18 ديسمبر، 2024 9:33 م

الجذور التاريخية لظاهرة  الفساد الإداري والمالي

الجذور التاريخية لظاهرة  الفساد الإداري والمالي

لم يكن هناك تاريخ محدد لنشوء ظاهرة الفساد الإداري لكن عموم الباحثين يتفقون على أنها نشأت مع بداية الخليقة وممارسة الإنسان لحياته وسلوكياته  وتفاعله مع مجتمعه .وقد ورد في كتب البحث والتاريخ الإنساني إن الأقوام الأولى التي استوطنت ارض العراق والتي تؤكد الشواهد التاريخية أنها أولى الحضارات في العالم التي عرفت ظاهرة الفساد الإداري ,إذ وجدت في قوانين( أوروك وارنمو) في الألواح السومرية ومحاضر جلسات مجلس( اراك) كما يسميها الباحثون في التاريخ القديم.
كما تبين المحكمة الملكية بموجب الوثائق التي عثر عليها المعنيون في الإلف الثالث للميلاد ,أنها كانت تنظر في قضايا الفساد على سبيل المثال للحصر, مثل ,استغلال النفوذ في الوظيفة العامة ,وقبول الرشوة, وإنكارالعدالة, وقد وصلت بعض قرارات الحكم لبعض الجرائم حد الإعدام.
ونجد حمورابي ملك بابل الذي وسع المملكة وصاحب أقدم التشريعات القانونية التي اشتهرت في التاريخ(بمسلة حمو رابي) قد أشار في المادة السادسة من شريعته إلى جريمة( الرشوة) حيث شدد على إحضار طالب الرشوة إمامه ليقاضيه بنفسه وتوليت أمر عقابه بنفسه.
كما نلاحظ أيضا في مدونات وادي النيل إن لمصر الفرعونية إشارات ووصايا في تنظيم الإدارة والعلاقات السليمة في الحكم والدولة ,فضلا عن دراسة الفكر السياسي  الصيني وما قذفته الديانة الكونفوشيوسية ,والتي شخصت ظاهرة الفساد الإداري في الحكم وأسباب ذلك في الأسر وإغفال الأشخاص تقويم أنفسهم.
رغم كل هذا إلا أن الفساد وجد في المدن اليونانية المرتع الذي يقتات منه، لهذا عمد كثير من الحكماء والفلاسفة اليونانيين لتشخيص هذه الآفة ومكافحتها فهذا (سؤلون) في تشريعاته التي أطلق عليها (قانون أتياك) وضع قواعد لإرشاد موظفي الدولة وضبط عملهم الإداري، وسعى لإدخال المثل العليا للمساواة الاجتماعية في بلاد مزقتها نزاعات الأغنياء والفقراء.
وبعد سؤلون جاء أفلاطون والذي تطرق في كتابه(الجمهورية) لظاهرة الفساد، من خلال مناقشته لمشكلة العدالة الفردية والجماعية، حيث أشار أن اللجوء إلى العدالة يستبعد مسألة المنفعة أوالمصلحة والتي هي أساس ظهور الفساد.
كما أن من خلال معالجته لصيرورة السياسة للحكومات والتي هي في نظره صيرورة حتمية ودقيقة يرى أن الحكومة تنتقل من (الارستقراطية)إلى (التيوقراطية) ثم (الاوليفارشية) ف:
(الديمقراطية) لكي تنتهي (بالاستبدادية)، يحدد ويتهم (التيوقراطية) بأنها تستغل الفرصة لتقاسم الثروات واضطهاد من كلفوا بحمايتها، وفي ذلك تشخيص ضمني لظاهرة الفساد في ذلك الوقت. كما انه  حارب الفساد الإداري والديني وحث على الوحدة الأخلاقية ,وسعى إلى الحد من الفساد الاقتصادي والإداري ,على انه لم يسمح للملاك بزيادة أموالهم إلا ضمن حد معين,وإقراره إنشاء هيئة موظفين وكان واجبها مراقبة تصرفات المواطنين.
أما على صعيد كتابه (القوانين) فإن أفلاطون يحارب الفساد في جميع صوره فهو يحارب الفسادالديني ويحث على الوحدة الأخلاقية لمدينته.ونراه أيضا يحاول الحد من الفساد الاقتصادي والإداري بحيث لم يسمح للملاك بزيادة أموالهم إلاضمن حد معين، وعزل المدينة عن البحر لتفادي تعاطي التجارة وإقرار إنشاء هيئة موظفين واجبهامراقبة تصرفات المواطن.
