18 ديسمبر، 2024 8:51 م

مما لا شك فيه ان اللاهوت يجري مجرى الدم منا في ثقافتنا العربية، في تكوين كينونتنا ووجداننا وشخصيتنا، ماضياً وحاضراً، وهذا الأمر ربما يحلو للكثيرين ويصفقون له ويمتدحونه ويطربون له، ولكنه لا يحلو لفريق آخر، ينتهج منهجاً علمياً وواقعياً وعقلياً في معالجة الأمور والموضوعات، ويعد مجال اللاهوت مجالاً غيبياً روحياً لا علاقة له بالعلم والواقع، ولا نستطيع التحقق من الأمور الغيبية ما دامت هي تعبر عن ذات الشخص وفرديته وتجربته الروحية الذاتية ـ بلغة الصوفية ـ ومن الواضح أن الصراع والاختلاف واضح وكبير وقديم ومزمن بين الفريقين، الفريق المؤيد والفريق الرافض لأثر الغيب في حياة الانسان وحركته ووجوده، وليس هذا الأمر فحسب مما أدى لصراع الفريقين وإنما قضية أخرى شغلت أصحاب الفريق الثاني الرافض لفكر الفريق الأول وهي قضية القداسة التي يمنحها المؤمن باللاهوت والغيب لكثير من الأشياء والموضوعات دون اعطاء قيمة لعقله وفكره في تحليل ودراسة ومعرفة الأمور الدينية ومناقشتها مناقشة علمية قد تطيح عملية التحليل والنقد هذه ببعض الافكار المؤمن بها ذلك الشخص وقد تؤدي الى انهيار ايمانه او تصويبه بما لا يتوافق مع ادبيات دينه او أيديولوجيته التي أمن بها سلفاً بالتقليد دون معرفة أو تمحيص أفكاره التي ورثها أباً عن جد، كما صرح القرآن بذلك ” بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَاعَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ” فكثير من الناس يسيرون خلف عواطفهم في مسائل الدين والأيديولوجيا دون اعمال العقل والتحرر من ربقة التقليد الأعمى الذي يقتفون أثره، مما ينتج مجتمعاً تقليدياً ساكناً غير متحرك وغير منتج ويدور في حلقة مفرغة دائماً ولا يُقدم جديداً أبداً كما تقدمه المجتمعات المفتوحة والمتحركة والمتحررة من اللاهوت الأعمى الذي يقيد الناس ويمسخهم الى الأبد.

هذه المشكلة التي نثيرها في هذا المقال لا تخص المجتمع العربي والاسلامي فقط بل تخص مجتمعات وشعوب الأرض قاطبة، فلكل مجتمع وشعب وجماعة لاهوتها الخاص بها الذي تدين به ويؤثر على رسم خارطة ثقافتها وحياتها برمتها، بل أكاد أجزم انه لا يمكن للشعوب والأمم أن تتحرر بالكامل من اللاهوت، لأنها مولعة بالتقديس والانهماك في الميتافيزيقا وبحر الغيب، ولكن هناك فرق بين هذه المجتمعات من حيث نسبة سيطرة حجم هذا اللاهوت على حركتها ومسارها وفكرها وثقافتها وواقعها، كما أن هناك من يحرك جماعة ما نحو لاهوته الخاص به الذي يصنعه لنفسه ولتحقيق نفع شخصي لمصلحته الخاصة التي تعم عليه بالفائدة والمال والجاه والسلطة، وهناك من يصنع لاهوتاً ليصارع به لاهوت آخر، يغلبه أو يصرعه أو ينتقم به من جماعة ما، واذا بالموضوع يصبح صراع اللاهوات بين الشعوب والمجتمعات، والذي نشهد حدته وتفوقه وعظمته بقوة في وقتنا الحاضر، بسبب العولمة والمعلوماتية وصراع الثقافات في ظل النظام العالمي الجديد، وانتشار ثقافة الصراع والصدام بين الامم اليوم أكثر من أي وقت مضى.

لقد سار تاريخ الفكر البشري في ثقافته على اقتفاء أثر اللاهوت بمختلف اشكاله والوانه، وذلك لتحقيق الطمأنينة النفسية للإنسان من جانب ولإغواء رجال اللاهوت عامة الناس من جانب آخر، في بيان أثر اللاهوت على حياتهم ووجودهم والسير على نهجهم الذي اختطوهلهم، ولذلك نرى تاريخ المجتمعات البشرية قد ضج بآلاف المعتقدات والاديان والأيديولوجياتوالأفكار التي تدين بها تلك المجتمعات على هذه الأرض، من سماوية الى وضعية، سواء كانت توحيدية أو وثنية، مثالية أو مادية، المهم انها تدين وتؤمن بلاهوت خاص بها تتبعه لتحقيق طمأنة وغاية ما في قلب ووجدان الشخص المؤمن.

