انتشرت في الايام الاخيرة حالة من الياس والاحباط في صفوف البعض من السياسيين والكتاب والمثقفين، وفئات من الناس المناصرة للثورة، ومرد ذلك يعود الى قرار اللجان التنسيقية بانسحاب معظم الثوار من مختلف ساحات التحرير. وبصرف النظر عن النوايا الحسنة او السيئة، فقد استغل اعداء الثورة هذه الحالة ليساهموا في تكريسها وتوسيع مساحتها. حيث نسبوا ذلك الى “فشل” الثوار في تحقيق اي مطلب من مطالبهم، او بسبب طول الانتظار او الملل. في حين ان مثل هذا الانسحاب المؤقت يمثل قمة المسؤولية والاخلاق الوطنية والثورية وحب العراق والعراقيين. وقد عبر الثوار عن موقفهم المشرف هذا بعدد من الشعارات والبيانات واشرطة الفديو، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، شرحوا فيه اسبابه واكدوا في نهايته اصرار الثوار على مواصلة الثورة حتى تحقيق انتصارها النهائي. ومنها على سبيل المثال، ان قرار الانسحاب من الاعتصامات هو تقديم مصلحة صحة المواطنين والحفاظ على سلامتهم من وباء فيروس الكورونا، الذي يجد بيئته الخصبة في تجمعات الناس والاختلاط فيما بينهم، الامر الذي يؤدي الى كارثة، وخاصة في العراق الذي يعاني من مشاكل كبيرة في مؤسساته الصحية. ومما يؤكد هذه الحقيقة تمسك اعداد قليلة من الثوار في جميع ساحات التحرير بخيمهم ومواقعهم، واتخاذ كافة الإحتياطات ومنها، التعقيم بكل انواعه وتقليل عدد الأفراد في كل خيمة إلى حدود إثنين أو ثلاثة أفراد، لقطع الطريق على الحكومة ومليشياتها المسلحة من السيطرة على هذه الساحات، ومنع الثوار من العودة اليها. بالمقابل فقد اكد الثوار على ثقتهم وقدرتهم على تحشيد الشارع العراقي مرة أخرى، والعودة “بمطالب أكثر حدة”، بمجرد انتهاء الازمة. وكان اكثر ما يفرح في هذه الشعارات، بروز شعار مركزي عنوانه “الوعي قائدنا، اضافة الى شعارات اخرى مثل “ياهو الكالكوم بردت نرجع نحييها” و”الباكونا اخطر من كورونا” و باقين وما نرجع.
ليس الاشرار وحدهم الذين استغلوا حالة التراجع هذه، وانما استغلته تجمعات وشخصيات سياسية مهزوزة، حيث بداوا في البحث عن بدائل اخرى مشينة ومهينة. فمنهم من روج لوعود حكومة عدنان الزرفي المرتقبة، ووصفه بالمنقذ. ومنهم من توجه بانظاره خارج الحدود، وعلى وجه التحديد الى الولايات المتحدة الامريكية ورئيسها دونالد ترامب، ليخلصهم من المحنة ويحقق لهم مكاسب حزبية او فئوية ضيقة. في حين ذهب اخرون ابعد من ذلك، حيث ارتفعت اصواتهم بالترويج لاقامة اقليم سني في المناطق الغربية، واظهار محاسن الاقليم وفوائده، وهؤلاء بصدد التحضير لعقد مؤتمرات برعاية امريكية وخليجية، على غرار تلك التي عقدوها قبل سنتين او ثلاث سنين، مثل المؤتمر الذي عقد في بغداد في شهر اذار عام 2017، ومؤتمر انقرة في منتصف شهر تموز من نفس العام، وبرروا ذلك بمقولة “ان اللقاءات التشاورية تجري في إطار الدستور العراقي وتهدف الى دعم جهود إصلاح العملية السياسية في العراق”. . ونسيوا ان ما يقومون به، دعوة صريحة لتقسيم العراق الى دويلات هزيلة.