أما إذا انتقلنا إلى الفيلسوف أرسطو فسنجد أن هذا الأخير قد شخص واهتم بالفساد السياسي من خلال تصنيفه للدساتير وذلك في كتابه(الأخلاقيات) حيث لخص العوامل التي تحافظ على الحواضر(المدن) والعوامل الأخرى التي تدمرها.فهو من خلال معالجته يصنف المدينة التي يغريها هدف فاسد بأنها مدينة فاسدة بل قد تفشل في أن تكون دولة على الإطلاق، في حين يرى أن الدولة الصالحة هي التي لا تكتفي بطلب الخير لها فحسب بل تطلب الخير العام، ويحدد ذلك بأن الحكم السليم لا يقوم على مجرد طلب الخير ما لم يكن الخير عاما ومشتركا بين جميع المواطنين.
إن أرسطو لم يكن مؤمنا بالحكم المطلق مهما كانت صفة الحاكم حتى ولو كان فيلسوفا، لذا نراه يشخص ظاهرة الفساد عند ذكره أنواع للحكم ثلاثة تتضمنها الدساتير بحسب عدد الحكام والتي لكل منها شكله الفاسد ، على أن الضابط لديه الذي يفرق بين الصالح والفاسد هو أن الدساتير الصالحة تمارس الحكم .في الصين القديمة كان الموظفون يمنحون علاوة يطلق عليها (يانغ لين) وتعني: تعضيد محاربة الفساد، وبالرجوع إلى الفكر السياسي لدى(كونفوشيوس) نرى بأنه قد شخص ظاهرة الفساد في كتابه(التعليم الأكبر) حيث أرجع أسباب الحروب إلى فساد الحكم والذي مرده إلى فساد الأسر وإغفال الأشخاص تقويم أنفسهم، أما في كتابه( العقيدة الوسط) فهو يرى أن الحكم لا يصلح إلا بالأشخاص الصالحين والوزارة الصالحة التي توزع الثروة بين الناس على أوسع نطاق، و يشير إلى أخطارالفساد عندما يتطرق إلى القول أن تركيز الثروة يؤدي التي تشتت الشعبوفي العهود المسيحية ,نجد إن معظم الباحثين والمختصين ,يؤكدون معالجتهم لظاهرة الفساد, كما وردت في نصوص الكتاب المقدس ولاسيما في رسالة بولس الرسول الأول إلى أهل الكهف التي تورد ما نصه(لاتظلوا:المعاشرة السيئة تفسد الأخلاق الحسنه) وفيه دلالة واضحة على اهتمام  السيد المسيح عليه السلام بالخلق القويم الذي يؤدي إلى تكوين مجتمع خالي من الظلاله والعشرة السيئة التي تنجم عنها كثرة المفاسد.حسب المفهوم اليهودي يتضمن العنصرية والتعصب وعدم مراعاة مشاعر الآخرينوالتطرف لآراء معينة: “ويل للأمة الخاطئة، الشعب المثقل بالإثم، ذرية مرتكبي الشر أبناء الفساد.كما يجب الإشارة إلى أن النظام الإسلامي رسخ الأسس والقواعد السليمة التي تقوم عليها سلطةا لحكم في الدولة الإسلامية، ومن أهم المبادئ التي أكد عليها الإسلام، الالتزام بالشورى وبالعدل وبالطاعة للحاكم ونصرته. كما استخدم الإسلام مختلف الوسائل الوقائية والردعية لمنع الانحراف والفساد، كما ركز على القيم الروحية لعظم دورها في ترشيد سلوك الإنسان وتهذيبه وضبطه، الأمر الذي يؤدي إلى التقليل والحد من الفساد، و من أهم الوسائل التي ابتدعها الإسلام لمكافحة الفساد بمختلف صوره هي :1- تولية قيادات إدارية كفئة وأمينة.2- اعتماد القيم والمبادئ السامية والأخلاق الكريمة كأساس للعمل الذي يقوم على الكفاءة والجودة.3-تأصيل القيم الإسلامية النبيلة لدى الموظفين.4- اعتماد مبدأ الرقابة من خلال نظام الحسبة (الرقابة المالية على الإدارة ورغم أن البحوث العلمية لم تتوسع في مناقشة الممارسات الفاسدة في العهد النبوي، إلا أن التاريخ يسجل شيئا من ذلك: مثل فساد بعض الولاة في عهد النبوة.وقد عالج الإسلام على وفق منهج الشريعة الإسلامية التي وردت في محكم الكتاب المبين وألسنه النبوية المطهرة موضوع الفساد .فقد أكدت ألسنه النبوية المطهرة اقتلاع الفساد من جذوره ونرى إن الأحاديث النبوية الشريفة حافلة بمثل هذه المضامين الواضحة ومنها قوله( ص))(لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم)(وان أكل السحت حرام مثوى صاحبه النار) و (كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به) وفي العصور الأخرى التي تلت صدر الإسلام ترى إن ظاهرة الفساد الإداري اتسعت وانتشرت وخصوصا في العصر الأموي عندما كان المال يبذل وينفق على شراء الذمم وتلين الجماعات والفرق المعارضة لضمان ولائها للحكم الأموي .