21 ديسمبر، 2024 6:28 م

الثقة في النفس وخطورة المبالغة

الثقة في النفس وخطورة المبالغة

عرفت الثقة بالنفس منذ عصور بمعرفات ودلالات عدة كانت تنصب بغالبيتها في خانة واحدة يمكن ايجازها بالاتي .. ( وهي انها الايمان المطلق بالذات في بلوغ امر ما او القدرة المتناهية على حل قضايا متعددة او الخروج منها بمكاسب ) هذا التعريف هو ايجاز لالاف البحوث التي انتجتها البشرية في هذا الصدد وأرتأينا انه قد يكون مدخلا مناسبا للحديث عن موضوع نعتقد وبعد تجارب حياتية عدة انه ربما يكون مقدمة لنتائج سلبية وانه لم يكن يوما ذا نتيجة مضمونة لصالح الشخص المعني ..
فالثقة الايجابية التي يعكف الاباء ورجال الصلاح على بثها فينا تختلف نوعا ما عن الشعور الذي بدأ ينتشر بين الاوساط الاجتماعية في زماننا الحالي ، فالشعور الاول هو ايمان بالقدرة الشخصية لبلوغ النجاح مهما بلغت التحديات ، يتخلل ذلك استخدام كافة الوسائل الممكنة والمتاحة لبلوغ الهدف من ضمنها استشارة اصحاب الخبرة الاكبر وسماع النصح والاستفادة من تجارب الاخرين ، لذا فإننا نرى ان الواثقين بأنفسهم غالبا ما يكونوا متواضعين بسماتهم الشخصية كون ان اهتماماتهم تستوجب اكتساب خبرات الغير او مساعدتهم بهدف نجاح المسعى الذاتي ، اي بمعنى ان جوهر الثقة نابع من القدرة على بلوغ الهدف وبإستخدام الوسائل المشروعة كافة .. اما النموذج الاخر والذي يمثل جوهر موضوعنا الحالي فيتمثل بما يسمونه الثقة المبالغ فيها بالنفس والتي تقترب من درجة النرجسية بالذات وصولا الى الايمان المطلق بعلو النفس ورقيها عن الاخرين ما يخلق حالة من الفراغ الاجتماعي بين الشخص المعني ومحيطه البشري .
ان هذا الفراغ القادم من الشعور بالعلو الذاتي عن الاخرين سيكون مهما طال الزمان رصاصة الرحمة على الشخص المصاب به ، كونه سيخلق جدارا بينه وبين كل ما من شأنه تقديم سبل المساعدة لتحقيق غاياته .
ان حالة الانعزال التي سيعيشها الشخص المصاب بهذا الشعور ستولد حتما نتائج سلبية وخطيرة في الوقت ذاته على الانسان من بينها خلق حالة من العدائية والكراهية تجاه كل من يراه ذلك الشخص بأنه يمثل خطرا على طموحاته واهدافه بل ربما يذهب احيانا الى ابعد من ذلك من خلال شنه حربا على ذلك المنافس ومحاولة تدميره مهما كلف ذلك من تضحيات في الجوانب الاخلاقية او القيمية التي تعد اساسا للصلاح الانساني ، عندها يصل ذلك الفرد الى درجة كبيرة من الشر يصعب عندها الاستمرار في الاندماج المجتمعي الذي من شروطه التكامل الانساني والسلوك الجمعي في الوصول الى النتائج المطلوبة اجتماعيا وشخصيا .
المختصون صنفوا هذا الشعور باحدى حالات المرض النفسي السيكولوجي بينما ذهب اخرون الى تصنيفها ضمن امراض ما وراء علم النفس الباراسيكولوجي كونها نابعة من تصورات العقل الباطن الناتجة من ايمان مطلق بقضية غير حقيقية ، وما بين هذا التصنيف او ذاك نترك المحددات لاصحابها لنواصل رسائلنا ضمن اختصاصاتنا .
ان محاربة هذا الشعور ذاتيا يمكن للانسان خوضها والانتصار فيها من خلال جملة من التصرفات الانسانية اللازمة التي ستجنبه الوصول الى تلك الدرجة وتخلق لديه حالة من المناعة الذاتية لهذا الشعور الذي شخصناه كاحدى الحالات المرضية سالفة الذكر .
التصرفات التي تحدثنا عنها والتي نراها ضرورية لانتصار اي منا على هذا المرض تكمن ، في عدم جعل الغرور يتسرب الى دواخلنا مهما بلغ كبر نجاحنا في اي من اعمالنا او سعينا للتطور بقضية ما ، بل تربية الذات العليا على تقبل فكرة ان للنجاح والتألق والابداع في قضية معينة ما كان له ليكون لولا اسباب وعوامل عدة ساهمت في بلوغنا اياه وان تلك العوامل لن تكون تحت اي ظرف ذاتية بالمطلق انما يتخللها أناس اخرون وان الخبرات او العلوم المكتسبة لدينا لم تنزل من السماء ، انما كانت نتاج جهد بشري اوصلها الينا ثم قمنا بتطويره والنجاح في التعامل معه كما قام المبدعون السابقون والحاليون ممن اعطونا مفاتيح المعرفة او الخبرة اللازمة لبلوغ المبتغى .
ليس الغرور ومحاربته فحسب بل ان هناك اساليب اخرى تضمن لنا تحصين ذاتنا منها تدريب النفس على التواضع والجود اللذين يضمنان لنا بناء نفس زكية وذات راقية لا يمكن من خلالهما الولوج للمشاعر الدخيلة التي لم يجعلها الباري جل وعلا من الصفات الذاتية انما من الصفات الدخيلة ، وان الدخيل دائما ما يكون اضعف شأنا من الاصيل ، فضلا عن اساليب اخرى دفاعية من الممكن تعزيزها تتعلق بالمبادئ الانسانية التي كانت اساسا لرقي الانسان عبر العصور ، ومما تقدم نستخلص نتيجة واحدة وهي أن تعزيز اصالة الصفات الانسانية يعد المبدأ الاساس لما تطرقنا اليه سلفا يصاحب ذلك نبذ تام للصفات الدخيلة التي تشوه المعنى الراقي للانسان والذي لو تمسكنا به لارتقينا ربما الى مصاف ودرجات لم نكن نحن انفسنا نتوقعها يوما ، وان الرقي والعلو لم يكن يوما بتفضيل الذات على الاخرين بل في النجاح والابداع والتميز ..