لكن هذه الحقيقة، رغم مرارتها واثارها السيئة ونتائجها الضارة، لا تبيح لاي عراقي مخلص لوطنه التخلي عن الثورة، والدخول في مستنقع المساومات المذلة، التي لم تجلب سوى الخزي والعار. وانما تستدعي التمسك بها، اكثر من اي وقت مضى، والاخذ بيدها لتعود قوية ومهابة كما وعد ابناؤها. فلقد سبق للانتفاضة، منذ انطلاقتها في بداية عام 2011 ، ان تراجعت وانكفات وخف صوتها وقل نشاطها، واضيفوا ما شئتم من اوصاف اخرى، ثم تمكنت من نفض الغبار عنها والعودة بقوة وفاعلية وبتاثير اكبر. وخير دليل على ذلك، الانتفاضة العملاقة التي قامت بعد سلسلة من التراجعات وخيبات الامل في مدينة البصرة، وامتدت الى المحافظات المجاورة . حيث ارتقت ولاول مرة بشعاراتها المطلبية، مثل توفير الخدمات كالماء والكهرباء، الى شعارات سياسية، من قبيل الغاء المحاصصة الطائفية ومحاسبة المفسدين. في حين ذهبت الاخرى الى الصدام مع القوات الامنية والمليشيات المسلحة في وسط العاصمة بغداد، بسبب المطالبة بطرد المحتل، سواء كان امريكيا او ايرانيا، عبر اهازيج شعبية مثل “اخرج اخرج يا محتل شعب العراق ما ينذل” و “ايران بره بره وبغداد تبقى حره”. اما التي اعقبتها فقد اقتحم الثوار المنطقة الخضراء والسيطرة عليها وهروب اعضاء الحكومة والبرلمان امام ابنائها العزل، بطريقة مخجلة ومهينة ومعيبة. ولولا تواطؤ مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، مع رئيس الحكومة المدعو حيدر العبادي والجنرال قاسم سليماني، واصداره امرا بالانسحاب من المنطقة الخضراء، لسقطت الحكومة وعمليتها السياسية الطائفية دفعة واحدة. بمعنى اخر فان هذا الانسحاب الطوعي ، هو احد صفات او خصائص الانتفاضات الشعبية، سواء كانت سلمية او مسلحة،، حيث ليس للانتفاضة او الثورة مستوى ثابت من الفعاليات، او السير في خط صاعد على الدوام. فهي تتقدم احيانا وتتراجع احيانا اخرى. ولنا في اخلاء الثوار لجميع ساحات التحرير لمدة اسبوعين بمناسبة اربعينية الامام الحسين، خير دليل على ذلك. حيث عاد الثوار بعد انتهاء المناسبة الى جميع ساحات التحرير بقوة اكبر وعزيمة اشد واصرار ثابت وصمود قل مثيله، وحققت انتصارات افقدت الحكومة توازنها وشلت حركتها وجعلتها تتخبط في ايجاد حلول للخروج من مازقها.
لا نجادل في قيام انتفاضات وثورات انتهت الى الفشل، ثم طواها النسيان او سجلت ضمن الذكريات الوطنية المؤلمة. لكننا نتحدث اليوم عن ثورة لا تزال نيرانها مشتعلة وطاقاتها الثورية والابداعية متفجرة، وتمثلها قيادات شابة وذات وعي عال وخبرة واسعة وتجربة غنية افرزها طريق الكفاح على مدى السنين الماضية، اضافة الى ان رياح هذه الثورة وافكارها تجذرت في اعماق المجتمع العراقي، ودخلت في كل بيت ومدرسة وجامعة ومعمل ومصنع ومسجد وحسينية وكنيسة، بل دخلت في عقول الصبية والاطفال. خاصة وان السقوط السياسي والاخلاقي لسكان المنطقة الخضراء، ورفضهم القاطع تلبية ابسط مطالب الثوار، من قبيل تكليف شخصية وطنية مستقلة لرئاسة الحكومة، قد قدم ارضية وطنية وبيئة ملائمة لنمو الثورة وافكارها ومطالبها المشروعة. وما نشاهده اليوم من صراعات حول تكليف عدنان الزرفي بتشكيل حكومة جديدة من قبل رئيس الجمهورية برهم صالح يعزز الايمان بالثورة اكثر واكثر. حيث عبر هؤلاء الاشرارعن حقيقة خلافاتهم، التي لم تتجاوز حدودها ابعد من حساب المكاسب والغنائم والمناصب. اما تغليف هذه السلوك المشين بعبارات الوطن والوطنية ومعاداة الاحتلال والاستقلال والسيادة. فهذه المفردات اصبحت بالنسبة لعموم العراقيين نكات سمجة. وبالتالي، تصبح الثورة هي البديل الوحيد لاستعادة الوطن المنهوب، وشعار اسقاط العملية السياسية الطائفية برمتها، العنوان الصحيح لانقاذ العراق من محنته.