كذلك تجلت هذه الظاهرة في العصر العباسي حين استحوذت على عقول خطباء المتطلعين إلى المناصب والتقرب إلى قصور الأمراء والرؤساء لشراهة المال والوساطة, ويبدو إن الفساد في هذا الأمر قد بلغ حدا كبيرا للوصول إلى المراكز الوظيفية وأدت إلى حدوث موجه من الاضطرابات الإدارية والاقتصادية, وهو أمر يزيد حالة ألدوله سوءا ويستشري الفساد وتتفشى الرشوة وتزداد المظالم.كما تحدث العلامة ابن خلدون  عن ” الجاه المفيد للمال”وكأنه يحلل واقعنا العربي المعاصر، إذ يرى أن المال تابع للجاه والسلطة وليس العكس، كما تكلم عن الأحوال الكثيرة التي تختلط فيها التجارة بالإمارة، إذ يكتسب البعض من خلال المنصب والنفوذ الإداري في أعلى مراتب جهاز الدولة أوضاعا تسمح لهم بالحصول على المغانم المالية وتكوين الثروات السريعة وتكون عادة بمثابة ريع المنصب ولقد عالج ذلك من خلال تخصيص فصلا كاملا لذلك تحت عنوان:”في أن( التجارة من السلطان مضرة بالرعايا مفسدة للجباية)كذلك انتشرت ظاهرة الفساد الإداري في الدول الأوربية في العصور المتقدمة والوسطى فمثلا في انكلترا في زمن الملوك وأبان حكم ملوك استجورت في عام 1660 انتشرت هذه الظاهرة واستخدمت آليتها لشراء أصوات البرلمانين والتأثير عليهم وكسب ولائهم من قبل الملك أو المعارضة ليحقق كل طرف غايته من المكاسب ,واستمر هذا الأسلوب لمراحل متاخره من القرن التاسع عشر, وتشير العديد من المصادر إن الفساد كان منتشرا في انكلترا وايرلندا ,حتى أصبح مظهر شراء المناصب معروفا آنذاك ,لاسيما في الجيش والبرلمان من قبل المتنفذين وأصحاب الأراضي ,الأمر الذي اثار حفيظة كثير من رجال المجتمع الانكليزي ومهاجمتهم لأساليب الفساد.كذلك انتشرت مشكلة الفساد في الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة للتطور السريع والمجتمع المتحرك الذي يركز على الفردية في النجاح المادي ويكفي الإشارة إلى ذلك مثلا( في الاستيلاء على الأراضي وبروز فئة من الصناعيين ومهندسي السكك الحديد وكلها استخدمت الفساد لتمرير مصالحها فضلا عن تمرير أعضاء الكونجرس لمصالحهم الخاصة عن طريق المنفذ الشرعي ,ولاشك إن تاريخ الولايات المتحدة اللاحق قد شهد كثيرا من حالات الفساد.

المصادر:
  (صمونيل كريمر ,من الواح سومر, ترجمة طه باقر)
(باقر.11:1975)مصدر سابق
  ابراهيم عبد الكريم الغازي ,تاريخ القانون في وادي الرافدين والدولة الرومانية)
 (-عماد صلاح عبد الرزاق الشيخ داود,2003,منشوررات اتحاد الكتاب العرب دمشق2003:16
 -) عماد صلاح عبد الرزاق الشیخ داود، مرجع سابق، ص 10 وأنظر كذلك: جیروم غیث، أفلاطون جدلیة الفساد والص المثل والمشاركة جدلیة الإصلاح والحریة والوحدة، منشورات الجامعة اللبنانیة ، بیروت، 1982 ، ص 18
عبد الكریم بن سعد إبراھیم الخثران، مرجع سابق، ص 2حان نوشار.31:1981) حان نوشار,1981,تاريخ الفكر السياسي,ترجمة علي مقلد ,بيروت  2 (parshas shoftim4- (سفر أشعياء، الأنبياء
– عبیر مصلح، النزاھة والشفافیة والمساءلة في مواجھة الفساد، الائتلاف من أجل النزاھة و المساءلة، (أمان ) القدس، فلسطین، 2007ص 52  نواف سالم كنعان،” الفساد الإداري والمالي ،أسبابھ، آثاره، وسائل مكافحتھ”، مجلة الشریعة والقانون، جامعة الإمارات العربیة ، ص.ص. 93.92 ، عبد الله أحمد فروان،” تطبیقات الإدارة الإسلامیة في مكافحة الفساد”، المؤتمر ، المتحدة، كلیة القانون، <2008العدد 33العربي الدولي لمكافحة الفساد ، أكادیمیة نایف العربیة للعلوم الأمنیة، مركز الدراسات والبحوث، الریاض، 2003 ، ص. 2 وما بعدھا
 (الجوفي.15:2009ا ) – الجوفي ,عادل جابر,2009,الفساد الاداري وتطبيقاته في العراق,مكتبة دار الفكر للنشر,العراق
 الحسيني..6:1997). – الحسيني ,قصي,1997,الفساد والسلطه,بيروت.