنظمة الرئاسية التي تعرفها الدول الديمقراطية العريقة والفتية في عالمنا المعاصر، حيث يوجد نائب لرئيس الدولة ينوب عنه ويمارس مهامه في حالة المرض أو في حالة انشغال رئيس الدولة بأمور أخرى فرضتها عليه ظروف قاهرة.

إن تكرار إلغاء الرئيس الجزائري لزيارات رؤساء وزعماء الدول، فضلا عن غيابه عن المحافل الدولية، وعدم ممارسته لأي نشاط عملي في مختلف محافظات الوطن لمدة طويلة، مظاهر تدخل في إطار تجميد العمل السياسي الجزائري والإطاحة بهيبة الدولة.

ومن الغريب أن النظام الجزائري لم يحاول حتى تكليف رئيس مجلس الأمة باستقبال الرؤساء رسميا لحفظ ماء الوجه، طالما أن الدستور يمنحه حق تولي مهام رئيس الدولة (في حالة وفاته) لمدة لا تقل عن ستين يوما، علما أن غياب الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة المستمر ولأكثر من عامين عن نشاطه اليومي جراء المرض المزمن، يمكن أن يدرج ضمن إطار الموت الرمزي المؤقت.

وهكذا نفهم أن سيطرة رئيس الدولة الجزائري على كل صغيرة وكبيرة، بما في ذلك التحكم المطلق في زيارات الرؤساء والزعماء، يعني أن الجزائر ليست دولة المؤسسات التي تسيّر جماعيا من طرف القيادة بكل ممثليها في الهرم الأعلى للنظام الحاكم.

هذا السلوك المكرس للحكم الفردي المطلق ليس أمرا طارئا على الحياة السياسية الجزائرية، بل له مرجعيات في عمق البنية الكلية للمجتمع الجزائري وثقافته. وفي الواقع فإن تركيبة النظام الجزائري كثيرة التعقيد، وهي تعيد إنتاج نفسها على نفس المنوال منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، ومن المشكلات الكبرى التي تنتج عنها دائما مشكلة الأحادية الرئاسية في الجزائر التي تتسبب في نفي الشعار المرفوع بلامركزية الدولة في مجالي صنع القرارات وتنفيذها معا.

لا شك أن إدراك الأسباب التي تكمن وراء استحواذ رئيس الجمهورية في الجزائر في مرحلة الاستقلال على جميع مفاصل الحياة السياسية والتنفيذية والقضائية، يتطلب إبراز وتحليل المضمون الكلي للذهنية الجزائرية وكذلك بنية المجتمع الجزائري.

تاريخيا لم تعرف الجزائر إلا نادرا شكل الدولة بمعناها الحديث، لأن الحكم المركزي فيها، طوال فترات الاحتلال التي دامت قرونا من الزمان، كان بين أيدي المحتلين، أما في مرحلة الاحتلال الفرنسي فقد كان هناك الحكم المركزي الاستعماري، وفي الأطراف هناك إمارات جهوية يقودها الأمراء وهي مجرد حالة طرفية.

على ضوء هذه الخلفية فإن السيطرة الغارقة في الفردية للرؤساء الجزائريين في مرحلة الاستقلال على مفاصل الحكم، بما في ذلك السيطرة التي يمارسها الرئيس بوتفليقة، ليست سوى إعادة إنتاج لنموذج السيطرة التي تميزت بها مراحل الحكم الاستعماري، ولهيمنة الأمراء ورؤساء العشائر على المناطق التي كانوا يتحكمون فيها.

هذه المرجعيات هي التي أفرزت في الجزائر ظاهرة الحكم العسكري حينا، وآفة حكم الحزب الواحد حينا آخر، والتعددية الحزبية الشكلية والفضفاضة والمفرغة من أي محتوى ديمقراطي طورا آخر.

نقلا عن العرب