قد يبدو ذلك نوعا من المثالية الثورية او الاماني المشروعة، حيث انجاز الثوار لمهمة من هذا الوزن الثقيل، في ظل الاحباط الذي سرى في عقول الناس ووجدانهم جراء الانسحاب الطوعي من ساحات التحرير لن يكون سهلا، لكن صمود قيادة الثورة واصرارها على تحقيق اهدافها والوفاء بالعهود التي قطعتها على نفسها امام دماء الشهداء، سيجعل تحقيق هذه الامنيات المشروعة حقيقة قائمة. خاصة وان جميع القوى والاحزاب والشخصيات الوطنية، وعموم الكتاب والمثقفين والشعراء والفنانين الملتزمين بالخط الوطني والداعمين للثورة، يعملون بجد واخلاص لتقديم كل انواع الدعم والاسناد لهذه الثورة، من جهة، واجتثاث هذا المرض الذي اسمه الياس من العقول والوجدان من جهة اخرى. ولا اذيع سرا بان هذا الجمع الخير بدا يضاعف من جهده السياسي بكل جوانبه الفعالة، ادراكا منه لما لهذا الفعل من دور هام للغاية. بمعنى اخر ان هذا الفعل السياسي، ليس صورة محسنة، من تلك التي الفناها من قبل، والمتعلقة بالنشاط السياسي ضد الحكومة واظهار عمالتها واصرارها على خدمة المحتل، فهذه قد فضحت نفسها بنفسها، وانما نعني به تعبئة الناس وتهيئتها وتشجيعها على خوض معركة من هذا النوع، وفي نفس الوقت، نشر خطاب الثورة السياسي وتوضيح اهدافها وتاكيد مشروعيتها، في مقابل دحض محاولات النيل منها، او تشويه سمعتها او تقزيمها. اضافة الى حمايتها من الانتهازيين والوصولين الذي يحاولون ركوب موجتها لتحقيق مكاسب فئوية او حزبية ضيقة. بكلمة أخرى لقد اصبحنا جميعا مسؤولين امام هذه الثورة، سواء من حيث العمل بين صفوفها، او من خلال تعبئة الناس للالتفاف حولها أو تقديم الدعم والاسناد لها. وكاتب هذه السطور على يقين بعودة الثوار الى ساحاتهم، وعلى قناعة راسخة بقدرة الثورة وابنائها على تحقيق الانتصار النهائي
نعم هناك محاولات غادرة لانهاء الثورة، تقودها سلطة المنطقة الخضراء وبالتنسيق مع الايرانيين ومندوبهم علي شمخاني خليقة المقبور قاسم سليماني وبالتعاون مع المليشيات المسلحة، لكن جميع هذه المحاولات ستفشل في نهاية المطاف. فالشعوب حين تتحد وتثور على الظلم والطغيان، ولديها الاستعاداد لتقديم التضحيات الجسام، فانه لا توجد قوة في الارض تصمد امامها او تستطيع مواجهتها. هذا ما اخبرنا به التاريخ، وهذا ما سطره شعب العراق في الماضي، وما يسطره اليوم من ملاحم نادرة وبطولات عظيمة.