بالتأكيد أن هذا الموضوع قد أثار عقول وأقلام كبار المفكرين والعلماء والفلاسفة، بمختلف التخصصات العلمية والفكرية، سواء في علم النفس أو علم الاجتماع أو الأنثروبولوجيا أو فلسفة الدين وغيرها، وهذا يدل على أهمية الموضوع وكثرة انتشاره بين الناس والمجتمعات البشرية قديماً وحديثاً، وقد أختلف الآراء وتنوعت الإجابات حول ضرورة اللاهوت وأهميته باختلاف الافكار والمعتقدات والتوجهات الفكرية والفلسفية والايديولوجية، وكل يقدم حججه وأدلته وبراهينه الساندة لما يقدمه من فكر وطروحات، ولكن تبقى الفكرة الأهم من هذا الموضوع والذي سلط البعض فكره لهذا الغرض هو مسألة القداسة والتقديس التي تلحق بلاهوت أي جماعة، فأننا لا نستطيع المساس بلاهوت جماعة ما أو النيل منه أو نقده ودراسته دراسة موضوعية، وبالتأكيد كل معتقد ومؤمن يتبع مرجعياته الدينية والاعتقادية واللاهوتية الخاصة به والتي يعتقد بكمالها وتمامها وينتقم من كل شخص يحاول النيل من معتقده ولاهوته، وبالتالي تعد عملية النقد صعبة على المفكرين والكتاب، لأن العامة تعتقد بصحة ما تسير عليه من أفكار مهما قدمت من حجج وآراء في دحض ما تعتقد هذا من جهة، ومن جهة أخرى فأن المتنفذين والمتسلطين والمنتفعين من سيادة معتقد ما يجعلون أنفسهم أوصياء ومراجع لتلك المعتقدات فينتصرون لها ويهيجون العامة للدفاع عن مصالحهم ومكاسبهم الشخصية من جراء ذلك الايمان المزيف الذي يسيرون عليه، وبالتالي فأن المفكرين والدارسين أمام صعوبة نقد ودراسة تلك الافكار اللاهوتية دراسة نقدية وتحليلية جريئة وموضوعية، وقد تعرض الكثير من هؤلاء المفكرين في مجال نقد الاديان والمعتقدات واللاهوت الى المحاربة والسجن والقمع من قبل محاكم التفتيش في السلطتين الدينية والسياسية، وقد تم الانتقام من كل شخص يحاول الايمان بالنقد ويتمرد على السلطة الرسمية للدين والدولة، ووصفه بالإلحاد والخروج على الدين، كونه يمس معتقدات الناس بالنقد وهو يحرض العامة على ولي الأمر تارة وعلى ما نشأوا عليه وتربوا تارة أخرى. وهذا ما جعل تاريخ البشرية يضج بالتعصب والعنف والحروب للافكار والمعتقدات وعدم اعتماد الحوار والنقاش والنقد البناء في عملية التثاقف والتعايش بين الناس.

استطاع الغرب منذ عصر النهضة من خلال الثورة على الكنيسة تهذيب اللاهوت لدى الناس ونقده بأدوات عقلية وفلسفية، وقد أنتصر هؤلاء المفكرين والادباء والمصلحين النهضويين للعقل والفكر الحر، والتحرر من سطوة وسلطة رجال الدين الذين قيدوا العقل بقيودهم الشخصية ومعتقداتهم الزائفة، ومنذ ذلك الحين انفجرت أوربا وأحدثت ثوراتكبرى في مجال العلم والمعرفة والصناعة والتكنلوجيا، وقد تمخضت هذه النهضة بزعزعة الافكار الكبرى ونقدها وتقديم بديل علمي عقلاني واقعي يخلص البشر من هيمنة تلك الافكار والميتافيزيقيات والايديولوجيات المحركة للناس والتاريخ، فنجح فرنسيس بيكون في انتصاره للمذهب التجريبي في مقابل المذهب المثالي السائد، وثار كوبرنيكوس وغاليلوعلى علم الفلك القديم بالانتصار لمركزية الشمس على فكرة مركزة الأرض التي انتشرتتحت تأثير ديني غير علمي، وقدم دارون نظريته في التطور ليدحض بها الأفكار القديمة حول نشأة الانسان وخلقه، وتقديم نظرية جديدة حول الخلية وعلم الوراثة، الذي كان فتحاً علمياً كبيراً ينتصر للعلم على اللاهوت، وثورة نيتشة على الميتافيزيقا وأخلاق العبيد ممن يقعون فريسة رجال الدين الذين يستأثرون الخير والأموال والمتع لصالحهم الخاص تحت ذريعة الافكار الدينية وتنفيذ وصايا الرب على الأرض.

مثل هؤلاء الفلاسفة السابقين في اوربا برز مفكرين عرب ومسلمين حاولوا تخليص ثقافتنا ووعينا من الكثير من تلك الافكار التي علقت برؤوسنا وواقعنا لسنوات طوال ممن أنتصرتللاهوت على العقل، والتي أنتشر بيننا بصورة كبيرة بسبب هيمنة الفكر الديني على واقعنا وعدم اعطاء الفرصة للإنسان للانتصار لعقله وبيان مقدرته في معالجة الأمور الفكرية والحياتية، فهيمنت قناعات الفقهاء وسلطتهم على الناس ومنحوا الشرعية والقدسية لأنفسهم كونهم يمثلون الفكر الشرعي وعلومه، والنيل من كل مفكر أو فكر عقلاني نقدي يحاول توعية الناس من تلك الافكار المثالية التي تخدرهم تحت سحر البيان والخطابة والبلاغة بعيداً عن منطق العقل والواقع والعلم.

