19 ديسمبر، 2024 12:19 ص

الثناء على معونة الشتاء

الثناء على معونة الشتاء

يسكن الملوك على اختلاف امزجتهم هاجسٌ خفيٌ أسمه ( ماذا يريد شعبي ) ؟
وهو ذاته الهاجس الذي تخيلته في اوراق الرحالة ماركو بولو الذي اجرى منادمات الكلام والسفر مع خان الصين الاسطوري ( قبلاي خان ) ، فأول عبارة قالها الخان الى الرحالة الفلورنسي : لقد اتيت اليوم في مناسبة عزيزة عليَّ هو يوم توزيع الثياب على العراة ، وربما قبلاي خان أسس هذا اليوم خشية أن لا يقع في مطبِ حكاية صينية قديمة كانت موجودة في كتاب النصوص بإحدى مراحلنا الدراسية وعنوانها ( ملابس الامبراطورية ) تتحدث عن جرأة طفل جاهر بأن الامبراطور كان عاريا حين يجلس على اريكته التي يرفعها العبيد في موكبه المهيب الذي يسير بين الجموع وهي تبدي مديحها الكاذب والخادع لجمال واناقة ملابس الامبراطور . وفي الحقيقة ان الامبراطورية كان ايضا ضحية خديعة ما ، ولم يكن عليه أي ثوب من الحرير المذهب بل كان عاريا.
قصة الرحالة وملابس الإمبراطور تعيدُ إليَّ مديح تلك الالتفاتة الانسانية التي اسسها الملك في الحكم الوطني واستمرت حتى اواسط السبعينات ثم اختفت بسبب ما كان يعتقد أن أموال النفط رفعت من مستوى معيشة الفرد العراقي.
وهو ما كنا نطلق عليه ( معونة الشتاء ) عندما كانت الإدارة في المدارس الابتدائية تشكل لجانا من مرشدي الصفوف لتحصيَّ اكثر التلامذة فقراً وتوزع عليهم مادة واحدة من مادتين أم حذاء يشبه البسطال وكنا نطلق عليه ( اللابجين ) وأعتقد انها مفردة انكليزية أتت مع احذية كرة القدم التي كان يرتديها لاعبي فريق كرة القدم الانكليزي في قاعدة الحبانية الجوية ، او من تلك الاحذية الانكليزية الثقيلة التي كان يرتديها الجنود في ثكنات الجيش والوحدات العسكرية . والمادة الثانية هي بدلة ثقيلة من الجوخ الاخضر أو النيلي المعتم.
كان الطلاب الفقراء ينتظرونها بفارغ الصبر وكان بعض المعلمين يمقتُ هذه المعونة ويعتقد انها تبقى تؤشر الى الانسان الفقير اينما كان متواجدا وهو يرتديها مما يظهر لنا تمايزا طبقيا في المجتمع . وكان رأيهم أن تُبدل بتوزيع اثمان البدلة خلسة على التلامذة الفقراء ، ويشترون هم ما يرغبون شراءه من ملابس على قدر الثمن الموزع اليهم.
في الاهوار كانت هذه المعونة تأتي ، ولأن فوارق الفقر تتضاءل بين اهل القرى بسبب انهم يقتربون في تماثل في الملكية ، وكل ثرواتهم هو الجواميس وتتشابه بيوتهم في اشتراكية رائعة هي بيوت قصب ، فأن اهل القرية لا يتحمسون كثيرا لهذه المعونة بالرغم من اننا كنا نرى ونشعر بمعاناة التلاميذ من البرد حين يأتون الى المدرسة ولا يرتدون سوى الدشاديش ، ومن يحصل على هذه المعونة يكون مرغما ليصبح افندياً وتتطلع اليه بابتسامة وربما بحسد عيون زملاءه لكنه يبقى يُؤشر عليه انه الافقر في هذه القرية .
والمفارقة في اناقة معونة الشتاء أن الذي يكون افنديا فهو يأتي مرتديا مع البدلة نعالاً او صندلا ، ومرات يجيئون حفاة ، والذي يكون حصته الحذاء يأتي مرتديا حذاءه مع الدشداشة ، وبالرغم من هذا اشعر بالثناء الى تلك اللحظات السريالية التي يشع فيها ضوء السعادة في عيون التلاميذ عندما كانوا يقفون بانتظام وهدوء من أجل أستلام معونة الشتاء….!