القتل والغدر ليس جديداً على الناصرية، مدينة الشعراء والأدباء والفقراء، والعُرفاء والمُعْدَمين والمعدومين والعلماء والشهداء، والجديد عليها أن يُقتل أهلها في عقر دارهم، وتعودوا الموت في ساحات الكرامة والشرف، ومقارعة الظلم والدكتاتورية.
في الناصرية للحوت سجن، وحيتان الفساد تسبح في دمائهم كبقية العراق، وفيها يقتل الأبرياء على موائد الغداء، و]الإرهابون في صالات التبريد وأجود الطعام.
في الناصرية سكت الكلام، وتكلم الجلاد والإرهاب، وأختلط دم الأطفال والنساء بالكباب، وصاح صوت ناعٍ على أجساد مرملة بترابها، توضح صورة كيف إنهمرت عليهم رياح الغدر بوابل أسود السحاب، في الناصرية طفل يحتضن أباه وأم تحمي الأطفال بجسدها، وشيخ اوقفت لقمته رصاصة جبانة.
وطني بحاجة الى وطني، وطني تُمزق جسده الأفاعي والذئاب والكلاب، وطني تداهمه المنايا والنوايا والخطاب، وطني مهدد بنهر ثالث للدماء ومخلفات صراع فاسدين وطامعين وحاقدين وخراب، وطني تقطعه المفخخات والمظللات والحِراب، وطني بلا وطني حفته تراب، وطني ابو الأيتام والأرامل والعاطلين من الشباب، وأجساده المقطعة تحاكي مآسي الماضي والحاضر والسراب، وطني حكمه النواب والنوام والناهبون والعصابات وأرباب السوابق والشذاذ، وطني ذبيح جزار داخلي ومن خارج الحدود.
مأساة ذي قار واحدة من بين آلاف الشواهد والقصص والمآسي، تتحدث عن إهمال المسؤول وسوء التخطيط وكم الحقد الدفين، تتحدث عن ما مضى وما سيأتي وما يؤل نتائج صراع الفاسدين والإرهابين والعصابات، مأساة الناصرية تعيد لنا التاريخ وكيف تحولت الزقورة الى بيت صفيح وخراب، وكيف مماليك الجهات الأربعة الى شعب لا يملك ما تحت قدميه، تسألنا عن التاريخ والقانون والحضارة، وماذا فعلنا بأول موطن للإنسان وبقعة من إشراقة شمس الى نيران تحمل أجساداً مقطعة، ودُخاناً يرسم لوحة سوداء خطها الإرهاب.
إن الوقوف عند الناصرية، جدلية التاريخ ومفاصل الإنعطاف بين الفضيلة والرذيلة، ودماؤنا على أطباق غذائنا يتناولها الغرباء والحقراء، وسماؤنا داكنة من تطاير أجساد بسياسات رعناء وعصابات هوجاء، وسَلَمنا السارقون الى قاتلينا، في لحظة نشوة بطون ملؤها السحت، وما عاد للمذاهب والوطن وجود بين رغباتهم، وهم يتقاسمون الأدوار هدماً بجدران بيوتنا، وينشدون معنا نشيد جنائزنا المرتلة لحن الخيبة والعزاء، وعذرهم أقبح فعل كنثر الأجساد على الطرقات، ومعاولهم تُقطّع أصل الوطن، وما عادت الصرخات تحرك قلوبكم السوداء، ووجوهم المغطاة بمساحيق التجميل وأنتم تنافسون العاهرات في الليالي الحمراء، وتتقاسمون وتبيعون وتباعون في الحانات الظلماء، وها انتم كالوحوش تنهشون خزينة الدولة وقوت المواطن ثم حياته.
لم يتكفوا بسرقة الناصرية والجنوب، وحتى الموائد في الطرق الخارجية لم ترتضوا أن يتناولها الجياع، ففضلتم لهم الموت من لحظة راحة وإستراحة.
القتل لا يغيض الناصرية، ولن يوقف عزيمة أبنائها وحبهم للوطن، ولكنهم يتحدثون من عمق التاريخ ولا أحد يسمع، وأنتم ضعفاء لا تفكرون ببناء حاضر على ماضٍ، والناصريون يسمعون الوطن يستغيث فلا يُغاث، ويحترق ولا من يطفيء، وأنكشفت إحاديثكم ووعودكم وجبنكم، وإرتفعت الدماء الى السماء تشتكي الى بارئها وتقول مظلوميتها، وسيتذكركم التاريخ في صفحاته السوداء، لأن فسادكم وصراعاتكم ومصالحكم هي من جلب الإرهاب، بل لو أن أحدكم حصل على دينار زيادة لباع غنائمه الى الإرهاب والعصابات، أن لم تكونوا أنتم الإرهاب والعصابة، لكنها الدماء ستنتقم وتلاحقكم اللعنات، وثرواتكم التي نُهبت من المواطن، كلها لا تساوي صورة ذلك الطفل وتلك المرأة المحتضنة الأجساد الهامدة.
نعم أنه وطني بحاجة الى وطني؛ يتعلم من الناصرية تلك التضحية والغيرة، التي تشهد لها ساحات الكرامة والعزة والفداء، وأنها المأساة، تتكرر، والشهداء يتلاحقون على قارعة الوطن.