23 ديسمبر، 2024 8:39 ص

الجاحظ اليقظان في بصرة الأشجان!!

الجاحظ اليقظان في بصرة الأشجان!!

 

نهض الجاحظ من بطن التراب وأخذ ينادي بأعلى صوته , وكأنه يلقي خطبة على الناس , فاقتربت منه متسائلا ومستغربا , فقلت: يا أبا عثمان , لم نعرف عنك خطيبا , فكيف بك تقوم بإلقاء خطبةٍ على الناس؟

قال الجاحظ: إنها الإرادة العربية القوية تدعوني لإستنهاض الناس من غفوتهم وتضليلهم , فما داموا لا يقرؤون , فمن واجبي أن أصرخ في آذانهم حتى تهتز عقولهم وتستقيم نفوسهم , ويتمسكون بعروبتهم وبجوهر دينهم.

قلت: يا أبا عثمان الدنيا قد تغيرت.

قال الجاحظ: وها أنا أتغير معها , وأنهض لكي ينهض الناس معي , فالعروبة في خطر والبصرة تعاني المرير الأمر.

هذه بصرتي وما عهدتها عطشى وجائعة وخاملة وخالية من بساتين النخير والشجر ورياض العقول والفٍكر.

أنا أصرخ وأستصرخ حتى تربو الأرض وتجري مياه الروح والحياة في أوصالها وربوعها الفيحاء ورؤوسها الشماء.

قلت: يا أبا عثمان هل جننت؟

قال الجاحظ: قل ما شئت فقد قالها قبلك إبن الفراهيدي عن أبيه , وعالمكم اليوم أشد جنونا من الجنون , فأين العقل فيما يجري ويكون؟!!

لماذا هذا القحط والقهر والوجيع والهوان والإندحار والإستسلام للغادرين؟

أ لم أحذركم من الرياح الشعوبية التي تريدكم بالسوء والفحشاء , وهي تختزن قدرات إنقضاضية على عروبتكم وتأريخكم ومجدكم الإنساني ودينكم , يا أيها المغفلون المخمورون بالأضاليل.

قلت: يا أبا عثمان إنهم قادة الزمان , القابضون على عنق السلطة والسلطان , فما عاد في البلاد قوة حرة وإرادة وطنية ذات قيمة ومعنى , فالكلمة كلمتهم والكراسي يتوطنها أعوانهم وتابعيهم الخانعين القابعين في أحضانهم.

قال الجاحظ: لعنة الدنيا بما فيها على جيل لا يحفظ عروبته ولا يعز وطنه ويصون حرمته وسيادته , وما كان عهدنا بكم كما أنتم عليه اليوم , إذ حسبناكم ستتشامخون وأنتم تقيمون على إرثٍ حضاري وفكري عظيم.

فكيف آلت بكم الأمور إلى مقابع الهوان… وأين العرب؟!!

قلت: يا أبا عثمان , مات العرب وصاروا أعوانا لأعداء العروبة والدين.

فما عادت العروبة تنفع , وإنما التبعية هي الفائزة والقادرة على صناعة المصالح العدوانية القاضية بإفناء العرب , فالعرب أعداء وجودهم , وهم المنهزمون التائهون الخائرون المأسورون بالوجيع والصراع القائم الدائم بينهم , فالعربي ألد أعداء العرب!!

قال الجاحظ: قبحك الله , وأصابك قبحا أشد من قبح وجهي وجحوظ عيوني , كيف تقول ذلك؟!

قلت: يا أبا عثمان , لم أقل شيئا من عندي , وإنما وصفت لك أحوال العرب , وما يدور في ديارهم من قبائح السلوك ووجيعات التواصل المشين المهين.

قال الجاحظ: إنها ” العصبية التي هلك بها عالم بعد عالم , والحمية التي لا تبقي دينا إلا أفسدته , ولا دنيا إلا أهلكتها , وهو ما صارت إليه العجم من مذهب الشعوبية , وما قد صار إليه الموالي من الفخر على العجم والعرب”.

قلت: يا أبا عثمان , قد قلت ما قلت , لكنهم يمسكونك مما قلت وبما قلت وما لم ترد قوله , فهم يحرّفون الكلام عن مواضعه ويؤولونه كما تشتهي أنفسهم وتروم رغباتهم السوداء النكراء.

قال الجاحظ: ” إنه لم يخل زمان من الأزمان فيما مضى من القرون الذاهبة , إلا وفيه علماء محقون قد قرؤا كتب ما تقدمهم ودارسوا أهلها ومارسوا “الموافقية” لهم , وعانوا المخالفين عليهم , فمحضوا الحكمة وعجموا عيدانها ووقفوا على حدود العلوم…”

قلت: يا أبا عثمان , إلا في زمن العرب المعاصر , الذي صارت القراءة فيه معدومة والإهتمام بالكتاب مفقود , والأمية سائدة , والمعرفة بائدة , فالمجتمع أصبح حشود من الدمى التي تتحرك بإرادة القابضين على مصيرها.

قال الجاحظ: آهٍ على أجيالٍ أمتي المعاصرة واللاحقة التي لن تدرك “حقائق الحكمة وكنوز الآداب وينابيع العلم , إلا بالعقل الثاقب اللطيف وبالنظر التام النافذ وبالإرادة الكاملة وبالأسباب الوافرة والصبر على مكروه الفكر , والإحتراس من وجوه الخداع والتحفظ من دواعي الهون”.

قلت: يا أبا عثمان إن ذلك أصبح أمرا مُحالا.

قال الجاحظ متسائلا: ألا يوجد عندكم ” قلب عَقول ولسان سَئول”؟

قلت: يا أبا عثمان , إن السؤال حرام , وإعمال العقل إجرام , وعلى الناس أن تكون كقطيع الأغنام.

قال الجاحظ متألما: إيه ” وقد قال أهل الفطن , أن محض العمى التقليد في الزندقة , لأنها إذا رسخت في قلب إمرئ تقليدا أقالت جرأته  , وإستغلق على أهل الجدل إفهامه “

قلت: يا أبا عثمان , وهل تفقه الدمى ما تقول؟!

قال الجاحظ: إبتعد عني  , وياليتني ما عدت إليكم , ولا إستيقظت من رقدتي , إنكم وجيع مروّع , وأنين مشين وحسرات مهينة.

لعنة الكون على أناس يتنصلون عن عروبتهم , ويعيشون بيادق رخيصة ذليلة على رقعة الشعوبية النكراء ويستلطفونها ويجسدونها وهم الضحايا الأغبياء.

قلت: هذا هو الحال يا أبا عثمان , فالمصيبة أعظم مما كنت تتصور ونحتاج إلى ألف جاحظ وجاحظ ليردها إلى عقر دارها.

قال: لن تخيب ظنوني في أمة العرب وستنجب أقدر مني مثلما أنجبتني.

وغادرني الجاحظ , وما حسبت أنني كنت يقظانا , ووعدني بلقاء آخر , وحسبي أن أحاوره مرة أخرى!!!