هذا عنوان كتاب ليون تروتسكي الشهير الذي ينتقد فيه التجربة الستالينية، وهو كتاب قرأته قبل أربعين عاماً ، الا انني أعتقد ان ثورة العشرين العراقية أحق بهذا العنوان، فليست هناك ثورة مثلها في التاريخ – تأسيسية وملحمية ومليئة بالاحداث الرائعة – لم ينصفها بلدها بل وتنكر لها، وقد تحولت الى اشكالية في تاريخه !
كان هناك مليون سبب – كما يُقال – لاندلاع هذه الثورة، وهي التي وضعت البريطانيين أمام خيارين: اما تأسيس حكومة عراقية او الجلاء (فيليب آيرلاند (السفير الامريكي الاسبق في العراق) ص 217). وهكذا كانت احداثها وما قبلها (1919 – 1920)، قد أطلقت النمو الصعب لمجتمع وطني عراقي (بطاطو ج1 ص 42). فعراق ما بعد 1920 مَدين بوجوده لهذه الثورة، فقد كان الحاكم السياسي العام ويلسن يسعى لالحاق العراق كمستعمرة بالهند (د وميض نظمي – الجذور السياسية ص 339). وقعت الثورة فيما بعد بين رؤيتين متطرفتين، الاولى ترى بانها سبب خسارة الشيعة للحكم في العراق – عام 1921 – وذهب بعضهم للقول بأن السنة ورطوا الشيعة بها فأخذوا الوطن واعطوهم الوطنية.
يقابلها في الجانب الاخر، ان البعض اعتبرها ثورة شيعية خالصة، بل وشككوا بهويتها !!! ومنهم مثلاً مزاحم الباججي الذي صار فيما بعد رئيسا للوزراء والذي قال عنها للحاكم البريطاني: يؤسفني أن تؤدي حماقات الافراد العرب الى ازعاج الامة البريطانية في مهمتها المشرفة (الوردي ج6 ص11). الانكى من هذا ان النظام السابق شن ضدها حملة مُمنهجة، فقام أولاً – عام 1969 – بهدم قبر قائد الثورة الشيخ العظيم محمد تقي الشيرازي ومساواته بالارض تماماً، بحيث لم يُبقِ له أثراً، وأوقف اصدار طابع بريدي بذكراها السنوية كما جرت العادة، وتراجع ذكرها في المناهج المدرسية، ثم قام باغلاق متحف ثورة العشرين ومصادرة محتوياته الثمينة، والتي لا يعلم الا الله اين انتهى بها المطاف. ثم وفي واحدة من حماقاته التي لا تُعد ولا تُحصى، انتج بطائفية فجة – عام 1983- فيلماً سينمائياً (المسألة الكبرى)، وحشد له الطاقات والاموال، ليزور فيه التاريخ، فشوه ثورة العشرين، وتنكر لمفجرها الشيخ الثائر شعلان ابو الجون وابطالها الآخرين، واختزلها بالشيخ ضاري المحمود.
فكانت ردة الفعل التشكيك بدور الاخير في الثورة ومهاجمته ، مع ان الرجل لاذنب له في الامر . يقول الوردي عنه : عندما وصله السيد جدوع ابو زيد وسلمه فتوى الشيخ محمد تقي الشيرازي قال له: لينعم العلماء واخواني الزعماء عيناً (ج 5 القسم الثاني ص 68) (فريق الفرعون ص 306-307) (وراجع ايضاً الشيخ ضاري للعلوجي والحجية ص 36 – 37). ثم قَتل القائد البريطاني ليجمن، وبعد معارك ضارية بين بغداد والفلوجه، انسحب ورجاله الى كربلاء ثم النجف، وبعدها ظل ملاحقاً حتى ألقوا عليه القبض – عام 1927 – وحكموه بالاعدام ثم خففوه الى الأشغال الشاقة المؤبدة، ولكنه مات – في الاول من شباط 1928 – بعد يومين من الحكم عليه، واظنهم قتلوه رحمه الله سماً أو خنقاً !!!!
لقد كتبتُ – عام 2002: انني احلم أن تأتي حكومة رشيدة، وتقيم في ساحات بغداد، عشرين أو ثلاثين تمثالاً، لقادة ثورة العشرين وضباطها (الضابط حسين علوان الدوري مثلاً الذي قاتل في جبهة الكوفة وكان له موقفاً رائعاً هزني عندما قرأته – الوردي القسم الاول ص326-327)…
السؤال الذي يطرح نفسه: هل توجد دولة في العالم لا تكرم رموز ثورة بمستوى ثورة العشرين ؟ (على حافة الهاوية ص 202).
وعودة لزعيم الثورة الشيرازي القائد الفذ، والذي كان متقدماً على عصره، فكرس نفسه لمشروع دولة وطنية لكل العراقيين، فقد كان يطالب بعراق من شمال الموصل إلى الخليج له حكومة عربية اسلامية مقيدة بمجلس تشريعي. وتبنى حقوق الاقليات الدينية وحرياتهم ، وعمل بكل جهد ووسيلة لإزالة النعرات الطائفية والفوارق المناطقية والعصبيات القبلية فتوحدت صفوف العراقيين (الياسري – البطولة في ثورة العشرين ص132). وخاطب عصبة الامم بجنيف قائلاً: (قام العراقيون مدافعين عن أنفسهم وشرفهم، بعد أن يئسوا من إصغاء حكومة بريطانيا لهم حتى للتفاهم معهم بصورة سلمية) (كاظم المظفر ج1 ص 200)، وكتب الى الامير فيصل الذي صار في السنة التالية ملكاً على العراق : احياء الجامعة العربية عنوان المجد الاسلامي (وميض نظمي ص 351 – 352). يصفه الفياض: من رجال الدين الافذاذ الذين واكبوا سير الحركات التحررية في عصورهم ووجهوا مؤيديهم لخدمة مصلحة الوطن العليا (الثورة العراقية ص 211). انه زعيم روحي كبير، صادق العزيمة، نافذ الكلمة (الحسني – الثورة العراقية ص 132). ويقال ان البريطانيين دسوا له السم، وتقول رواية اخرى ان خسائر الثوار آلمته بشدة، فمات كمداً في 17 آب 1920، وبموته ضعفت الثورة بالتدريج، اذ كان يتابع أدق تفاصيلها، ويحث على سد ثغراتها . وقد فرح المحتلون بوفاته كثيراً (رسائل المس بيل ص167).
كلمة أخيرة عن ثورة العشرين، تقول المس بيل: لم يكن يدور بخلد احد … ان يُمنح العرب (وتقصد العراقيين) مثل الحرية التي ستمنحهم اياها الثورة.