عندما نتحدث عن الجندية والقيادة العسكرية فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو الانضباط والشجاعة والالتزام لكن الصورة الأعمق التي تغيب أحياناً عن الأذهان هي أن الضابط لا يُصنع فقط في ميادين التدريب ولا في ساحات القتال بل يُصنع أيضاً في أروقة الفكر وبين رفوف الكتب وصفحات الجرائد وبين أسطر المجلات والدراسات المتخصصة والعامة فالثقافة ليست ترفاً بالنسبة للضابط وإنما ضرورة توازي حمل السلاح في مراجعة سريعة لتاريخ بعض القادة العسكريين الذين ساهموا في صياغة ملامح العصر الحديث نجد أن السمة المشتركة بينهم لم تكن فقط الحنكة العسكرية أو حسن القيادة بل كانت القدرة على استثمار الوقت والاهتمام بالمعرفة فقد كانوا يملكون مكتبات شخصية غنية ومتنوعة يقرؤون باستمرار ويتابعون الصحف والمجلات يومياً قبل البدء بمهامهم الرسمية ويتفاعلون مع ما يُكتب في مختلف المجالات سواء كانت عسكرية أو أدبية أو سياسية أو فكرية لم يكن القائد العسكري في الماضي يكتفي بلقب ورتبة بل كان يطمح أن يكون رجل فكر وفهم وقدرة على التحليل ولهذا كنا نرى ضباطاً متميزين في ميادين الأدب والشعر والرواية رغم القيود التي تفرضها القوانين العسكرية على انخراطهم في الاتحادات الثقافية الرسمية كان شارع المتنبي مسرحاً لتنافسهم الهادئ على اقتناء الكتب الجديدة وكان كل منهم يقدم خلاصة معرفية لما قرأه في جلسات تبادل ثقافي أشبه بندوات مصغرة داخل وحداتهم وكانت أيام الخميس من كل أسبوع مناسبة لتعزيز هذا الدور الثقافي حيث تُقام المحاضرات داخل الوحدات بإلقاء أحد الضباط عرضاً فكرياً أو عسكرياً تتم مناقشته لاحقاً بين الزملاء فتغدو الوحدة العسكرية مركزاً للوعي لا ثكنة صامتة هذا التراكم من الممارسات أنتج جيلاً من الضباط يملكون مزيجاً متماسكاً من الثقافة العامة والاختصاص الدقيق أما اليوم فإن المشهد يبدو مختلفاً إذ نلاحظ تراجعاً مؤسفاً في مستوى الوعي الثقافي والمعرفي لدى عدد كبير من الضباط الجدد ويعود ذلك إلى غياب المبادرات المؤسسية التي كانت تشجع على القراءة والمطالعة كما أن انشغال الضابط بأعباء الميدان وتراجع قيمة المعرفة في بعض البيئات جعلا من الثقافة أمراً هامشياً رغم أنها صمام الأمان للقرار العسكري الرصين
هذا الواقع يتطلب جهداً جماعياً يبدأ من داخل المؤسسة العسكرية وأهم ما يمكن فعله هو إعادة إحياء فكرة الضابط القارئ الضابط المفكر لا عبر التوجيهات فقط بل من خلال خلق بيئة مشجعة تبدأ بتزويد الوحدات بمكتبات نوعية وتوفير وقت محدد للمطالعة وإقامة ندوات دورية ومناقشات فكرية وإشراك الضباط في البرامج الثقافية والتعليمية بشكل مباشر وفاعل
ومن بين أهم المتطلبات أيضاً هو إتقان اللغة الإنجليزية التي باتت اليوم أداة أساسية في العمل العسكري المشترك مع قوات أجنبية أو في متابعة التطورات التكنولوجية العسكرية التي تُنشر غالباً بلغة غير العربية ورغم محاولات سابقة في هذا الاتجاه إلا أن النتائج لم تكن بالمستوى المطلوب مما يفرض ضرورة مراجعة تلك التجربة وتصحيح مسارها
ولا يمكن تجاهل ضعف البنية التعليمية التخصصية في الكليات والمعاهد العسكرية فغياب التقنيات الحديثة وتواضع بعض المناهج إضافة إلى إلغاء أو تأجيل الدورات الحتمية والتطويرية كلها عوامل ساهمت في إضعاف الجانب التخصصي لدى الضباط وهذا يدعو إلى ضرورة إعادة الاعتبار لتلك الدورات وجعلها جزءاً لا يتجزأ من المسار المهني لأي ضابط سواء أكان في بداية خدمته أو في مراحله المتقدمة من هنا تبرز أهمية إعادة تفعيل مديرية التطوير القتالي وربطها بمجموعة من الضباط الأكفاء من أصحاب التجربة والتعليم الأكاديمي للاستفادة من خبراتهم في تطوير المناهج وتقييم الأداء وبناء جيل عسكري قادر على الجمع بين البراعة الميدانية والنضج المعرفي ولا بد أن يشمل التكوين العسكري أيضاً مهارات أساسية كفن الخطابة والإلقاء ومهارات التواصل مع المجتمع والتعامل مع التحولات الاجتماعية والسياسية المتسارعة خصوصاً أن العراق يعيش مرحلة ديمقراطية تتطلب من الضابط أن يكون جزءاً من المجتمع لا مجرد مراقب له فالمؤسسة العسكرية اليوم ليست معزولة عن الشارع وإنما جزء من نبضه إن بناء ضابط مثقف لا يعني إنتاج نُخبة مغلقة بل يعني تأسيس منظومة عسكرية أكثر مرونة وأعلى كفاءة وقادرة على استيعاب المتغيرات بروح واعية وتحليل عميق وهكذا تكون الثقافة ركيزة في الأمن لا عبئاً عليه.