وقد برز مجموعة كبيرة من المفكرين والدارسين بمشاريع فكرية نقدية كبيرة تحاول نقد الثقافة العربية والاسلامية وتخليصها من مهيمنات الفكر وتحرره من كثير من الافكار المثالية والخطابات التعبوية الفارغة، ومن هؤلاء المفكرين علي الوردي وعلي شريعتي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وعلي حرب ونصر حامد أبو زيد وجورج طرابيشيوعبد الكريم سروش، وغيرهم ممن حاول الانتصار للعقل والايمان بقيمة الانسان، وتوعية الناس وتحذيرهم من الخطابات الفكرية والفلسفية المثالية المجردة التي تجعلهم يسيحون ويسبحون في عوالم بعيدة عن الواقع، ولذلك وقف الكثير بالضد من مشاريع هؤلاء المفكرينوتم تسليط سهام الطعن والتشويه والعنف على مشاريعهم الفكرية وكتاباتهم، وتم تجنيد جيش من الكتاب والاقلام للنيل من تلك الافكار النقدية الواعية، بدعوى أنهم يريدون النيل من الدين الاسلامي ومعتقداته، وتهييج الجماهير للدفاع عن معتقداتهم ومقدساتهم، وتحول الأمر الى حرب كلامية وجدال بيزنطي عقيم يكون الانتصار فيه للغة العنف والتعصب والدم بدل الانتصار للكلمة والحكمة والحوار العقلاني المتزن.

ان ثقافتنا ثقافة عاطفية تم بناؤها على أسس لا عقلانية، وتتحكم بها اجندات وأيديولوجيات متعددة تُثور ذلك الحس العاطفي وتخمد صوت العقل والحكمة والمعرفة فيه، ومحاولة توعية الناس على الخطاب العقلاني الواعي هي محاولة عصية وصعبة، لأن الناس تربوا ونشأوا  على افكار وميتافيزيقات كبرى غذت عقولهم وجن ثمارها ممن ينتفع من جهلهم ويسوقهم الى اللاهوت وأفكار الغيب للنيل منهم وتحقيق استحمارهم وجهلهم بصورة مستمرة لا تعرف النور ابداً.

لا أدعو هنا للنيل من اللاهوت واسقاطه وتسقيطه وانما للحد من سلطته وسطوته وتهذيب صوته ومنطقه، ومعرفة مناطق عمله، وعدم جعله المسير العام والمركزي لحياتنا طولاً وعرضاً، ومعرفة الخط الفاصل بين خطي اللاهوت والناسوت، وأن نؤنسن حياتنا كبشر بدلاً عن تأليهها، فمسألة أن يكون الانسان متألهاً مسالة تنال من طبيعة البشر وليس تعلي من شأنه، فالانسان انساناً بطبيعته البشرية وليس بطبيعته الالهية التي يسعى الوصول لها، وهي غاية شريفة جداً يتمنى الانسان الوصول لها ولكنها مستحيلة تماماً، لأن صفات الاله تليق به وليس بغيره.

الذي أريد قوله بخلاصة هنا هو سيطرة النزعة اللاهوتية على طبيعة خطابنا الثقافي والفكري والمعرفي وهيمنته على كافة المجالات، وثقافة اللاهوت هي الثقافة الرائجة بين الناس، وكل محاولة فكرية نقدية جادة توجه لنقد تلك النزعة تواجه بالرد من قبل العامة ومن قبل طبقات متنفذة مستفيدة من سيادة تلك النزعة، مدعين أن نزعة اللاهوت هي تعبير حي عن روح الدين وعن طبيعة المجتمع الاسلامي المؤمن بالغيب والسماء، وهذا ما يجعل الجماهير تسير في قافلة المحافظين ونبذ صوت التجديد والانسنة والتنوير، غافلين تماماً من أن خطاب اللاهوت يستغل العقول والنفوس الطيبة البسيطة لتمرير مشاريعهم الشخصية تحت ذريعة الحفاظ على المقدسات والدين وايمان الناس، وكلها ذرائع زائفة ينجح اصحابها في تكبيل عقول العامة ومحاربة مشاريع التجديد والتنوير التي ظهرت على الساحة الثقافية العربية والاسلامية، ممن تريد خروج الناس من الظلمات الى النور.ولكن من المؤسف أن نكون مكبلين بيد المتشددين والمحافظين وأن نكون أدوات بيد هؤلاء وأن نكون جنود أوفياء لخدمتهم ولتحطيم عقولنا والغاء دورنا ومسخ وجودنا بالكامل من جراء تلك الأفكار.