بين الجوع والتضليل والفوضى
على مر التأريخ, كان قيام الثورات والانتفاضات يواجه نوعين من ردات الفعل العقلانية:
ردة الفعل الأولى تذهب إلى ضرورة عدم السكوت على الأوضاع الظالمة والمزرية والمنحرفة, وأن الوسائل العقلانية غير مجدية في استحصال الحقوق, وأن العدالة لا تنتشر إلا بقيام ثورة وانقلاب عنيف عاصف, يحطم كل الوضعيات الساكنة في النظام السياسي وأدواته البشرية والاقتصادية والأيديولوجية, وغالبا ما يتساوق هذا النوع من الممارسات السياسية الشعبوية الثورية العنيفة, ببعد عاطفي وجداني جارف يحرك الجماهير بشكل عفوي في ظاهره, ومدروس من قبل المنظمين لهذه الممارسات في باطنه.
ردة الفعل الثانية هي التي تمثل وجهة النظر المحافظة, والتي يذهب أصحابها إلى أن الوضع القائم على الرغم مما فيه من مساوئ وإرهاصات ومشاكل, إلا أن إتباع طريق الثورة والانقلاب وضرب كل مؤسسات الوضع القائم وتخريبها بحجة تغييرها, سيقود إلى فوضى كبيرة جدا, وستخرج السيطرة من أيدي القائمين على الثورة والمنظمين لها, وينحدر الوضع إلى انعدام الأمن وتخريب الاقتصاد وانتشار القتل العشوائي والقتل المنظم وتصفية الحسابات, وظهور الثارات والنعرات الاجتماعية, وخراب النظام والاستقرار, بشكل لا يمكن إعادة السيطرة عليه بشكل كامل إلا بعد مرور سنين طويلة, لذا يذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى ضرورة المحافظة على وضع الاستقرار النسبي القائم, ومحاولة معالجة الانحرافات والمظالم بطريقة أخرى غير طريقة الثورة والانقلاب .
كلا الطرفين لديه من المبررات ما يمكن فعلا اعتباره مبرر أخلاقي, ولا يجوز كيل الاتهامات والتخوينات لأحد الطرفين بالضد من الآخر, فلا يجوز أن نقول أن الداعين إلى الثورة هم أناس مرتبطين بأجندات خارجية عميلة, وأنهم ينفذون مخططا لحرق البلد وإسقاط النظام, أو أنهم أناس مأجورون يستغلون ضعف الوعي العام, وعاطفية الجمهور من أجل تمرير مخطط تخريبي (مع إمكانية حصول مثل هذا الأمر وبسهولة, وشواهد التأريخ وسننه – وبالأخص في العراق- أثبتت أن أغلب الثورات كانت بهذا النمط)؛ ولا يحق لأي طرف أو جهة أن تتهم الفريق الثاني بأنه مستفاد من النظام القائم أو منتفع منه أو أنه يمثل جزءا من تركيبته, فهذا الكلام أيضا غير صحيح (مع وجود الكثير من الشواهد التاريخية التي تذهب إلى وجود المنتفعين من النظام الفاسد ولكنهم تلبسوا بلباس المحافظين), ولكن هذا لا يمنع أن المحافظين ينطلقون من منطلقات أخلاقية عالية لا تقل في عمقها وأصالتها عن دعاة الثورة ونصرة المظلوم, فكل طرف منهم ينظر للحق من زاوية معينة, وكل منهم ينظر للحقوق العامة من عدسة توضح له الأهداف.
في بلد كالعراق, وفي ظرفنا الحالي, يُعتبر الخروج بثورة أمر مهم، ولكن الأهم منه هو إمكانية إحلال وضع جديد يسمح مرة أخرى بالخروج بثورة أو مظاهرة بسيطة، وهنا مربط الفرس.
التربية الأيديولوجية السياسية في العراق, والتي غالبا ما كانت تربية أيديولوجية اجتماعية مخلوطة بمزيج ديني (وذلك لانعدام مثل هذا النوع من التربية في شكلها الصحي السياسي بسب توارد مستمر للدكتاتوريات في هذا البلد), كانت دائما تعلي من نموذج القائد الفرد, القوي, النزيه, الشريف, وقد عملت العوامل الدينية على زرع هذه الصورة في المخيال العراقي, وبالأخص الشيعي منه, وذلك لتعلق هذا المخيال بفكرة الإمام المعصوم الذي لا يصدر في حكمه أي خطأ مقصود أو غير مقصود, لذا يجري تقيم الحكام في العراق بهذه الطريقة المثالية المتعالية عن الواقع وإرهاصاته ومشاكله, دون الاحتكام إلى قوانين العمل السياسي بأطرها ومحدداتها والتزاماتها الداخلية والخارجية الدولية.
يضاف لكل ما ذكرناه أعلاه, أن تعويد الوعي الجمعي لأهل هذا البلد خلال قرون طويلة, كان تعويدا قائما على ترسيخ نموذج أو قالب الدكتاتور, بحيث أصبحت معرفة الشعب بالسلطة وأنماطها, مستقاة من ممارسة الدكتاتور وانفعالاته وردات فعله وظلمه ولا عقلانيته ولا عدله, لذا كان هذا النوع من التثقيف القسري للوعي الجمعي الجماهيري, عاملا آخر إضافة للعامل الديني السابق الذكر, لتقريب الوعي الجماهيري من نموذج الدكتاتور المتسلط والقبول به, مع عدم اهتمام أغلب هذا الجمهور بوجود أو عدم وجود الديمقراطية, كنسق يحتكم إليه الناس في تعاطيهم مع السلطة السياسية, لذا فان اغلب الداعين إلى الثورة, يقبلون في لا وعيهم, تسلط حكم دكتاتوري يعيد انضباط تقييمهم للأمور السياسية, بحسب ما تعودوه من النظم الدكتاتورية السابقة !
العقلانية السياسية (على الرغم من صعوبة تحققها لصعوبة الحياة وتعقيد المشاكل وتعددها وكثرتها في العراق), هي مدعاة لنا للخروج من الأنماط التقليدية السلبية للثورة التي مرت ببلدنا خلال تاريخه القديم والمعاصر, والتي لم تسبب له إلا الخراب والويلات وتسلط الظالمين, ويجب أن يكون ذلك مدعاة لنا للبحث عن مخرجات سليمة للفعل الثوري في العراق, أي أن من يدعون إلى الثورة وقلب نظام الحكم, يجب عليهم أن يحوزوا على تصور مستقبلي واضح ومخطط له، عما ستؤول إليه الأمور, ويجب على من يدعو إلى المظاهرات وقلب نظام الحكم, أن يعي جيدا ضرورة امتلاكه لمصادر قوة, تمكنه من ضبط المظاهرات ومخرجاتها, وإيقاف أي عملية تحوير أو تغيير أو استغلال او توظيف لها من قبل قوى خارجية أو داخلية , سياسية أو ارهابية, لأن الفعل الثوري في العراق صراحة (وبحسب مراجعتي لهذا الفعل تاريخيا) يعتمد دائما على مدخلات الثورة ومشروعية هذه المدخلات, ولا يملك أي صورة واضحة لمخرجاتها وصحة وشرعية ومقبولية وعدالة هذه المخرجات, مما يجعلنا نقع في فوضى كبيرة, تقود دوما الى ان يستلم زمام الحكم شرار القوم وأراذلهم, وتعاد اسطوانة الظلم والقتل والعذاب في هذا البلد .
إن التفكير الانفعالي العاطفي لأبناء هذا البلد, جعل أهم ما يهتمون به ويروجون له ويحرضون عليه هو مدخلات الفعل، ولا يهمهم ولا يفكرون بل يرفضون التفكير في مخرجات الفعل الثوري وماهيته وكيف سيكون او يتكون، أو إلى ماذا سيؤدي ، وهنا مكمن الخطورة؛ فأي جهة مجرمة ستتمكن بسهولة أن تقود هذا الشعب لما تريد، حينما تضخ له كم كبير من المدخلات تحفز على الفعل الثوري (التي هي في ظاهرها سليمة ومشروعة)، لتتحكم هذه الجهة بعد ذلك بمخرجات الفعل الثوري، وتحكم عليه أدوات السيطرة والهيمنة، لان اغلب الجمهور المتفاعل الآن مع مفهوم الثورة، قد تم إقناعه بان الثورة هي الغاية النهائية لهذا الفعل! وسلبوا منهم قدرة التفكير او التخطيط لما بعد الثورة.
* دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة.